الإخوان والأردن: القرار الذي تجاوز حدوده

انزياحٍ لإعادة صياغة العلاقةِ بين الدولةِ وتيّاراتِ الإسلامِ السياسيّ
عبدالله البيتي
April 25, 2025

الإخوان والأردن: القرار الذي تجاوز حدوده

انزياحٍ لإعادة صياغة العلاقةِ بين الدولةِ وتيّاراتِ الإسلامِ السياسيّ
عبدالله البيتي
April 25, 2025

في السياسة كما في التاريخ ثمةَ لحظاتٍ مفصليةٍ لا تُقاس بحدّتها المباشرة، بل بقدرتها على الكشف عمّا تحت السطح: تحوّلاتٍ في المزاج العام، وتبدّلاتٍ في خرائط الولاء، وملامحَ نظامٍ إقليميٍّ يعيد ترتيب أوراقه. وقرارُ الأردنِّ الأخيرُ بحظرِ (جماعةِ الإخوانِ المسلمين) لا يشذُّ عن هذه القاعدة؛ فهو ليس مجرّدَ إجراءٍ قانونيٍّ أو تنظيمٍ داخليّ، بل علامةٌ على انزياحٍ إقليميٍّ أوسع تُعاد فيه صياغةُ العلاقةِ بين الدولةِ وتيّاراتِ الإسلامِ السياسيّ، وتُرسَمُ فيه حدودٌ جديدةٌ لمفاهيمِ الشرعيّةِ والاستقرارِ ومصادرِ التهديد.

في عمّان حيث ظلّت الدولةُ لسنواتٍ تمارس سياسة (الاحتواءِ المدروس) بدا أنّ اللحظةَ لم تَعُدْ تسمحُ بمناطقَ رمادية. فالقرارُ لا يُفهَمُ في سياقهِ الأردنيِّ فحسب، بل في ضوءِ معادلةٍ أوسع تضعُ كلَّ الدولِ أمامَ سؤالٍ مركزيٍّ: هل يمكنُ التعايشُ مع جماعاتٍ عابرةٍ للحدودِ في زمنٍ يتعزّزُ فيه منطقُ السيادةِ المطلقة؟

نهايةُ توازنٍ قديم

يمثّل قرارُ السلطاتِ الأردنيةِ الأخير بحظرِ جماعةِ الإخوانِ المسلمين نقطةَ تحوّلٍ لافتةً في المسارِ السياسيِّ للدولة، ليس فقط لكونه يمسُّ تنظيمًا له تاريخٌ طويلٌ في البلاد، بل لأنّه يعكس تغيّرًا في فلسفةِ التعاملِ مع تيّاراتِ الإسلامِ السياسيِّ برمّتها. فعلى خلافِ ما عُرف عن عمّان من حذرٍ ومرونةٍ في إدارةِ خلافاتها مع الجماعة جاء القرارُ هذه المرّةَ واضحًا وحاسمًا كأنّما يقول إنّ حقبةً كاملةً قد طُويت.

ما يلفتُ النظرَ في هذا القرارِ أنّه لم يأتِ من بوّابةِ الأمنِ فقط، بل عبرَ مسارٍ قانونيٍّ متدرّج. فقد لجأت السلطاتُ إلى القضاء وأعادت تعريفَ الوضعِ القانونيِّ للجماعة التي سبق أن تمّ حلُّها في العام 2015، ثم أُعيد تأطيرُ وجودِها بكيانٍ موازٍ أكثرَ توافقًا مع الإطارِ القانونيِّ للدولة.

ولعلّ ما يُضفي على القرارِ الأردنيِّ مزيدًا من الرمزيّةِ هو توقيتُه؛ إذ يأتي في لحظةٍ يتراجعُ فيها وزنُ الإسلامِ السياسيِّ في عمومِ الإقليمِ، ويُعاد فيها تعريفُ مفاهيمَ مثل (الاعتدالِ) و(المقبوليّةِ) وفق معاييرَ جديدةٍ تضعُ الولاءَ للدولةِ في مرتبةٍ أعلى من الانتماءِ الأيديولوجيِّ. 

لقد كان التوازنُ الأردنيُّ القديمُ يقومُ على فكرةٍ أن الجماعةَ مهما بلغ خلافُها مع السلطةِ تظلُّ جزءًا من المعادلةِ الداخليّةِ القابلةِ للإدارةِ. أمّا اليومَ فالمعادلةُ ذاتُها تتبدّلُ: لم يعُدِ الانخراطُ في العملِ السياسيِّ كافيًا، ما لم يَقرَن بإقرارٍ لا لَبْسَ فيه بـ (المرجعيّةِ الحصريّةِ للدولةِ). وهذا ما لم تَعُدْ جماعةُ الإخوانِ -بحُكمِ بُنيتِها الفكريّةِ العابرةِ وارتباطاتِها الخارجيّةِ- قادرةً على تقديمِه.

هذا التحوّلُ لا ينبعُ فقط من معطياتٍ داخلية بل يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بتطوّراتٍ إقليميةٍ تضعُ ضغوطًا على الدولِ لإعادةِ ترتيبِ أولويّاتها الأمنيّة والسياسيّة. وفي هذا السياق يبدو أنّ الدولةَ الأردنيّة باتت ترى أنّ استمرارَ جماعةٍ ذاتِ امتداداتٍ فكريّةٍ وتنظيميّةٍ خارجيّة داخلَ نسيجِها السياسيِّ والاجتماعيِّ لم يَعُدْ خيارًا قابلًا للاستمرار.

القانون فوق السياسة

ما يلفتُ النظرَ في هذا القرارِ أنّه لم يأتِ من بوّابةِ الأمنِ فقط، بل عبرَ مسارٍ قانونيٍّ متدرّج. فقد لجأت السلطاتُ إلى القضاء وأعادت تعريفَ الوضعِ القانونيِّ للجماعة التي سبق أن تمّ حلُّها في العام 2015، ثم أُعيد تأطيرُ وجودِها بكيانٍ موازٍ أكثرَ توافقًا مع الإطارِ القانونيِّ للدولة.

هذا المسارُ القانونيُّ أتاح للدولةِ أن تُقدّمَ قرارَها بصفته خطوةً مؤسسيةً لا ردَّ فعلٍ ظرفيًّا ممّا يجعلُه أكثرَ صلابةً أمام النقدِ المحليِّ والدوليِّ. فهنا لم نكنْ أمام صدامٍ سياسيٍّ مباشر بل أمامَ عمليّةِ (نزعِ شرعيّةٍ) مؤسسيةٍ تمّت عبر القضاء وليس عبر أدواتِ القمع. وقد يكونُ ذلك محاولةً ذكيّةً لصياغةِ (نموذجٍ أردنيٍّ) في التعاملِ مع الجماعاتِ الإسلاميّة؛ نموذجٍ لا يُصادِرُ الحقوق لكنّه يحدّد سقفَ المشروعيّةِ الدستوريّة.

إرثُ الماضي وحساباتُ اليوم

منذ تأسيسِها أواخر عشرينيات القرنِ الماضي تجاوزت جماعةُ الإخوانِ المسلمين الأطرَ القُطرية، فظهرت دومًا كتنظيمٍ ذي امتدادٍ يتخطّى حدودَ الدولة. في الحالةِ الأردنيّة ارتبطت الجماعةُ بمسارٍ طويلٍ من الشدِّ والجذبِ مع النظام، إذ جرى احتواؤُها في فترات وتحجيمُها في أخرى ضمن معادلةٍ دقيقةٍ توازنُ بين الحضورِ الشعبيِّ وضوابطِ الدولة. لكنّ هذا التوازنَ بدأ بالاختلالِ خلال السنواتِ الماضية. إذ لم تَعُدْ الجماعةُ تُقدَّمُ كفاعلٍ اجتماعيٍّ سياسيٍّ فحسب، بل باتت تُربَطُ –في بعض التحليلات– بتقاطعاتٍ إقليميّةٍ تمسُّ أمنَ الدولة، وهو ما وسّع دائرةَ التساؤلِ حول مفهومِ (المعارضةِ الدعويّة) وحدودِ تحوّلِها إلى مشروعٍ سياسيٍّ موازٍ للدولة، وربما متجاوزٍ لها.

الإقليم يعيد رسمَ خرائطِه

لا يمكنُ فصلُ القرارِ الأردنيِّ عن مسارِ إعادةِ الترتيبِ الإقليميِّ الذي بدأ منذ سنوات. الدولُ العربيةُ التي جربت التعددَ الحزبيِّ الدينيِّ بعد العام 2011 أصبحت اليومَ أكثرَ ميلًا لترسيخِ نموذجِ الدولةِ الوطنيةِ الموحدةِ بعد أن تبين أن بعضَ المشاريعِ تحتَ لافتةِ (الإصلاحِ من الداخل) كانت تفتحُ ثغراتٍ في جدرانِ السيادة.

من سوريا إلى مصر ومن الخليج إلى شمالِ أفريقيا تتشكل خريطةٌ سياسيةٌ جديدةٌ تُقصي تدريجيًا الجماعاتِ ذاتَ الطابعِ العابرِ أو التي تحملُ مشروعًا سياسيًا باسمِ الدين. الأردنُ بحكمِ موقعه الجغرافيِّ الهشِّ وحساسيتهِ السياسيةِ وجد نفسه مضطرًّا لإعادةِ التموضعِ، ليس فقط لتأمينِ جبهتهِ الداخليةِ بل أيضًا لمجاراةِ مزاجٍ إقليميٍّ يزدادُ ميلًا نحو الحسمِ مع الإسلامِ السياسيِّ.

الرسالةُ الضمنيّةُ التي بعث بها القرارُ الأردنيُّ لا تخصُّ الداخلَ وحده، بل تصلُ إلى مجملِ الإقليم: أنّ زمنَ الحلولِ الوسطِ قد انقضى، وأنّ الدولةَ الحديثة -كما تتصوّرُها السلطاتُ اليوم- لم تَعُدْ تقبلُ الشراكةَ مع تنظيماتٍ تمتلكُ سرديّاتٍ موازية حتى وإن بدتْ أحيانًا مُنضبطةً أو (مؤدّبةً سياسيًّا).

وفي اليمنِ حيث التداخلُ بين الدينيِّ والسياسيِّ بلغ ذروته، تبرزُ تجربةُ الإخوانِ ممثلةً في (حزبِ الإصلاحِ) كمرآةٍ معقّدةٍ لمسارِ الجماعةِ في بيئةٍ هشةٍ. اليمنُ الذي لم يكن يومًا دولةً مكتملةَ المركزيةِ سمحَ للتنظيماتِ العابرةِ -ومنها الإخوانُ- بالتمددِ في فراغاتِ السلطةِ، لتصبحَ أحيانًا جزءًا منها وأحيانًا تتجاوزُها.

ومع اشتدادِ الحربِ وتداخلِ الأجنداتِ الإقليميةِ وُضِعَ (الإصلاحُ) في اختبارٍ عسيرٍ: هل هو شريكٌ في استعادةِ الدولةِ، أم طرفٌ في صراعٍ على مَن يحكمُها؟ السؤالُ لم يعد محليًا فقط بل جزءًا من معادلةٍ إقليميةٍ حيث ترى بعضُ الأطرافِ أن احتواءَ الجماعةِ لم يعد كافيًا، بل إن استبعادَها أصبح شرطًا لأي تسويةٍ قائمةٍ على سيادةٍ وطنيةٍ غير قابلةٍ للتقاسمِ.

الغرب وتبدّلُ الرهانات

لطالما كان موقفُ القوى الغربيّة من جماعةِ الإخوانِ مُلتبسًا. فبينما اعتُبِرت الجماعةُ لدى بعضِ العواصمِ الغربيّة نموذجًا معتدلًا يمكنُ الرهانُ عليه لدمقرطةِ الشرقِ الأوسط، أظهرت الأحداثُ المتعاقبة بعد العام 2011 أنّ هذا الرهانَ لم يكنْ بلا ثمن. فقد اتّضح أنّ المشروعَ السياسيَّ للجماعة يحملُ طموحاتٍ توسّعيّةً تتعارضُ مع مفاهيمِ الدولةِ الحديثة.

ومع تبدّلِ أولويّاتِ الغرب بعد صعودِ التياراتِ القوميّةِ والانكفاءِ على الداخل بدأت الحساباتُ تتغيّر. لم تَعُدْ واشنطن أو بروكسل ترى في الإخوان (شريكًا) مقبولًا بل (فاعلًا) يجبُ إخضاعُه لشروطِ الدولةِ الوطنيّة، ولعلّ الموقفَ المتفهّمَ من القرارِ الأردنيِّ يعكسُ هذا التحوّل.

صحيحٌ أنّ ما جرى في الأردن لا يحملُ تداعياتٍ مباشرةً على اليمن أو غيرِها من الدولِ البعيدةِ جغرافيًّا، لكنّه يعبّرُ عن نمطٍ جديدٍ في مقاربةِ الدولةِ العربيّةِ لمسألةِ الجماعاتِ الدينيّةِ السياسيّة. فالإخوان بحكمِ بنيتِهم التنظيميّةِ العابرةِ وتاريخِهم الطويل، ليسوا ظاهرةً محليّةً بحتة بل حالةً إقليميّةً تُمتَحنُ فيها الدولُ على قدرتِها في ضبطِ التعدّدِ السياسيّ دون التفريطِ بسيادتِها.

الرسالةُ الضمنيّةُ التي بعث بها القرارُ الأردنيُّ لا تخصُّ الداخلَ وحده، بل تصلُ إلى مجملِ الإقليم: أنّ زمنَ الحلولِ الوسطِ قد انقضى، وأنّ الدولةَ الحديثة -كما تتصوّرُها السلطاتُ اليوم- لم تَعُدْ تقبلُ الشراكةَ مع تنظيماتٍ تمتلكُ سرديّاتٍ موازية حتى وإن بدتْ أحيانًا مُنضبطةً أو (مؤدّبةً سياسيًّا).

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English