قبل خمسة أعوام كتبت مادة عن تحولات الشارع الذي أقطنه بصنعاء مع حلول فترة عيد الأضحى وقبله عيد الفطر. هذا الشارع في المتعارف الشعبي اسمه شارع (16)، كتبت المادة، المشار إليها، بعد أشهر قليلة من انتقالي للسكن فيه، ومع كل عيد أضحى اكتشف وكأن أفكار المادة التقطت بتوقيت اليوم، بسبب تناسل الصورة المرئية الواحدة التي عنوانها عدم التبدل في حاله على الاطلاق، عدا التسارع في حالة التضخم المعيشي التي ابتلعت كل شيء.
هذا الشارع نشأ كسوق ثانوي على تخوم شارع هائل التجاري الشهير بصنعاء ، وصار لاحقاً مقصداً معروفاً للمتسوقين من محيطه وخارجه، بما يوفره من خدمات وتموين سلعي واستهلاكي ؛ “خضر وفواكه وبهارات ومواد غذائية ومطاحن حبوب ومحلات لحوم وأسماك ومواد بناء وورش نجارة وخدمات صيانة متنوعة”، وبه أهم تجمع لصالات الأعراس والمناسبات الأقل كلفة في صنعاء، إلى جانب مجموعة من المدارس الخاصة في الحواري التي نشأت على امتداده وفي محيطه. ويمر عبر اسفلته خط نقل عمومي نشط لنقل الركاب من مناطق مذبح وشملان والستين والحصبة والجامعة الذين تكون وجهاتهم إلى شارع هائل وبغداد والزبيري وباب اليمن.
زحام بطابع مختلف
هو أقل زحمة من شارع هائل المكتظ على الدوام، بسبب تداخل محلات وعربات الملابس والأحذية التي تحتل ثلثي الشارع من الجهتين، ولا تترك غير ممرٍّ ضيق للسيارات التي عادة ما تشكل بدخولها الشارع، المكسو بالفوضى الدائمة، اختناقات مرورية حادة طيلة أيام السنة، ومع مواسم الأعياد تتضاعف المشكلة إلى حدود لا يمكن وصفها، بفعل إقبال المتسوقين على المحلات التي تعرض الملابس والأحذية الشعبية الرخيصة، على عكس الأسواق التجارية والمولات التجارية الراقية، في شارعي حدة وجمال التجاريين، أو مولات الأحياء الجديدة في الأصبحي وبيت بوس.
أسعار الأضاحي مرتفعة جداً ككل شيء في صنعاء وبقية المدن اليمنية، وليست في متناول الجميع، حتى تلك التي تستورد من دول أفريقية مثل “إثيوبيا والسودان وأرض الصومال”، لم تعد تختلف عن المنتج المحلي سوى بأشكالها، وليس بأسعارها، التي كانت في ما مضى تصنَّف بالتنافسية، حتى أن بعضها تباع على أنها منتج محلي “بلدي”، في وسائل غش تستغل غشامة المشترين، بالإضافة إلى الشبه المتقارب بين بعضها وبين المواشي المحلية.
وبالمقابل، تصير مثل هذه المناسبات في شارع ( 16) حالة لإنتاج اختناقات كبيرة، لكن بالإمكان تفكيكها، بسبب ما يُتيحه الشارع من منافذ تصريف للسيارات باتجاه الممرات الفرعية المعبدة في الحواري الداخلية. غير أن زحمة الأعياد تحمل طابع مختلف، إذ تتكدس عشرات السيارات، ويتزاحم مئات المتسوقين في الشارع من أجل شيء واحد، وهو شراء أضاحي العيد من محلات الجزارة المنتشرة في الشارع التي رصدت منها 35 محلاً تبدأ من تقاطعه مع شارع الرباط، وتنتهي عند مدخل شارع هائل من جهة القبة الخضراء، بالقرب من عمارات هائل وبينهما تلك المتكاثرة في تقاطع سوق الرقاص وجولة شارع 20 ، التي تعرض في هذه المناسبة أنواعاً مختلفة من المواشي المحلية والأفريقية “عجول وأثوار وتيوس وكباش” بأحجام مختلفة، موضوعة في أقفاص حديدية مفتوحة “شبوك” تقيدها وتمنعها من الحركة في الشارع، أو تُحاصر، من قبل عمال مهرة، في الممرات الخلفية للحواري.
“الروث” ومخلفات الأعلاف الخضراء واليابسة صارت منذ بداية العشر تغطي الشارع، وروائحهما تغطي الفضاء، أما أصوات المواشي من الثغاء والخوار فأصبحت تشكل، مع أبواق العربات وضجيج الدراجات النارية وأصوات الزوامل المنبعثة من ميكروفونات ومسجلات السيارات، حالة عجيبة من التلوث السمعي.
باختصار، صار شارعنا منذ مطلع يونيو/ حزيران “زريبة” واحدة للمواشي، بدَّلت تماماً من طابعه العام، ومن أشكال وسحنات متسوقيه. الريفيين الذين يبيعون بعض مواشيهم أو يشترون، هم المضاف الجديد إلى السوق اليوم، الذي يقصده في عادي الأيام سكان الحي من الموظفين وصغار الكسبة.
السوق بالتأكيد غير قانوني، ولا يخضع لرقابة طبيعية لصحة البيئة، وما يجعله قانونياً هي تلك المبالغ التي يدفعها بسخاء أصحاب محلات الجزارة في الشارع كإتوات لموظفي البلدية والصحة.
أسعار ليست في المتناول
أسعار الأضاحي مرتفعة جداً ككل شيء في صنعاء وبقية المدن اليمنية، وليست في متناول الجميع، حتى تلك التي تستورد من دول أفريقية مثل “إثيوبيا والسودان وأرض الصومال”، لم تعد تختلف عن المنتج المحلي سوى بأشكالها، وليس بأسعارها، التي كانت في ما مضى تصنَّف بالتنافسية، حتى أن بعضها تباع على أنها منتج محلي “بلدي”، في وسائل غش تستغل غشامة المشترين، بالإضافة إلى الشبه المتقارب بين بعضها وبين المواشي المحلية.
في غضون ساعة تتحول الطرابيل الزرقاء إلى معرض مرئي مكتظ بذبائح ممددة ، تنتظر دورها في السلخ والتقطيع بواسطة شبان يملكون من الطاقة والخبرة الشيء الكثير، وقرب الظهيرة يتكوم بدلاً عنها جلود مسلوخة وأمعاء وبطون مملؤة بالروث وأرجل مقصوصة ، يتم شحنها على ظهر السيارات التي جاؤوا بها مع أدواتهم ، مخلفين ورائهم الكثير من البقايا والدم الداكن الذي يتحلق حوله كلاب جائعون يشعلون الكثير من المعارك بينهم.
لبائعي المواشي، من الجزارين، تبريراتهم لغلاء الأسعار، ومنها انخفاض سعر العملة المحلية، وفرض ضرائب ورسوم مرتفعة، وفرض إتاوات متعددة للنقاط الأمنية في الطرق بين المحافظات، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل ، وهي تبريرات لا يمكن لها أن تجعل رأساً من الماشية “تيس/ كبش” الذي لا يتعدى وزنه 10 كيلوجرامات، يبلغ ثمنه قرابة 60 ألف ريال (120$) في صنعاء وهو مبلغ مضروب في خمسة في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً، في بلاد صار معظم سكانه، بفعل الفساد، والأزمات، والحروب، وانقطاع المرتبات والتضخم، تحت خط الفقر دون استثناء.
قال لي شخص أعرفه من سكان الحي القدامى، إن كمية المعروض في الشارع من المواشي هذا العام، هي أقل بمرة واحدة عما كانت تعرض في السنوات السابقة، والأمر ارتبط بقلة الإنتاج، أو أنه يتم عرضها في أسواق مخصصة لهذا الغرض في منطقة نقم.
شارع 16سيتحول صباح العيد واليوميين التاليين له إلى مسلخ حقيقي، إذ يحضر، في وقت مبكر من يوم العيد وثانيه وثالثه إلى مواضع في الشارع قصابون (جزارون) بسيارتهم ذات الدفع الرباعي المفتوحة مع أدواتهم من سكاكين وبكرات وخطاطيف وجذوع أشجار عريضة يابسة يستخدمونها لتقطيع الذبائح ، ثم يفرشون طرابيل بلاستيكية قوية على الاسفلت ، وحينما يصل المضحون بتيوسهم وأثوارهم وكباشهم يجدون أمامهم شبان أقوياء يمددون أضاحيهم على الطرابيل ثم يذبحونها بعد تقبيلها ( توجيهها شمالاً باتجاه القبلة) ، فتتحول المساحة إلى بركة من الدم القاني الحار.
في غضون ساعة تتحول الطرابيل الزرقاء إلى معرض مرئي مكتظ بذبائح ممددة ، تنتظر دورها في السلخ والتقطيع بواسطة شبان يملكون من الطاقة والخبرة الشيء الكثير، وقرب الظهيرة يتكوم بدلاً عنها جلود مسلوخة وأمعاء وبطون مملؤة بالروث وأرجل مقصوصة ، يتم شحنها على ظهر السيارات التي جاؤوا بها مع أدواتهم ، مخلفين ورائهم الكثير من البقايا والدم الداكن الذي يتحلق حوله كلاب جائعون يشعلون الكثير من المعارك بينهم.
بعد يومين ستبدأ الروائح النتنة بالتصاعد من الشارع، لا تخففها وتزيل مسبباتها سوى أمطار الصيف الموسمية الغزيرة والدائمة التي ينتظر أن تهطل على المدينة، التي تشهد جفافا وشحة أمطار غير مسبوقة في هذا الفصل من العام.