ميدان الشهداء: الدم والكأس

من ساحة إعدام إلى فضاء متسع للحياة والحرية
عبدالملك الجرموزي
April 29, 2025

ميدان الشهداء: الدم والكأس

من ساحة إعدام إلى فضاء متسع للحياة والحرية
عبدالملك الجرموزي
April 29, 2025

نهار الـ23 من أبريل 1964م، كانت مدينة تعز جنوب غربي البلاد، على موعد مع حدث عظيم، بطله الزعيم العربي الراحل الرئيس جمال عبدالناصر.

تربع الرئيس ناصر منصة ميدان الشهداء على سفح جبل صبر في مدينة تعز، أمامه الآلاف من اليمنيين الذين كانوا سعداء جداً بتحية البطل القومي بكل حب، وبجواره وخلفه قيادات ثورة الـ26 من سبتمبر المجيدة، التي أنجزت قبل نحو عامين من ذلك التاريخ بمساندة من  (الجمهورية العربية المتحدة) ، ونقلت اليمن من حكم إمامي كهنوتي مستبد إلى جمهوري جاء معبراً عن طموح الشعب اليمني في بناء مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية.

الرئيس جمال عبد الناصر في تعز أبريل 1964

على وقع الاحتفاء الجماهيري، ارتسمت على محيا الرئيس ناصر ابتسامة رضا - وقد حفزه امتنان اليمنيين لمساعدته في نجاح ثورتهم -،على أن يقف بشموخ وثبات وتحدٍ، ليخاطب الحشود اليمنية بخطبة وصفت بالتاريخية، تحدث فيها عن اليمن التاريخ والمجد والأثر الفاعل في نصرة الدين الإسلامي.

من ذات المنصة، التي كانت تطل على مساحة ترابية واسعة تخضبت بدماء الشهداء، وجه الرئيس ناصر رسالة حازمة لبريطانيا :" على العجوز الشمطاء بريطانيا، أن تحمل عصاها وترحل من عدن والجنوب المحتل"، كان ذلك بعد انطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963من جبال ردفان بـ 6 أشهر فقط ، وقبل المغادرة الكاملة لكل الجنود البريطانيين في أواخرشهر نوفمبر 1967. 

الزعيم العربي عبر عن إعجابه بعدم استكانة الشعب اليمني للحكم الامامي وثورته الدائمة على العبودية وحكم الاستبداد غير آبه بالموت والسجون، مؤكداً بأن " الله أراد لثورة 26 سبتمبر أن تنتصر، فانتصرت". 

لمحافظة تعز قدرة عجيبة على تحويل زوايا الخوف إلى أمكنة دافئة بالمحبة، مثلما حولت ساحة الإعدام الموحشة إلى ميدان متسع للحياة والانتصارات والبهجة.

ورغم سطوة الإمام أحمد بن حميد الدين الذي حكم اليمن من مدينة تعز  منذ مقتل والده الامام يحيى بضواحي صنعاء في فبراير 1948 ، ثم سنوات الخمسينات وسنتين من مطلع ستينيات القرن الفائت، إلا أن ميدان العرضي الذي كانت تنفذ فيه أحكام الإعدام الامامية- وكان شاهداً على قطع رؤوس عدداً من ثوار- كانت تقام فيه أيضاً ـ وعلى غفوة من المجازر ـ بعض الألعاب الرياضة، ليبتهج الناس الذين لم تغادرهم بعد مشاهد الإعدامات البشعة المختلطة بعظمة وشجاعة الشهداء الذين واجهوا الموت بثبات مثير للإعجاب، ومنها احتفالات عيد النصر، الذي كان ينظمه المقام ( سلطة الإمام) كل عام بمناسبة انتصاره على  حركة الجيش في مارس 1955، والتي ارادت الانقلاب علية وتنصيب شقيقه سيف الاسلام عبدالله إماماً جديدا للبلاد.

فقبل 70 سنة ، اُقتيد الثائر أحمد يحيى الثلايا، قائد الجيش الذي قاد الانقلاب 1955م ، إلى ساحة الإعدام، حيث تحدى الموت بجسارة، وأطلق في وجه الطاغية كلمات كان وقعها أشد عليه من الرصاص حين قال.

"لا يهمني الإعدام أبداً، ولست خائفاً منه بتاتاً، وأنا ما ثرت إلاّ من أجل الشعب اليمني العظيم والمطحون"،  فحاول الإمام أحمد السيطرة على الموقف مراهناً على خوف الناس وجهلهم، وتاركاً لهم محاكمة واحد من أبرز أبطالهم ، فحكموا عليه بالإعدام.

الشهيد الثلايا قبيل إعدامه في أبريل 1955

 لكن الثلايا رماهم بعبارات عتاب ملتهبة كانت أخر ما نطق به، وعززت انتصاره على الإمام:" لقد أقدمت على ما أقدمت عليه وكنت مرتاح الضمير جداً.. لقد ثرت من أجلكم، من أجل أن تعيشوا كما يعيش البشر"

مشهد بطولي عظيم تتذكره أجيال الثورة السبتمبرية بفخر، وقد خُلد صاحبه في أنصع صفحات التاريخ اليمني الحديث، فيما غدت تلك الساحة الموحشة، بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 ميداناً  سُمي بـ"للشهداء" تكريماً لهم.

في هذا المكان فشل ضجيج الطغاة في اسكات المطحونين والحالمين بغدٍ أفضل، واختلطت أصوات المناضلين والزعماء بهتافات الثوار وأهازيج وتصفيق الجماهير للرياضة والفن والعروض العسكرية المهيبة، ولا تزال ساحته المفتوحة عابقة بدماء الشهداء الزكية، والشعارات الوطنية الرافضة للظلم والعبودية.

يقع ميدان الشهداء في قلب مدينة تعز، تحيط به مبانٍ أنيقة لدوائر ومؤسسات حكومية أمنية وعسكرية ومالية، ومنها ماكان يسمى بقصر العرضي ( المقام الشريف) وتلتف حوله عدداً من الأحياء الشعبية فيما يعرف  بحي الجحملية.

في هذا المكان فشل ضجيج الطغاة في اسكات المطحونين والحالمين بغدٍ أفضل، واختلطت أصوات المناضلين والزعماء بهتافات الثوار وأهازيج وتصفيق الجماهير للرياضة والفن والعروض العسكرية المهيبة، ولا تزال ساحته المفتوحة عابقة بدماء الشهداء الزكية، والشعارات الوطنية الرافضة للظلم والعبودية.

في العام 1977، تحول ميدان الشهداء إلى ملعب رسمي، وشهد عمليات تأهيل وتطوير كان أخرها في أغسطس 2024، بعد توقف ثلاث سنوات (مايو 2015- مايو 2018)، بسبب الحرب، ليصبح الملعب جاهزاً لاستقبال الأنشطة والمسابقات الرياضية والكرنفالات الفنية، وتدريبات الأندية.

يواصل "الشهداء" الاحتفاء بالأبطال والأحرار متباهياً بأجيال ثورة 26 سبتمبر، ومن على منصته ترفع كؤوس النصر، وتتعالى أصوات الأغاني الوطنية والحب والسلام. 

•••
عبدالملك الجرموزي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English