الاضطرابات النفسية في ذمار

لا تخلو أسرة من المصابين
صقر أبو حسن
October 11, 2022

الاضطرابات النفسية في ذمار

لا تخلو أسرة من المصابين
صقر أبو حسن
October 11, 2022

على مدى 16 عامًا وعبد الرحمن لم يرَ الشمس غير مرات معدودة، فقد حاصره القيد طوال تلك السنوات بعد رحلة استمرت خمس سنوات من البحث عن الأمل، لكن بصيص الأمل في شفائه من الاضطرابات النفسية تبدّد أو كاد، لتطوى سنوات عمره بين الكثير من النوم والهذيان والصمت الطويل.

تقول شقيقته الصغرى والوجع يملأ عبارتها: "أخي خريج ثانوية، لكنه مَرِض، وكان يشرد أغلب الوقت، واعتزل الناس وبدأت حالته تتغير. لم نترك بابًا إلا وطرقناه، ولا وصفة شعبية ولم نطبقها، قبل وفاة أبي بسنتين كنّا نذهب إلى صنعاء لعلاج أخي، كان يتحسن بشكل بطيء جدًّا، ولكن بعد وفاة أبي توقفنا عن علاج أخي".

لم تستطع الأسرة المكونة من ثلاثة أشقاء وسبع شقيقات مواجهةَ ظروف الحياة اليومية وتحمل أعباء العلاج لشقيقهم، بعد بضع سنوات، داهم ذات المرض -الاضطرابات النفسية- الأخَ الأوسط ليدخل ذلك الشاب، الذي أوقف دراسته الجامعية ويعمل على دراجة نارية، في حالة من التوهان، في وادٍ لا يوجد فيه صديق أو قريب، الأوهام فقط.

تضيف شقيقته لـ"خيوط"، بالقول: "أخي عمار لديه ولدان وكان يطلب الله (يعمل)، فجأة بدأ يتغير. الآن بمساعدة فاعلي الخير نعطيه أدوية، وحالته مستقرة، لكن إذا تأخر العلاج تستاء حالته كثيرًا".

لم تطحن رحى المرض النفسي الرجالَ وحسب، بل النساء كذلك، لتدفع بنصف المجتمع إلى هاوية المعاناة. بؤس لا يتوقف عندما يكون المريض النفسي امرأة، في مجتمع شديد الخصوصية.

تتذكر طوال تلك السنوات، رحالة الشقاء والخوف من العيش بين شقيقَين لا يدركون ماذا يعملون: "أخي الآخر عبدالرحمن مقيّد (تم وضع السلاسل على قدميه) لأنّه يقوم بضرب كل من يقترب منه، في حين أخي عمار بدون قيد يخرج ويدخل، لأنه مسالم. حياتنا كلها تعب وهم وخوف وبكاء ليلَ نهار".

القات يزيد من الاضطرابات

تعد الوصمة الاجتماعية من أهمّ المشاكل التي تواجه الطب النفسي في اليمن، بحسب الاستشاري في الأمراض النفسية والعصبية، الدكتور عبدالله خالد الشرعبي، مؤكِّدًا أنّ المرض النفسي أحد ثمانية أمراض ضمن التصنيف العالمي، إذ يعتبر المرض النفسي مثل أيّ مرض آخر، لكن النظرة الخاطئة أو ما يسمى الوصمة الاجتماعية -رغم أنه مرض طبيعي والمريض قابل للشفاء- تعد مشكلة حقيقية لا بدّ من تجاوزها.

ويشير إلى أنّ الظروف الاجتماعية وما تمرّ به البلاد من حروب، يزيد المرض النفسي بشكل كبير، كذلك القات له نسبة كبيرة في رفع نسبة المرض النفسي، ويلجأ إليه المريض للهروب من الواقع.

كما أنّ هناك مشكلة أخرى تواجه الطبيب النفسي، تتمثّل في عدم تقبُّل العلاج من قبل المريض وأسرته كما يؤكِّد الدكتور الشرعبي، نظرًا لعدم التوعية بخطورة المرض النفسي، وهو ما يتطلب النشر والتوعية بالثقافة الصحية والعلاج النفسي.

ويرجع سبب كثير من الأمراض النفسية التي تصيب المواطن اليمني إلى الاكتئاب الذي يقف على رأس القائمة، يليه الهوس، والانفصام، والخوف لدى النساء والأطفال.

من جانبه، يلفت رئيس مركز الرحمة للصحة النفسية، في تصريح لـ"خيوط"، إلى أنّ المركز استقبل منذ شهر أبريل/ نيسان من العام 2018، وحتى نهاية شهر سبتمبر/ أيلول من العام الحالي 2022، نحو 6444 مريضًا؛ منهم 3826 من الذكور، و2597 من الإناث، و21 طفلًا، ما يكشف حجم المأساة التي تحيط بحياة اليمنيين من انتشار الاضطرابات النفسية، موضحًا أنّ المرض النفسي أخطر بكثير من أي مرض آخر، كونه لا يصيب الفرد فحسب، بل يؤثر على الأسرة والمجتمع.

كان الغليبي يتحدث وهو يطالع إحصائيات المركز، عندما أردف قائلًا: "المرض النفسي لم يعد يصيب فردًا في الأسرة، بل تجاوز ذلك إلى إصابة أكثر من فرد، هناك عددٌ كبير من الحالات في مدينة ذمار، هناك أكثر من مريض داخل البيت الواحد، ذكورًا وإناثًا، وهذه المشكلة مخيفة وخطرة".

النساء فريسة للمرض

لم تطحن رحى المرض النفسي الرجالَ وحسب، بل النساء كذلك، لتدفع بنصف المجتمع إلى هاوية المعاناة. بؤسٌ لا يتوقف عندما يكون المريض النفسي امرأة، في مجتمع شديد الخصوصية. وتشير عزة الأسدي، ناشطة مجتمعية، في حديث لـ"خيوط"، إلى أنّ في محافظة ذمار المئات من حالات الإصابة بالاضطرابات النفسية لدى النساء والفتيات، يتم تقييدهن وحبسهن في المنازل، دون أن يُقدَّم للسواد الأعظم منهن أي رعاية أو علاج نفسي.

أخصائية نفسية: "الإنسان يعيش حياته بين قطبين إذا اقترب من أحدهما سبّب له اضطرابات نفسية، وإذا كان الانفعال يفوق الحدث أو ردة فعل مبالغ فيها، فهذا مؤشر على وجود اضطرابات نفسية، وعلى العكس من ذلك، إذا كانت ردة الفعل سلبية وتوحي بأي محرك للمشاعر، فهذا مؤشر على وجود مشكلة نفسية".

كما أنّ هناك حالات مصابة بأمراض نفسية لشقيقات أو عدة إخوة داخل البيت، وفق الأسدي، وهي أخصائية نفسية في مركز الإرشاد النفسي بجامعة ذمار. وتضيف: "نواجه حالات شديدة المعاناة لنساء مصابات بالأمراض النفسية عجزت أسرهن عن علاجهن أو تقديم أي رعاية نفسية لهن".

تسرد الأسدي تفاصيل حكاية إحدى النساء، (أم مروان) التي تعاني منذ خمس سنوات من "اضطراب قلق الانفصال" لتبقى مسجونة بين جدران منزل أسرتها بعد طلاقها من زوجها الذي فضّل تركها بعد إصابتها بالمرض، والزواج بأخرى. مرض النساء يمزّق كيان الأسرة ويُفقد الأبناء الدفء، ليجدوا أنفسهم يعاركون الحياة بيدٍ خالية إلّا من الأمل.

وترى هيفاء شعبان، أخصائية نفسية، أنّ سنوات الحرب صنعت متغيرات كثيرة للمجتمع اليمني، وخلقت ظواهر لم تكن موجودة في اليمن. وقالت لـ"خيوط": "الاضطرابات النفسية في اليمن، بدأت تظهر على السطح أحدَ نواتج الحرب وتردي الظروف الاجتماعية والاقتصادية في النساء والرجل". وأوضحت أنّ الصحة النفسية التي ينشدها الجميع تحتاج إلى اتزان وتقبُّل للوضع الحالي ومحاولة التكيف معه.

مضيفة: "الإنسان يعيش حياته بين قطبين، إذا اقترب من أحدهما سبّب له اضطرابات نفسية"، وتفسر الأخصائية النفسية ذلك، بالقول: "إذا كان الانفعال يفوق الحدث أو ردّة فعل مبالغ فيها فهذا مؤشر على وجود اضطرابات نفسية، وعلى العكس من ذلك، إذا كانت ردة الفعل سلبية وتوحي بأي محرك للمشاعر، فهذا مؤشر على وجود مشكلة نفسية".

عيادة ومركز

منذ أربع سنوات، ومستشفى الأمراض النفسية يقترب من التحقيق بعد إنجاز نحو 80% من تجهيزات المبنى، وفق تأكيدات رئيس اللجنة المجتمعية، محمد اليفاعي، الذي يؤكِّد لـ"خيوط"، اقترابَ افتتاح المستشفى ليكون البداية لنشر ثقافة الصحة النفسية وعلاج الحالات المرضية التي أصابت الآلاف من المواطنين من مختلف الأعمار والفئات، مشيرًا إلى أنّ مرضى الاضطرابات النفسية جلّهم من الفئات الفقيرة والمطحونة في المجتمع.

في محافظة ذمار، أربع مؤسسات حكومية ومدنية تقدّم الدعم النفسي والعلاج النفسي، هي: "مركز الرحمة للصحة النفسية"- دعم وعلاج نفسي، "اتحاد نساء اليمن بذمار، المساحة الآمنة للنساء والفتيات"– مغلقة، "مركز الإرشاد النفسي" التابع لجامعة ذمار- متوقف عن العمل حاليًّا، "مكتب إدارة الحالة، مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل بذمار"- دعم نفسي مخصص للأطفال. وكذلك عيادة واحدة تقدّم الدعم والإرشاد النفسي، يديرها الأخصائي والباحث في مجال علم النفس، فازع الآنسي، أضافة إلى وجود قسم بكلية الآداب تخصص "علم النفس" تأسس عام 2000، وتخرج منه المئات من الطلاب والطالبات يحملون "بكالوريوس في علم نفس"، رغم ذلك كله، فمرضى الاضطرابات النفسية حاضرون في يوميات الوجع اليمني، غائبين عن الرعاية والاهتمام العام، وأفلت الجميع أيديهم عن أياديهم ليلتهمهم الوهم والمرض.

•••
صقر أبو حسن

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English