محمد عبده العبسي..

حياة حافلة في عُمْرٍ قصير
خيوط
December 20, 2020

محمد عبده العبسي..

حياة حافلة في عُمْرٍ قصير
خيوط
December 20, 2020

 في 20 من ديسمبر/ كانون الأول 2016، فُجع الوسط الصحفي والأدبي في اليمن برحيل الصحفي والشاعر الشاب محمد عبده العبسي في العاصمة صنعاء، في ملابسات غامضة بعد عمله في صحافة الاستقصاء، وتناوله في تحقيقاته الصحفية قضايا شائكة كقضايا الفساد، واقتصاد الحرب، والسوق السوداء، وقطاع النفط، حيث وقف بشجاعة في صف الحقيقة مغامراً بحياته التي سلبت منه في النهاية.

في منتصف فبراير/ شباط 2019، قالت لجنة الخبراء المعنية باليمن، والتابعة لمجلس الأمن الدولي إنها لاحظت حدوث جريمة قتل مشتبه بها، راح ضحيتها الصحفي محمد عبده العبسي، والذي كان يحقق في النشاط المالي لقيادات في جماعة أنصار الله (الحوثيين). 

  وقال التقرير الموجه إلى رئيس مجلس الأمن الدولي في الـ25 من يناير/ كانون الثاني 2019، إن الصحفي العبسي كان يُعِد تحقيقاً حول امتلاك قيادات في الجماعة شركات نفطية عملاقة يتم عبرها استيراد النفط، وأن هذه الأموال تمثل مورداً ضخماً لهم ولأشخاص وردت أسماؤهم ضمن قائمة العقوبات الدولية.

  وفي هذا الصدد دعت منظمة (مراسلون بلا حدود) إلى فتح تحقيق مستقل ونزيه لكشف "ملابسات وفاة المدون محمد العبسي، وتقديم الجناة إلى العدالة". وقالت ألكسندرا الخازن- مديرة مكتب الشرق الأوسط في (مراسلون بلا حدود): إن المنظمة المعنية بالدفاع عن حرية الإعلام تأسف بشدة لوفاة الصحفي التي تبدو أقرب إلى جريمة قتل شنيعة، داعية في الوقت ذاته إلى فتح تحقيق دولي ونزيه ومستقل، بعيداً عن الضغوط السياسية المحلية؛ لفهم ملابسات هذه الوفاة، وإنصاف عائلته عاجلاً أم آجلاً.

  على إثر وفاته، كتب عنه الأستاذ عبد الباري طاهر في مقال له بعنوان "محمد العبسي.. مدوّن مشهور وشاعر مغمور":  

"قبل رحيله ببضعة أشهر أصدر محمد عبده العبسي ديوانه الشعري. لا أدري متى بدأ العبسي قرض القصيدة، وقصائد الديوان كلها، وإن تفاوتت في الجودة والأناقة، إلا أنها تُومي لنبوغ مبكر، وتحتاج قراءة تجربته الشعرية اللافتة، لكن الأهم مهارته في التحقيق الصحفي الاستقصائي، فخلال أعوام قليلة استطاع العبسي أن يكشف - أو فلنقل يفضح- مغارات وكهوف النهب والفساد في بلد في آخر سلّم بلدان العالم قاطبة فقراً، بينما حكامه في طليعة ملاك المليارات والملايين، وينافس حكامه حكام البلدان الأكثر غنى.
سبق الصحفيان: عبد الله سعد الحميدي، وعبد الكريم الخيواني، رئيسا تحرير صحيفة "الشورى"- المدون البارع محمد عبده العبسي، اللافت أن الثلاثة اخترمت حياتهم في شرخ الشباب.

الأول: سعد، رافق صالح في رحلة إلى حضرموت، وهو صحفي شجاع، وناقد عنيد للفساد، والتغول، فقيل: إنه تردى من عمارة (قضاءً وقدراً).
أما الثاني: الخيواني من أشجع فاتحي الملفات الأشد خطورة (ملف التوريث)، وملف حروب صعدة الستة، وملف الفساد، وقد اُغتيل جهاراً نهاراً وسط العاصمة.
أما الصحفي المدون محمد عبده العبسي، فباحث إعلامي، ومحقق استقصائي من طراز رفيع يستقصي منابع الفساد، وحصاد النهب، والسطو على المال العام، وتدمير الثروات الوطنية، وصفقات بيعها.
ترصّد بتحرٍ ودقة ثروات النافذين، ومصادر الثراء، دقّق في صفقات الغاز، والديزل والبترول، وما وراءها؟ ومن وراءها؟ ووثق بأمانة ودقة، التلاعب في وضع الموازنات العامة بأرقام كاشفة، كما تتبع صفقات السلاح، والعبث في وزارة الدفاع والأمن.

 تعرض المدون النشط والذكي للمضايقة والإغراء والتهديد؛ لكنه ظل يواصل مشواره الخطر بدأب ومثابرة ومهنية قلّ نظيرها. الصحفي المكافح وهب وقته وحياته لتتبع الحالة العامة في اليمن. تعرض للتهديد بالقتل أكثر من مرة، فهو يتحدى "غِيلان الفساد" في أوكارهم.
النهب في اليمن متوحش؛ لأنه ينتزع اللقمة الكفاف من فم شعب فقير وجائع، وهو فساد عريان مدجج بالبداوة والسلاح، محكوم بقانون الغاب، ولا رقيب عليه ولا حسيب.

في عهود صالح ذي الثلاثة والثلاثين عاماً: كانت السمة الأغلب الطابع القبلي للسلطة؛ مما أكسب السلطات حصانة ضد المساءلة أو الالتزام بالنظام والقانون؛ العدوان اللّدودان لهما.
يشير ماركس إلى الطبيعة المتوحشة للرأسمال، فعندما تتجاوز الأرباح الـ100% أو الـ200% أو الـ 300%، فإنه يصبح سهلاً وميسوراً على هؤلاء "اللصوص" القتل، نحن هنا لسنا إزاء نظرية فائض القيمة، وإنما إزاء نهب وسيلته الوحيدة القتل.
[...] في اليمن يتلاقح فساد الأطراف: الحكومة المعترف بها دولياً وصالح و"أنصار الله"، يتقاتلون في كل شيء، وعلى كل شيء؛ ولكنهم يتفقون ويتوافقون على اقتسام الغنائم والفيد، وتكون الحرب مصدر رزق لا ينضب لكل هذه الأطراف، فالحرب تجارة لن تبور، وتصبح مصلحة الأطراف المليشاوية - وكلها مليشيا- استمرار الحرب، وإطالة أمدها؛ لاستمرار النهب والإثراء.
مقتل العبسي المدون الماهر ومئات وعشرات الآلاف يطرح سؤال: من المستفيد من إخماد أنفاس فاضحي الفساد والنهب وإسكات أصوات الاحتجاج المدني السلمي؟! "

  وكتب الصحفي نبيل سبيع في الذكرى الأولى لرحيل محمد العبسي: "مرت سنة على رحيل هذا الشاعر والصحفي والإنسان اليمني الحر والمخلص الذي أحب صنعاء واليمن شبراً شبراً، ولم تستطع أسرته ومن تبقى من أصدقائه في صنعاء إحياء الذكرى السنوية الأولى على رحيله!".

  وفي الذكرى الثالثة لرحيله، تذكّره صديقه مطيع دماج، بالقول: "أتى محمد العبسي من محمد العبسي أكثر من أي شيء آخر. لا المال ولا القبيلة ولا النسب ولا الحظ كانت ضمن جنود محمد. جاء هكذا من داخل روح الإنسان التي تمنح للبشر بالتساوي قبل أن تسلبهم إياها أنظمة الطغيان وأنماط الظلم والقهر".

وعن حياة صديقه المهنية، يقول مطيع: كان محمد شاباً يحمل عبء كثيرين، وكل خير يقع في يديه يزهر في حياة آخرين. وكانت الرحمة والعدل أن يبقى الموت حبيس الغيب حتى يكمل شاب في مقتبل العمر عمره. وحتى تشعل نجمته معناها حتى آخر قطرة زيت وتغدو أشجار بذراته وتسود بكلمات حالمة صفحته البيضاء".

  ولد محمد عبده العبسي في صنعاء عام 1983، ودرس الأدب العربي في جامعة صنعاء. عاش طفولة قاسية اضطر للعمل خلالها بائعاً متجولاً لمساعدة أسرته في متطلبات المعيشة، وحرص بموازاة ذلك على إكمال تعليمه حتى تخرج من الجامعة دون أن يتخلى عن التزامه تجاه عائلته.

  تركت وفاة والدته مبكراً، فراغاً كبيراً في حياته، وطيلة حياته حاول ملء هذا الفراغ بتحويل ذكراها إلى طاقة دافعة باتجاه تحقيق أحلام أكبر من الإمكانيات المتوفرة له. وعلى الرغم من توالي فجائع الموت عليه، إلا أنه لم ينكسر أمامه بعد وفاة شقيقته وشقيقه الأكبر، ثم مرض والده. وبالتوازي مع تكريس جهده الدؤوب في مهنة الصحافة وفن الشعر والبحث الأدبي، كرس اهتمامه الخاص لأمور عائلته، ولم يتزوج سوى قبل وفاته بحوالى ستة أشهر.

بدأ محمد العبسي مسيرته الصحفية بالعمل في القسم الثقافي بصحيفة الثورة عام 2002، وتولى الإشراف على الصفحة الأدبية اليومية فيها عام 2004، ثم أصبح عضواً في هيئة تحرير مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة عام 2004. ثم عضواً في هيئة تحرير مجلة الاستثمار الاقتصادية عام 2006. وكتب في عدد من الصحف المحلية المستقلة كـ"النداء" و"الشارع" و"حديث المدينة" و"الأولى"، وعمل كاتباً ثم مستشاراً في صحيفة "الأهالي" عام 2007. كما كتب في عدة صحف عربية، وكانت لديه مدونته الخاصة على الإنترنت.

  شارك العبسي في إعداد تقارير اقتصادية متعلقة بالتنمية المستدامة. كما أثارت تحقيقاته الصحفية الاستقصائية أصداء واسعة لدى الرأي العام اليمني، خاصة عند نشره حلقات عن الوثائق السرية لوزارة الدفاع  عمرها 15 عاماً، إضافة إلى تحقيقات صحفية أخرى، مثل تحقيقه عن فساد القائمين برعاية شهداء وجرحى الثورة الشبابية. ونشر على مدى شهرين سلسلة من التحقيقات الصحفية عن فساد صفقة الغاز المسال في صحيفة "حديث المدينة"، وهي التحقيقات التي أثارت اهتماماً واسعاً ولفتت أنظار الناس إلى فساد الصفقة وضرورة مناهضتها والعمل على إلغائها.

  ولم يكتفِ بتنفيذ التحقيقات، بل أسس مع 21 عضواً في العام 2010، "تحالف مناهضة الصفقات الحكومية المشبوهة" (صفقة الغاز المسال)، وكان رئيس الهيئة التنفيذية للتحالف منذ ديسمبر/ كانون الأول 2010. 

  كما رأس منظمة "قرار" للتنمية المستدامة والإعلام عام 2011. وعين مديراً عاماً لمكتب وزير التعليم الفني والمهني في حكومة الوفاق الوطني عام 2012، واستقال من منصبه بعد 3 أشهر ليتفرغ للعمل المدني والصحفي والحقوقي.

  ومحمد العبسي شاعر وباحث في الأدب والتاريخ، كتب بانتظام في مجلة "الغاوون" الأدبية الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية وبيروت، كما صدر له ديوانان شعريان: "وحيداً كالقطرة.. جميعاً كالأمطار" و"بل".

  في مساء الثلاثاء 20 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ولدى عودته إلى منزله في العاصمة صنعاء، مرّ لتناول العشاء في أحد المطاعم قبل أن يتوجّه إلى المنزل، وخلال أقل من ساعتين، بدأ يعاني من أعراض ضيق في التنفس، وتوفي على إثر ذلك بوقت قصير.

 


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English