أعمل منذ فترة ليست بالقصيرة على استكمال كتاب عن المقهى في اليمن (من النبذ إلى التمدن الصريح)، وقد توقفت في واحد من موضوعاته عند أشهر المقاهي التي ارتبطت بذاكرة المدن اليمنية الرئيسية ( عدن، الحديدة، تعز، صنعاء، المكلا) .. وفي تعز كان لمقهى الإبي وصاحبه عبد الله الجرافي مساحة تليق بتاريخه وتأثيره الثقافي والسياسي الذي بدأ قبل سبعين سنة.
ففي الذاكرة الثقافية والسياسية ليس هناك في تعز ما هو أشهر من هذا المقهى الذي تأسس في العام 1955 أسفل المدرسة “الأحمدية” بالقرب من باب المدينة الكبير، وتاليا عُرف الشارع الذي تأسس فيه المقهى منذ 1962 بشارع 26 سبتمبر، وصارت المدرسة الأحمدية تعرف لاحقا بـمدرسة “الثورة”.
مبنى المدرسة التاريخي، الذي صمم بالطراز المعماري التقليدي اليمني، أزيل بقرار غير مسؤول، واستبدل بمبنى حجري حديث، وكان بالإمكان الحفاظ على طرازه القديم بالترميم والصيانة مع تكريس اسمه الجديد (مدرسة الثورة) بدون اسمه القديم. أما المقهى فلم يزل بموضعه وعلى حالته التي أنشئ عليها قبل سبعين عاما ، في مبنى حَجري بسيط مكون من دور واحد.
قبل الأذى الثالث
احتفظ الجرافي من بقايا المبنى القديم من المدرسة على حجر منقوش عليه شعار المملكة المتوكلية اليمنية ( السيف والنجمات الخمس) ويحتفظ به في مصطبة بجوار الباب، يغطيه بطربال ثخين، حتى لا يتعرض الحجر لأذى ثالث، بعد أذى نزعه من جدار المدرسة أولا، وصعود سيارة دفع رباعي عليه (شاص) في حادث بجوار المقهى ثانياً، فناله من الحادثتين بعض التشوهات في معالمه الحفرية.
شهرة المقهى قامت على فعل صاحبه عبدالله الجرافي (الإبي) ، حين لعب أدواراً أساسية في التخفيف عن طلاب المدرسة الذين حاصرهم عساكر الإمام داخل حجراتها، بعد خروجهم بمظاهرات جابت المدينة تشيد بأدوار الزعيم جمال عبد الناصر وأداوره القومية وتندد بسلطة الإمام المستبدة والمنغلقة في صيف 1962، حين كان، الجرافي، حلقة تواصل بين الطلاب وأحرار المدينة وتجارها الذين كانوا يوفرون للطلاب المحاصرين الطعام والمال طيلة وقت الحصار الذي امتد لأيام عديدة.
لم يكن المقهى ، وقتذاك، مجرد مكان للاستراحة من الحصص الدراسية أو الحلقات العلمية ،بل كان هو نافذتهم إلى العالم بواسطة الراديو العتيق الموضوع على رف قريب، حيث كانوا يقضون جزء من وقتهم المسائي في الاستماع إلى إذاعة صوت العرب والبي بي سي رغم ما كان يحوط بالمكان من آذان كثيرة، تنقل بكل ما يدور به إلى مقام العرضي وقصر صالة، غير أن الذي كان يشجعهم أكثر على التجمع فيه أن القبضة الأمنية للسلطة الامامية كانت ترتخي بفعل المتغيرات المتسارعة في المنطقة واعتلالات الإمام
الصورة القديمة الشهيرة للمدرسة الأحمدية والتي التقطها المصور المرحوم أحمد عمر العبسي أوائل الخمسينات وتظهر في كثير من الأدبيات والوثائق عن مدينة تعز، بقيت معلقة في مقهى الابي لسنوات طويلة، بعد أن تحصل عليها صاحب المقهى كهدية من محمد محمود أحد فتيان قصر الأمام المدللين، والذي ربطته بصاحب المقهى علاقة صداقة، فقد كان بن محمود( كما كان يطلق عليه العامة) يستقل سيارة بيك آب في أغلب المساءات ويحضر إلى المقهى عبر الطريق الاسفلتي الوحيد الذي يربط العرضي والجحملية بالمطار القديم لأخذ عصائر وبسكويت، كان يوفرها الإبي له بواسطة بعض التجار الذين يجلبون بضائعهم من عدن.. هذه الصورة، التي تظهر المنطقة المحيطة بالمدرسة ولا تزل حقولاً تحرث تقليدياً بالأثوار، انتقلت بعد ذلك لصاحب استوديو "جاود" المجاور للمقهى فظهرت عليها تالياً العلامة الرمزية للأستوديو.
لم يكن المقهى الشعبي بالنسبة لطلاب المدرسة الأحمدية ، وقتذاك، مجرد مكان للاستراحة من الحصص الدراسية أو الحلقات العلمية يتناولون فيه المشروبات والمأكولات فقط ،بل كان هو نافذتهم إلى العالم بواسطة الراديو العتيق الموضوع على رف قريب، حيث كانوا يقضون جزء من وقتهم المسائي في الاستماع إلى إذاعة صوت العرب والبي بي سي رغم ما كان يحوط بالمكان من آذان كثيرة، تنقل بكل ما يدور به إلى مقام العرضي وقصر صالة، غير أن الذي كان يشجعهم أكثر على التجمع فيه أن القبضة الأمنية للسلطة الامامية كانت ترتخي بفعل المتغيرات المتسارعة في المنطقة واعتلالات الإمام أحمد بعد حادثة محاولة اغتياله في مستشفى الحديدة في العام 1961.
بعد ثورة سبتمبر 1962 صار المقهى عنواناً لنخب المدينة والوافدين إليها من أدباء ومثقفين وسياسيين حزبيين، إذ كانوا يجلسون بالساعات على كراسيه الحديدية والخشبية يناقشون أحوال البلاد وهي تثب نحو الضوء، بعد قرون من العزلة والظلام، ولم تكن هذه النقاشات تخلو من الحدة والاختلاف التي تصل إلى حد الاشتباك بالأيدي بين الأفراد الذين يتوزعون على اتجاهات سياسية مختلفة ( قومية ويسارية ودينية) كانت تحتضنهم المدينة في فترة زهوها تلك.
أحوال المدينة المتبدلة
في 2021 أثناء تواجدي بمدينة تعز التقيت دون تخطيط بعبد الله الجرافي ،حين جاء معزيا بوفاة عمي، الذي كان صديقه القريب.. انتهزت الفرصة لجره للحديث عن بعض التفاصيل عن تاريخ المقهى وتحولات المكان، وعرفت منه أن اللقب ( الابي) الذي صار لصيقاً به إنما استولد من المنطقة التي وفد إليها وهي إب وتحديدا من منطقة وراف بنواحي جبلة.. افتتح المقهى مع شريك له يدعى عبد الله الحشاش، وقت كانت المدرسة أشبه بملتقى يمني مصغر، حيث كانت تظم في جنباتها العشرات من الطلاب الوافدين من مناطق يمنية مختلفة في اليمن الأوسط للحصول على تعليم شبه حديث، بعيدا عن التعليم التقليدي الديني الذي كان متفشيا في عموم البلاد؛ هذا التعليم كان يقوم بتقديمه للطلاب معلمون مصريون وفلسطينيون وسوريون وقت نشاط البعثات التعليمية في المدينة ،التي اتخذها الإمام أحمد عاصمة (غير معلنة) لحكمه منذ قٌتل والده في فبراير 1948، في ضواحي صنعاء الجنوبية بمعية أحد أحفاده ورئيس وزرائه القاضي عبد الله العمري.
كانت بعض أجزاء المدرسة سكناً داخليا للطلاب الوافدين من خارج المدينة وتحديدا دورها العلوي، وكان المعلمون يسكنون في منازل في المدينة القديمة، أو في محيط المدرسة، حيث بدأت تنشأ بيوت وعمارات حديثة على امتداد الشارع الذي يربط قلب المدينة بقصور الامام ومقرات الإدارة العليا للدولة وثكنات الجيش بين العُرضي وصالة. ونشط أكثر بعد عملية شقه وسفلتته في مطلع الخمسينات بواسطة شركة فرنسية كان مقرها جيبوتي,
يستذكر الإبي الكثير من الأحداث والتحولات التي مرت على المدينة وكان الشارع هو عنوانها الأبرز، منذ شقه وسفلتته في العام 1952 بواسطة شركة فرنسية ، كان مقرها مدينة جيبوتي ،متخصصة في انشاء المطارات، وكيف أن عملية الشق والسفلتة فتحت لاحقاً المجال أمام رجال الأعمال في المهاجر المختلفة لتشييد بنايات حديثة، اُستقدمت مواد إنشائها من المستعمرة عدن وقتها. وكيف أن الكثير من المحلات التجارية الحديثة فتحت في الأدوار الأرضية لهذه البنايات، وعرضت فيها السلع الحديثة المستجلبة من وراء البحار، والتي كانت محل طلب أعضاء البعثات الدبلوماسية في تعز، التي كانت مقراً لمعظم سفارات الدول الكبرى خلال الخمسينات.
استذكر الإبي من تلك البنايات المبنى الأبيض الذي كان يستخدمه عمال النقطة الرابع سكنا ومخازن ومطبخ وصار بعد الثورة مدرسة باسم الرئيس ناصر، واستذكر عمارة الغنامي و سينمتها التي افتتحت كأول سينما في المدينة، وبالقرب منها عمارة الأصنج التي صارت مقراً للبنك اليمني، وعمارة السفاري أسفل العقبة ، وعمارة الشوافي الصفراء رأس العقبة، وعمارة أبو الذهب، وبخاخير السجائر والمواد الغذائية لهائل سعيد التي كانت بالقرب من المقهى وشُيّد مكانها قبل سنوات مركز السعيد التجاري.. يتذكر أيضا رموز جبهة التحرير والجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل الذين كانوا يرتادون المقهى، يتذكر موكب جمال عبد الناصر الذي مر في الشارع في زيارته الوحيدة لتعز واليمن في ربيع 1964.
استذكر طلاب المركز الحربي، الذين كانوا يتلقون دروساً عسكرية متقدمة على أيدي خبراء مصريين وسوفييت، بعد الثورة وكانوا يحضرون إلى المقهى بلباسهم العسكري الأنيق، خلافاً للباس الشعبي الذي كان يرتديه عسكر الإمام (العكفة والبراني) وينتمى لمناطق شمال الشمال.