وقع ضحية التقاليد المشيخية

عن فنان قدير لا يتذكره أحد
محسن فضل
January 30, 2023

وقع ضحية التقاليد المشيخية

عن فنان قدير لا يتذكره أحد
محسن فضل
January 30, 2023

منصة خيوط

في يمن ما قبل ثورة الـ 26 من سبتمبر/ أيلول 1962م، كان يُنظر إلى الفنان الغنائي نظرة دونية، باعتباره يمتهن مهنة معيبة ووضيعة، تُقلل من قيمة الشخص وتسيء إلى أسرته ومكانتها في المجتمع. 

وقد كان المُغَنّي خلال تلك المرحلة يُعد شخصًا مغامرًا، لأنه بذلك قد وضع نفسه وحياته على المحك، وليس أمامه سوى السجن أو انتظار العقوبة الشديدة أو الطرد من محيطه الأسري والاجتماعي. 

في هذا التقرير، سنتناول قصة فنان غنائي يمني، يعتبر من فناني الجيل القديم، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام والشهرة في الوسط الفني اليمني، مقارنة بآخرين نالوا الشهرة وهم في مستوى فني أقل، على الرغم من حجم المعاناة والظلم الذين نالهما من قبل أسرته وقبيلته على وجه الخصوص.

وكان قد غادر مسقط رأسه، متجنبًا مشاعر الازدراء والكراهية التي وُجهت له من قبل محيطه القبلي، لا يحمل معه سوى مشاعره المرهفة وذائقته الفنية التي أرادوا لها أن توءدَ في مهدها حتى وأن تطلب الأمر القضاء على حياته. 

معاناة مبكرة

في إحدى قرى مديرية العدين، محافظة إب، ولد الفنان محمد عبد الله بن سعيد باشا، والمعروف بالفنان محمد عبدالله العديني عام 1946، في كنف أسرة مشهورة في منطقة العدين، وهي أسرة آل الباشا، التي تسيّدت المشيخة القبلية على منطقة العدين منذ عدة عقود ماضية وحتى اليوم. 

عُرف عن الفنان محمد عبدالله العديني، منذ صغره بميله للغناء، إلا أن حُلمه الغنائي لم يكن له أن يتحقق في منطقة العدين لعوامل كثيرة، أبرزها انتماء الشاب الطامح لأسرة مشيخية ترى في الغناء والعزف على آلة العود انتقاصًا لمكانة الأسرة، فضلًا عن الإمكانات المتواضعة في منطقة العدين خلال تلك الحقبة من الزمن.

كما أن عدم وجود من يساعده للتعلم على أبجديات الغناء، ساهم في شعور لدى الشاب اليافع بعدم رضا على نفسه وعلى من حوله أيضًا. حتى وإن وجد من أبناء منطقته من بمقدوره تقديم المساعدة له لتُعلّم العزف على آلة العود، فقد لا يساعده خشية تعرضه لأي عواقب من أسرة الشاب الذين لا يهمهم سوى صون كرامة الأسرة وحفظ هيبتها ومكانتها بين أبناء المجتمع. 

وفي سنوات مبكرة من حياة الشاب محمد عبدالله العديني، ذهب إلى مدينة عدن التي كانت تزخر حينها بكل مقومات الحياة لا سيما في مجالات الفنون، وهناك في عدن عاش الشاب حياته، ما ساعده على تَعلّم عزف آلة العود، وبدأ الغناء في بعض المناسبات حتى بدأ معروفًا للكثير من المهتمين بمجال الفن الغنائي في مدينة عدن. 

وبعد أن خرجت أولى أسطواناته الغنائية في عدن، كان لا يزال يتردد إلى مسقط رأسه منطقة العدين، لكنه لم يعد مرغوبًا لدى أسرته التي رأت في امتهانه للغناء منقصة ومسبّة، لذلك واجه تحديات كبيرة كان أشدها من أقرب المقربين إليه. وعندما شعر أن حياته في خطر، وأن هناك من أقاربه من يتآمر لاغتياله وتصفيته جسديًا، غادر نحو الخليج العربي.

وهو في طريقه إلى السعودية نَظَم قصيدة غنائية وقام بتلحينها وغنائها، وهي في كلماتها تكشف حجم المعاناة التي أنهكت روحه الفتية الشابة، وتعبر عن مدى حبه واشتياقه لمسقط رأسه العدين، وحنينه إلى هوائها النقي وطبيعتها الخلابة.

حَمَلت القصيدة الغنائية عنوان (الوداع يا بلادي)، لتكون بمثابة الوداع الأخير، والفراق الذي لا رجوع بعده. 

البحث عن الذات

بعد أن ودع الفنان محمد بن عبدالله العديني، مسقط رأسه العدين، بتلك القصيدة، غادر إلى المملكة العربية السعودية، وظل في غربته لعدة سنوات، قبل أن يعود إلى أرض الوطن ليستقر به المقام في مدينة تعز، حيث عمل كموظف في مكتب الثقافة، وعاش في مدينة تعز فترة طويلة من السنوات، إلى حين انتقل في عام 97 إلى مدينة عدن التي يعيش فيها حتى يومنا هذا. 

للفنان العديني الكثير من الأغاني الشجية والعاطفية الأخرى معظمها من تأليفه وألحانه، ومنها: "شراني الهوى بخسًا"، و"قف يا غزال العدين"، و"أحباب قلبي جفوني"، و"متى تعود يا حبنا"، و"يا بارقًا في السماء"، وكذلك الزفة العدينية الشهيرة التي يقول مطلعها "ساعة الرحمن ذلحين". 

وعلى الصعيد الوطني، يمتلك الفنان العديني، عددًا من الأغاني الوطنية مثل "أنا الشعب صوتي كصوت الرعود"، و"يا سواعدنا القوية يا بواسل"، و"بشراك يا أرض اليمن"، و"أماه اسمعي لضربتي القوية". 

كما أحيا فعاليات فنية وحفلات غنائية في الخارج، في السعودية وجيبوتي والجزائر. 

مع الفنان

التقيت الفنان العديني الذي يجهله الكثير من اليمنيين، في النصف الأخير من العام 2006، بداية التحاقي بالمرحلة الجامعية، حيث كان يسكن في منطقة الفتح، بمديرية التواهي في العاصمة عدن، وهي ذات المنطقة التي سكنت فيها مع عدد من الزملاء لعدة أشهر.

وإلى ذلك الحين لم أكن أعرف شيئًا عن الفنان العديني، وعندما عرفته، بدأ يسرد لي كل يوم من قصصه مع الحياة، التي نسيت الكثير منها، ولم أعد أعرف سوى القليل من حكاياتها التراجيدية، التي ساعدتني في كتابة ما تذكرته عن هذا الإنسان الفنان الذي عشق الفن والغناء إلى حد الثمالة، وكان عشقه للغناء هو السبب الرئيس في جعله يغادر مسقط رأسه، ويعيش بعيدًا عن أهله وعشيرته قرابة نصف قرن من الزمن. 

مع مطلع القرن الواحد والعشرين انكفأ الفنان العديني على ذاته، حيث انعزل الفن بشكل نهائي، وخلال الفترة الزمنية التي تعرّفت به، كان يعمل خياطًا في مدينة التواهي أمام حديقة الملكة فيكتوريا ليوفر لأسرته لقمة العيش الكريمة، إذ إن راتبه الشهري الذي كان يحصل عليه من وزارة الثقافة حينها لم يكن سوى 15 ألف ريال فقط، ولا شك أن مثل هذا الراتب الزهيد لا يوفر متطلبات العيش الضرورية. 

زرته ذات يوم، وكان اللقاء الأخير به أثناء حدث خليجي عشرين الكروي في عدن مطلع العام 2010، ووجدته يزهو فرحًا، لاحتضان عدن هذا الحدث الكروي الكبير، معتبرًا ذلك الحدث شرفًا كبيرًا وقيمة رياضية بالغة الأهمية لعدن، واليمن بشكل عام.

كان يحدثني بإعجاب، وكنت أدقق في تعابير وجهه البشوشة، وأقول في نفسي، لعمري إن هذا الزهو والفرح لا ينبع إلا من قبل محب ومخلص لوطنه على الرغم أن راتبه الشهري لا يعد سوى فتات مما يعبث به ابسط مسؤول في الدولة. 

منذ عامين مضت زرته في المنزل الذي يسكن فيه، لعلي أقضي معه بعض اللحظات الجميلة، لكنني لم أجده، حيث كان قد غيّر مكان إقامته إلى مكان غير معلوم بالنسبة لي، وبحسب ما أخبرني أحد الأصدقاء مؤخرًا أن الفنان محمد عبدالله العديني لا يزال حيًا يرزق في عدن، فهل يا ترى يختم حياته بقليل من الإنصاف من قبل الدولة التي لم يحظ منها سوى براتب ضئيل جدًا، وبقليل من رد الاعتبار من قبل أسرته وقبيلته التي تخلت عنه لمجرد أنه أحب الغناء؟ أتمنى ذلك. 

•••
محسن فضل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English