الحاجة الـمُلِحّة إلى السلام

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
د. حافظ قاسم القطيبي
September 19, 2023

الحاجة الـمُلِحّة إلى السلام

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
د. حافظ قاسم القطيبي
September 19, 2023
الصورة لـ: علي السنيدار

هل كلما تقدم العالم صناعيًّا وفكريًّا زادَ وحشية وتفننًا في أساليب الحرب وآلات القتل؟ هل ستغدو اختراعات البشر جناية على الإنسانية؟ هل تطغى دعوات الحرب على دعوات السلام في عالمنا اليوم؟!

لقد برزت لي هذه التساؤلات وأنا أطالع قصيدة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى، في الإشادة بالسلام وذم الحرب، وتأملتُ في واقعنا اليوم الذي يضج بالحروب والنزاعات.

عندما نقرأ الشعر القديم فإننا نكتشف طبيعة التفكير الجماعي وكيفية إدراك القدماء للعلاقات الاجتماعية ولقضايا الحياة العامة، فمعلقة الشاعر زهير بن أبي سُلمى تكشف لنا رؤية الشاعر وموقفه من قضية مهمة؛ وهي قضية الحرب والسلام، في مجتمع ما قبل الدولة.  فالشاعر زهير بن أبي سلمى هو أحد شعراء المعلقات،كان مشهورًا برزانته وحبه للسلام، عاش في فترة الحروب التي نشبت بين عبس وذبيان، بما عُرف في التاريخ باسم (حرب داحس والغبراء) التي استمرت أربعين سنة، فقد كثُرَ فيها القتلى، وطال أمدها، وكادت تقضي على الحرث والنسل، ونظرًا لويلات الحرب وأوجاعها وآلامها؛ انبرى رجلان حكيمان بالمبادرة والسعي للصلح بين القبيلتين ووقف الحرب وإحلال السلام، وهما: هرم بن سنان والحارث بن عوف، فقد حقنا الدماء ودفعا الديات من مالهما، وقيل إنها بلغت ثلاثة آلاف بعير.

لقد حركت هذه الأفعال الإنسانية الجبارة قريحة الشاعر زهير فمدحهما وأشاد بصنيعهما، ونوّه بدورهما، فقد استطاعا إيقاف الحرب وعَقْد الصلح ودفع ديات القتلى من مالهما، يقول في مدحهما:

يَمينًا لَنِعْمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما   عَلَى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبْرَمِ

تَدارَكتُما عَبسًا وَذُبيانَ بَعدَما      تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ

وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِّلمَ واسِعًا   بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَمِ

فَأَصبَحتُما مِنها عَلى خَيرِ مَوطِنٍ     بَعيدَينِ فيها مِن عُقوقٍ وَمَأثَمِ

عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ هُدِيتُما    وَمَن يَستَبِح كَنزًا مِنَ المَجدِ يَعظُمِ

وبعد ذلك، حذر الشاعر زهير من شر الخيانة والغدر ونقض العهود، ووصف الحرب بصور بشعة مخيفة قبيحة، وذلك للتحذير منها، بعد أن خبرها وعايشها وتأمل في آثارها المدمرة وما خلفت من ويلات، يقول:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ    وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

إنه يسعى للإقناع بخطورة الحرب، فيوظف حجج الوقائع والحقائق، فليست الحرب إلا ما عهدتموها وجربتموها، وذقتم طعم مرارتها، فهذه حقيقة استخلصها الشاعر من وقائع الحرب الطويلة التي عايشها مع الناس، وليس حديثه عنها بحديث ظن أو مبني على الشك. 

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً      وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ

إنكم إذا أوقدتم نار الحرب ذممتم ومتى أثرتموها ثارت ومتى هيجتموها هاجت، ويوظف هنا حجاجية الاستعارة للإقناع، فقد شبه الحرب بالنار المشتعلة لا تبقي ولا تذر؛ للتحذير من خطورة إشعالها. إنه يحثهم على التمسك بالصلح ويعلمهم سوء عاقبة إيقاد نار الحرب.

فَتَعرُككُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها     وَتَلقَح كِشافًا ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ

فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم     كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ

فتطحنكم كطحن الرحى للحَبّ مع ثفاله، وثفال الرحى هو الجلد الذي يوضع تحت الرحى لينزل الطحين عليه، وتلقح مرتين كالناقة الشوهاء وتحمل توْءَمين، كناية عن تكاثر الشرور، فهي تولّد لكم عن ذلك أبناء شؤم، كل واحد منهم يضاهي في الشؤم قدار بن سالف، عاقر الناقة، وأحمر لقبه، ثم ترضعهم الحرب وتفطمهم، أي تكون ولادتهم ونشوؤهم في الحروب فيصبحون مشائيم على آبائهم.

إن الشاعر يعتمد على الحجاج بالسبب والأثر للتحذير من الحرب وويلاتها وأضرارها وما تجره من الخراب والدمار على الإنسان والحيوان ومظاهر الحياة عامة.

لقد امتلك المصلحان حسًّا إنسانيًّا عاليًا في السعي لإحلال السلام ووقف الحرب وتمتّعا بشيم الكرم والبذل والنبل والشهامة، ما جعلهما يبادران ويقدمان الغالي والنفيس في سبيل عقد الصلح وإفشاء السلام. إن روح المبادرة والتضحية والشعور بالمسؤولية والبذل والعطاء كانت شيمًا حميدة يتمتع بها الكثير من الأفراد في العصر الجاهلي على ما فيه من نزق وطيش، لكن تبقى خصال الخير والشمائل موجودة في المجتمع، ويبدو أننا اليوم في زمننا نكاد نفقد هذا الحس الإنساني وهذه الشمائل الحميدة، إذ طغت الأنانية وشهوة التنافس والطمع والجشع، فلا نجد مبادرات عظيمة تحقن الدماء وتفشي السلام وتحث على الخير والرحمة. 

إنّ الروح الإنسانية التي بين جوانح الشاعر قد دفعته إلى مدح المصلحين (هرم والحارث) والإشادة بهما وتخليدهما، فهو الشاعر الذي لا يمدح الرجل إلا بما فيه، وهذا الإعجاب بأفعال السيدين الكريمين، جعل الشاعر في آخر القصيدة يستخلص حكمة بليغة تعبر عن أهمية المسؤولية الاجتماعية التي يجب أن يتحلى بها الأثرياء وكل صاحب مركز اجتماعي، يقول: 

وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ   عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ

فهو يحثّ الأغنياء في المجتمع على البذل والعطاء في خدمة المجتمع وحل مشكلاته، فذاك واجب أخلاقي ومسؤولية اجتماعية، ومن يبخل أو يتردد في ذلك أضاع وفقدَ قيمته ودوره في المجتمع. وزهير بن أبي سلمى شاعر الحكمة وفي شعره يتجه إلى مخاطبة العقل الجماعي ومنزعه التأملي باستعمال المقدمات الخطابية الحكمية، فهذا الشعر، كما يذهب الدكتور صالح بن رمضان، "لا يرمي إلى التأثير الوجداني أو التعجيب والتطريب والإمتاع الفني، بل يهدف أساسًا إلى الإسهام في تنظيم الحياة العامة والخاصة وفي ترويض الطبائع وتأصيل الاجتماع البشري".

لقد كان للحرب تداعياتها الكثيرة، فقد تفشت في المجتمع الكثير من السلوكيات التي هي أقرب إلى التوحش كالجشع والطمع والعنف والقتل والرعب وتفكيك الروابط الاجتماعية، والتهالك على الماديات والثراء السريع، وتدهور الوضع المعيشي بصورة فظيعة، وتدهور العملة وارتفاع الأسعار، وانعدام الخدمات.

لقد شهد المجتمع العربي تحولات كبيرة بظهور الإسلام، وظهور الدولة وتطور مفهومها وأساليبها في العصر الحديث، وحصل في العالم تقدم علمي وحضاري كبير، وتأسست كثير من المجتمعات على العقد الاجتماعي والعيش المشترك والتشارك على وفق أسس المواطنة والعدالة والقانون واللجوء في حل النزاعات إلى الحوار والتفاهم، ومع هذا التراكم الحضاري والصناعي والفكري وتطور النظرية السياسية ما زلنا نرى أن تسوية النزاعات يتم عبر الحرب والعنف بأساليب أكثر وحشية وقذارة في كثير من بقاع المعمورة، وما شهده عالمنا العربي بعد ما يسمى بالربيع العربي من حروب وصراعات ونزاعات وانهيار الدولة خير مثال.

ولعلنا نتأمل حالنا في اليمن، إذ نشهد حربًا شعواء مستمرة منذ ثماني سنوات، وقد طالت الحرب وسبّبت الكثير من الأضرار في إزهاق الأرواح وانتشار الفقر والرعب والعنف والفساد.

لقد كان للحرب تداعياتها الكثيرة، فقد تفشت في المجتمع الكثير من السلوكيات التي هي أقرب إلى التوحش كالجشع والطمع والعنف والقتل والرعب وتفكيك الروابط الاجتماعية، والتهالك على الماديات والثراء السريع، وتدهور الوضع المعيشي بصورة فظيعة، وتدهور العملة وارتفاع الأسعار، وانعدام الخدمات؛ فهذه عدن والمناطق المجاورة تعيش في صيف ملتهب، في ظل الانقطاع المستمر للكهرباء، وغدت الناس تبحث عن قطعة ثلج، وقد تدهور التعليم والوضع الصحي، وفشا الفقر في الطبقة الوسطى بصورة مريعة، واتسعت الهوة بين فئات المجتمع، لقد انهارت مؤسسات الدولة وانعدمت الرقابة على استيراد السلع بكافة أشكالها.

لقد قدم الدكتور سمير الشميري وصفًا دقيقًا لسوسيولوجيا الحياة اليومية والمكابدات الحياتية والروحية التي يعنيها الناس منذ بداية الحرب في كتابه: "مجتمع كسيح ونخب متوحشة". فقد وصف المجتمع الذي نعيش فيه في هذا الظرف بالمجتمع الكسيح، وهو يصفه بمجتمع يتسم بالعجز المزمن وكثرة العفن والمرض، إنه مجتمع بلا دولة ولا مؤسسات وبلا وعي ولا قيادة، ولا أفق فيه للعقل والعلم والمعرفة والثقافة والعمارة، يعيش في دوامة من الاحترابات والاضطرابات...، ونخب المجتمع الكسيح نخبٌ جديدة تحمل شحنة فريدة من الجشع والفساد والفوضى ولذة وحشية في الإثراء والهيمنة، وغارقة في أنانية عقيمة بعقلية خفيفة بلا وعي، لقد انهارت منظومة القيم والأخلاق، فقد تم تحويل رجالات العلم والثقافة والتربية وصُنّاع المثُل والأخلاق إلى فقراء ومستضعفين، وتم تحقير أدوارهم  العلمية والثقافية والتربوية. لقد أسهم الكثير من الناس في سلوكيات غير حضارية وغير قانونية وغير متوائمة مع الذوق العام، من مثل: البناء العشوائي والبسط على الشوارع والمتنفسات والأماكن العامة، وطفح مجاري الصرف الصحي، وتراكم القمامة والمخلفات في الشوارع وقرب منازل المواطنين...، لقد تلوث الهواء فلم يجد الناس هواء نقيًّا".

لقد سببت الحرب كل هذه النكبات والفظائع، وقد كان محقًّا المفكر علي حرب عندما قال في ثمانينيات القرن العشرين -وينطبق القول أكثر على واقعنا اليوم- يقول: "وإنه لمن تعاسة الحظ بالنسبة إلى أي طرفين (شعبين، جماعتين، دولتين) أن يقتتلا هذه الأيام، إذ إن الحرب ستطول بينهما وسيذوقان الأمرين إلى أن تستنفد وتستهلك طاقتهما... فما حرب تجري اليوم في الداخل، إلا وهي وجه لحرب تفرض أو تضبط بواسطة أو بغير واسطة، وما من نزاع إلا ويتغذى أو يصب في دائرة أكبر وأوسع. وهكذا لم يعد منطق الداخل يحكم النزاعات الإقليمية والحروب المحلية، ثمة منطق أعظم يفرض نفسه ويحكم اللعبة المحلية وفقًا لقواعده. إنه ما يسمى لعبة الأمم ونظام الاستقطاب وتوازن الرعب. أفلا يعني ذلك أن زمن الحروب الأهلية قد بلغ نهايته؟ وأنه أن الأوان لبلورة آفاق جديدة للتغيير؟".  

ولعلي هنا أعيد السؤال: هل آن الأوان لهذه الحرب أن تتوقف؟ أين نحن من مبادرات السلام ورجال مثل هرم والحارث؟! 

إننا بحاجة ماسة إلى السلام وإيقاف الحرب، ووضع حلول عاجلة للتدهور المعيشي للناس، وتوفير الخدمات، وتأسيس توافق يجسد التنوع في المجتمع من دون إقصاء أو تهميش أو تجاوز للقضايا الحقيقية وعلى رأسها القضية الجنوبية.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English