في 21 سبتمبر 1991، توقف قلب الأستاذ عبد الله أحمد محيرز عن ستين عامًا في المدينة التي وُلد فيها وأنجز أهم مؤلف تاريخي عنها؛ إذ لم يسبقه أحد في كشف المطمور عن تاريخ المدينة التي وُلد في أحد أحيائها القديمة (الطويلة) عام 1931. ولم يزل كشفه هذا واحدًا من المراجع الحيوية التي يستند إليها الباحثون في مقاربة تاريخ المدينة وتحليل الظواهر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي ترافقت مع تحوّلاتها. أما الكتاب الذي نعنيه فهو ثلاثية عدن (العقبة، صهاريج الطويلة، قلعة صيرة)، وهي أبرز المعالم في المدينة، والتي لا يمكن فهم جغرافيتها وتاريخها الثقافي والطوبوغرافي من دون الخوض في تفاصيل هذه الأمكنة.
بعد وفاة هشام علي بن علي بعام، كتبتُ مادة طويلة عن منجزه التأليفي، ومنها ما كتبه عن محيرز في كتابه المعنون ثلاثية عدن. ومستخلص الصورة التي رسمها عنه كثّفتُها في السياق التالي:
"ذرع جبال عدن ووديانها مشيًا على القدمين حين كان طالبًا، يلتمس الهدوء والسكينة في (أبو الوادي) أو عند (معجلين) أو في (رأس معاشيق)، وحتى بلغ مبلغ الشباب فانحدرت به خطواته نحو الأودية غير المأهولة في (جولد مور)، أو سار متتبعًا آثار الوادي الكبير في (الحسوة) و(رباك)، أو في (العماد) و(الشيخ عثمان). وحين اجتاز مصبّات الأودية عند البحر، راح يتتبع اتجاه الماء القادم من الشمال فعبر الضالع متجهًا إلى (قعطبة) على ظهر حمار كان دليله الوحيد لعبور الطريق من الجنوب إلى الشمال، حينما كانت الحدود الوهمية مصطنعة بفعل السياسة.
لم يكن اختيار عبد الله محيرز لعدن موضوعًا للبحث والتفكير والكتابة التاريخية ينطلق من مناطقية ضيقة أو أفق محدود، وإنما هو نهج للتفكير العلمي الذي يبحث في الجزئيات ليكتشف الكليات كما يقول".
يقول محيرز عن مدينة عدن وأهلها في كتاب العقبة مثلًا:
"أهلها هم أهل اليمن، يفدون إليها من كل ركن منه، فرادى وجماعات، ويصيرون أهلها، وتصهرهم بطابعها. يتجدد شبابها في كل جيل، ونضارتها مع كل دم وافد جديد".
دلف إلى التاريخ من باب العلوم، وتحديدًا الرياضيات والفلك، فصار أنجب من عرفتهم اليمن، وعمل لأكثر من عقدين كاملين في جمع الوثائق عن تاريخ اليمن الطبيعي (السياسي والثقافي والاجتماعي) من أهم مكتبات العالم (لندن، وواشنطن، وباريس، وبرلين، ودلهي).
من العلوم إلى التاريخ
عدن تحتل مكانة خاصة ومتميزة في وجدان وعقل عبد الله محيرز، فهي مدينة مولده ودراسته وشبابه وشيخوخته. وكان الفقيد يقول دائمًا: "أحب عدن، وأريد أن أخصص بقية حياتي لخدمة تاريخها وتراثها". وربما يعود الإفصاح المتأخر عن اهتمامه بعدن إلى الخوف من الاتهام بـ"العدنية"، في عهد كان أبسط اهتمام بمنطقة أو مدينة معينة مدعاة للاتهام بالمناطقية والإقليمية. والسبب الآخر هو ملاحظة الفقيد لعدم وجود اهتمام بعدن من قبل البعض، بل ومحاولة البعض الآخر طمس دورها وتاريخها كمدينة وسكان. لذلك كان يعمل بصمت لخدمة تاريخ عدن، من خلال البحث عن جوانب عديدة في تاريخها وجغرافيتها وعمرانها، وهو ما ظهر في نشر كتبه الثلاثة عنها، كما يقول د. صالح باصرة.
محيرز الذي دلف إلى التاريخ من باب العلوم، وتحديدًا الرياضيات والفلك، صار من أنجب من عرفتهم اليمن. وعمل لأكثر من عقدين كاملين في جمع الوثائق عن تاريخ اليمن من أهم مكتبات العالم (لندن، واشنطن، باريس، برلين، دلهي).
لم يُنتج سيرة ذاتية عن مراحل حياته الباكرة ولا عن تراكم خبراته المهنية التي شكلت صورته عند مجايليه وتلامذته، لكن شذرات متباعدة من كتابات أصدقائه عنه يمكن أن تفضي إلى إنتاج صورة مقرّبة عنه؛ فهو من مواليد حي الطويلة بكريتر العتيقة، ولا يُعرف عن طفولته سوى أن والدته وشقيقته الكبرى توفيتا في وقت متتابع وهو طفل في السابعة. أما والده فقد كان يعمل صفّافًا للأحرف الرصاصية في مطبعة فتاة الجزيرة لصاحبها محمد علي لقمان ثم جريدة النهضة لصاحبها عبد الرحمن جرجرة.
تتبع الأب شغف ولده بالمعرفة، وكان يأخذه معه إلى المطبعة، فالحقه بالمدارس النظامية، غير أن الأب، الذي كرّس نفسه لولده بعد فقد الأم والأخت، توفي بعد سنوات قليلة بعد إصابته بحمى قاتلة يُسميها خالد عمر محيرز "النامونيا"، بعد أن سبّبت له ارتجاجًا في المخ، فترك صغيره يصارع الحياة بمعونة الجد والأعمام.
بعد وفاة والده، انتقل الطفل للعيش في منزل جده محمد عوض محيرز في حافة حسين بقلب مدينة كريتر، إلى جوار أعمامه، ومنهم عمه عمر، الذي كان شغوفًا بالقراءة، ولديه مكتبة مهمة تضم أمهات الكتب، التي انكب عليها الطفل الصغير، فكان لا يفارقها، إلى أن أكمل دراسته الثانوية وحصل على شهادة الثقافة العامة "سينيور كمبريدج" من المدرسة الثانوية في الخليج الأمامي. وصارت هذه المكتبة بحوزته بعد زواجه من ابنة عمه، وظل يتنقل بأهم محتوياتها في ترحاله الكثير، كما يقول هشام علي بن علي.
كان وهو طالب يحفظ أغلب مسرحيات شكسبير المعقدة، وأشعار بايرون وت. س. إليوت، فقد كان يأخذها معه إلى ساحل "أبو الوادي" في معاشيق، ويقضي وقتًا طويلًا في قراءتها وحفظها، ويقرأ إلى جانبها روايات أجاثا كريستي البوليسية بلغتها الأصلية الرفيعة.
بين شكسبير وكريستي
بعد إكماله الثانوية مطلع الخمسينيات، حاول جاهدًا الحصول على منحة خارجية لمواصلة تعليمه، إلا أن محاولاته الكثيرة فشلت لعدم وجود جهة تسانده (اجتماعية أو سياسية) لدى الدوائر التعليمية في المستعمرة (إدارة المعارف)، التي كانت، بالمقابل، توفر منحًا مختلفة للمعاهد والجامعات البريطانية، والجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعة السودان. وحين عرضت عليه إدارة المعارف لاحقًا العمل مدرسًا في الثانوية التي تخرّج منها، لم يتردد، لأنها كانت آخر نافذة للأمل.
في تلك الفترة – مطلع الخمسينات – تعرف لأول مرة على الدكتور محمد عبد القادر بافقيه، التربوي وأستاذ التاريخ والنقوش لاحقًا، الذي كان عائدًا في إجازة صيفية من السودان، حين التقاه ضمن جماعة "المستقبل" (مجلة الشباب المعروفة) عند مديرها المسؤول عايض باسنيد، ومدير تحريرها عبد الله عبد الرزاق باذيب، ويقول بافقيه: "قدّموه لي على أنه كاتب يهتم بالعلوم، وكان وقتها يتأبط كتبًا".
حين واتته أول فرصة لمغادرة عدن إلى باكستان للعمل مدرسًا في كلية اللغة العربية بكراتشي، لم يتردد في السفر، لكنه لم يستمر طويلًا في الكلية، وانتقل للعمل مترجمًا في المفوضية السورية، حيث كان يُجيد الإنجليزية كأهلها تمامًا. وقد سبق أن ذكرنا حفظه لمسرحيات شكسبير وأشعار بايرون وإليوت، وقراءته لأجاثا كريستي.
يقول بافقيه:
"لقد كان موسوعي الاهتمام، لا شيء يشفي غليله إلى المعرفة، وكانت قراءة القصص وسيلته المفضلة للترويح عن النفس، وخاصة الروايات البوليسية الرفيعة. حتى إنني أكاد أجزم بأنه لم تفته قراءة رواية من روايات أجاثا كريستي. ولعل حبه للسينما جاء من هذا القبيل".
في فترة باكستان، سيتعرّف على الشاعر محمد محمود الزبيري، الذي كان لاجئًا هناك بعد هروبه من صنعاء عقب فشل ثورة 1948، وسيتعرف أيضًا على الحبيب بورقيبة والفضيل الورتلاني.
يقول الشاعر الراحل محمد حسين هيثم إن لمحيرز "مخطوطًا هامًا عن ذكرياته مع شاعر اليمن الكبير محمد محمود الزبيري أثناء وجودهما معًا في باكستان، يعتبر وثيقة غنية بالمعلومات والأسرار"، كما أفادت صحيفة الثوري.
إلى كلية عدن
لم يستمر طويلًا في باكستان، وعاد إلى عدن في صيف 1952، ليلتحق من جديد بعمله في إدارة المعارف، التي انتدبته هذه المرة للعمل مدرسًا للرياضيات والعلوم في كلية عدن بمنطقة دار سعد، التي كانت قد افتتحت قبل ذلك بوقت قصير.
قال لي حسين السفاري، قبيل وفاته في أكتوبر 2021، إن محيرز قام بتدريسه مادة الرياضيات بأسلوب مبسط حين التحق بالكلية في العام 1953، وأنه كان أستاذًا محبوبًا من طلبة الكلية بدون استثناء.
بعد عامين من بقائه مدرسًا في الكلية، تحقق حلم محيرز بالدراسة العليا، حين اختير ضمن مجموعة من أساتذة الكلية للسفر إلى بريطانيا في دورة تدريبية عليا، فاستغل هذه الفرصة بكل ما يستطيع، حيث حضّر للدبلوم، وحصل بعدها على شهادة دبلوم في الرياضيات من جامعة إكستر في بريطانيا، كما يقول خالد محيرز.
بعد عودته إلى عدن، بعد ثلاثة أعوام دراسية في إكستر، تبوأ موقع نائب العميد إلى جانب عمله كمدرّس لمادة الرياضيات. في تلك الفترة، شهدت الكلية حراكًا سياسيًا كبيرًا بسبب غليان الشارع بعد عدوان أكتوبر 1956 على مصر، وقد حاولت إدارة المعارف وعمادة الكلية كبحه. وحده، ظل صوت محيرز منحازًا إلى الطلاب طالما لم يسلكوا طريق العنف، خصوصًا بعد فصل الطالب عبد الله سلام ناجي بسبب اقتحامه حفلًا في الكلية وإلقائه قصيدة ثورية أغضبت العمادة.
وبعد ذلك بعشر سنوات تقريبًا، حينما كان عميدًا لكلية الشعب، لعب أدوارًا مهمة في تهدئة احتقانات الطلاب، حينما كانوا يأتون إلى الكلية وهم مدججون بالأسلحة في ذروة تنازع الجبهتين (القومية والتحرير) قبيل الاستقلال بفترة وجيزة. ويقول هشام علي:
"كانت عدن في أوج الحركة المسلحة ضد الاستعمار، وكانت بوادر الحرب بين الجبهتين قائمة. كان الطلاب جزءًا من هذه الحركة، وكانوا يأتون إلى الكلية مدججين بالسلاح، وبجوار الكلية كانت نقطة تفتيش للجيش البريطاني، وكان هؤلاء يتواترون على الكلية أو يحاصرونها بين حين وآخر.. يتحدث محيرز {الكلام لهشام} عن قيامه بنزع السلاح وإطفاء الاقتتال بين الطلاب، كان يجمع السلاح ويضعه في خزانة بالكلية حين تتعرض للتفتيش. لم تحتوِ خزانته في الكلية على نقود أو كتب أو وثائق، بل امتلأت بقنابل ومسدسات وأسلحة".
داهمت القوات البريطانية كلية عدن في العام 1966، وقبضت على عميدها الشاعر لطفي جعفر أمان، بعد أن رصدت مدفعًا رشاشًا ينتصب على سطح مباني الكلية، وتبين لها لاحقًا أن المدفع لم يكن سوى تلسكوب لنائب العميد عبد الله محيرز.
التطلّع إلى السماء
قبل انتقاله لكلية الشعب، انتدبته إدارة المعارف في السلطنة القعيطية كخبير تعليم في المكلا عام 1964، وهناك سيُسدي خدمات جليلة للتعليم عمومًا، ولتعليم الفتاة على وجه الخصوص، حينما قام باستقدام أول دفعة من المدرسات العربيات، اختارهن بنفسه من الضفة الغربية.
"كان يقيم في منزل خارج سدة المكلا (التي اختفت فيما بعد) يطل على العيقة (مجرى الوادي المتصل بالبحر) – وهو اليوم يُعرف بخور المكلا – يومها اكتشفنا آخر من اهتماماته التي لا تُحصى: اكتشفنا اهتمامه بالفلك، إذ نصب في سطح داره تلسكوبًا ليتطلع من خلاله إلى السماء والكواكب، وربما الأقمار الصناعية أيضًا. وكان بيته ملتقى نخبة من شباب المكلا المثقف، ومعظمهم من المهتمين بالسياسة بل والمشتغلين بها. ومع أن إقامته بالمكلا لم تطل، إلا أنه رصد مجيء السيول إلى العيقة"، كما يقول بافقيه.
وعلى ذكر التلسكوب، يُروى أن القوات البريطانية داهمت كلية عدن عام 1966، وقبضت على عميدها الشاعر لطفي جعفر أمان، بعد رصدها ما ظنته مدفعًا رشاشًا على سطح الكلية، وتبين لها لاحقًا أنه لم يكن سوى تلسكوب يخص نائب العميد عبد الله محيرز.
بعد الاستقلال مباشرة، وتحديدًا أواخر العام 1967، انتقل من كلية الشعب إلى وزارة التربية والتعليم (التي نشأت على أنقاض دائرة المعارف)، وتولى فيها صديقه محمد عبد القادر بافقيه الوزارة، الذي أوكل إليه دائرة العلاقات الخارجية، ومن خلالها قام بأول تواصل مع اليونسكو التي موّلت مشروع كلية التربية العليا، التي ستصير لاحقًا نواة جامعة عدن.
تجميع وثائق اليمن
في مطلع السبعينيات، انتدبه وزير الخارجية سيف الضالعي لشغل موقع المستشار الثقافي في سفارة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في لندن، ومن هناك بدأت رحلته مع تجميع الوثائق والمخطوطات والدراسات عن اليمن. ويختصر هذا العمل الجبار أستاذ التاريخ الراحل صالح باصرة بقوله:
نسخ وتصوير الوثائق البريطانية ذات العلاقة بشؤون اليمن خلال الفترة الممتدة من 1839م وحتى 1900م، والموجودة في المكتبات البريطانية ومنها المتحف البريطاني. وتوجد الأفلام الحاوية على تلك الوثائق في المكتبة الوطنية بعدن.
ترسيخ وتطوير المركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف كمؤسسة علمية أثرية تاريخية. ولعب هذا المركز خلال فترة قيادة محيرز له دورًا كبيرًا في مجالات عديدة، مثل جمع أرشيف مستعمرة عدن، وجزء من وثائق بعض السلطنات والمشيخات، وتوسيع دائرة التنقيب عن الآثار وصيانتها، وتأسيس مجموعة من المتاحف التاريخية.
المساهمة في حث منظمة اليونسكو لإدراج مدينة شبام ضمن قائمة الآثار الإنسانية ذات الاهتمام العالمي، وبالتالي الإعلان عن حملة دولية لصيانتها. وساهم الفقيد بعد ذلك في إدارة أعمال الحملة الوطنية والدولية لصيانة مدينة شبام وآثار وادي حضرموت، وعلى وجه الخصوص من خلال لجنة العمل الدولية للحملة.
تأسيس المكتبة الوطنية (مكتبة باذيب)، وكان الفقيد يطمح إلى جعل هذه المكتبة دارًا يمنية للوثائق والمخطوطات والمراجع ذات العلاقة بشؤون اليمن. وكان يمكن لهذه المكتبة أن تتطور في ذلك الاتجاه الذي رسمه لها، لكن أهواء السياسة وذاتيات القيادة المسؤولة عن شؤون الثقافة آنذاك حالت دون ذلك، وخاصة بعد فصل المكتبة عن المركز.
مراجع ومصادر
عبد الله أحمد محيرز – الأعمال الكاملة – وزارة الثقافة والسياحة، 2004
أستاذ الرياضيات وعاشق التاريخ – كتاب تأبين، 1991
هشام علي، عبد الله محيرز وثلاثية عدن – مركز عبادي، 2002