الرجال يتحرّشون والنساء يصمتن

تبعات الإيذاء في بيئة تحمي الجناة لا الضحايا
آزال الصباري
March 12, 2024

الرجال يتحرّشون والنساء يصمتن

تبعات الإيذاء في بيئة تحمي الجناة لا الضحايا
آزال الصباري
March 12, 2024
.

"عندما أرى زميلاتي وقد تخرجن من الجامعة، وأصبحن مستقلات ماديًّا، أقول لنفسي: ماذا لو لم أصرخ يومها وأفضحه أمام الناس، ماذا لو تركت يده تعبث بالجزء الذي وصلَت إليه من جسدي؟ أنا نادمة، لقد عاقبت نفسي حينما قررت معاقبته!". 

بعيون ذابلة تحددها تجاعيد مبكرة، وبتلك العبارة المكتظة بالحسرة، تفتح ياسمين حميد (اسم مستعار- من صنعاء)، قصتها لـ"خيوط"، بعد أن اغبرَّت أحلامها في رفوف النسيان، وبقيت هي من بين تلك الرفوف، تراقب زميلاتها وهن يصلن إلى ما لم تستطع الوصول إليه. 

تكمل ياسمين بعض تفاصيل قصتها لـ"خيوط"، قائلة: "في الحافلة شعرتُ بيدٍ من خلف الكرسي تتلمّس خاصرتي، ارتعبتُ، لملمتُ جسدي قليلًا، أغمضتُ عيني، فإذا باليد تلتف من ناحية النافذة وتقبض بصدري، صرختُ بأعلى صوتي، فالتفتَ جميع مَن في الحافلة...، انهال الناس عليه بالضرب والسب، توقفت الحافلة، أنزلوه مهانًا، وواصلتُ المسير إلى الجامعة، ظللت أرتجف طوال الطريق، وأشعر بالخجل. ظلت الحادثة عالقة في ذهني أيامًا، ثم اعتقدت أنّ الأمر انتهى هناك، ولم أكن أدري بأن الكارثة بدأت حينها. فقد بدأ يلاحقني في كل مكان، أراه خلفي في الحافلة، أمام بوابة الجامعة، لم يترك زقاقًا ولا منعطفًا إلا وسلكه ليخيفني...".

ثم تختصر حكايتها الطويلة، وتختم حديثها وتقول: "ربما لو لم أصرخ أمام الناس وأفضحه في ذلك اليوم، لَمَا استمرّ بملاحقتي، حتى علم إخوتي بالأمر، وقرروا إيقافي عن الدارسة. أنا نادمة كوني صرخت وفضحته، لقد خسرت كل شيء".

تصمت المرأة ولا تُبدِي أي ردة فعل سوى الانكماش حول ضعفها؛ خوفًا من نظرة المجتمع، أو من عقاب أسرتها الذي سرعان ما يتحول من التوبيخ إلى التعنيف وحرمانها من الخروج للعمل أو للدراسة أو لأي غرض حياتي آخر.

ما هو التحرش؟

في اليمن قصص كثيرة تشبه إلى حدٍّ كبير ما حدث لياسمين، بل هناك قصص تتفوق عليها ألمًا ومعاناة. وتنتهي غالبية تلك القصص بالصمت؛ تصمت النساء اللواتي يتعرضن للتحرش، فلا يصرخن في وجه المتحرش، وقد يصبح ما يتعرضن له سرًّا في رفوف المحظورات، فقليلًا ما تقرر إحداهن فضح المتحرش، وهنا عليها أن تتحمل نتيجة قرارها، تمامًا كما تحمّلت ياسمين نتيجة فضحها للمتحرش. 

ويُعرَّف التحرش بأنه مُضايقة، أو فعل غير مرحب به من النوع النفسي أو الجنسي أو اللفظي أو الجسدي. يتحول من مجموعة من الألفاظ والتلميحات البسيطة إلى المضايقات الجادّة التي من الممكن أن تُلحق ضررًا كبيرًا في حاضر الإنسان ومستقبله، خلافًا للضرر النفسي الذي تعانيه الضحية. ويعتبر التحرش شكلًا من أشكال التفرقة العنصرية والتمييز غير الشرعي بحق الأفراد، وقد يتجلى في شكل من أشكال الإيذاء الجسدي أو الجنسي أو النفسي والاستِئساد على الآخر.

وفي اليمن، يُمارس الرجل ذلك الاستئساد ضد المرأة؛ إما لينتقصها ويضايقها، وإما محاولة منه للنيل منها بطريقة أو بأخرى ملبِّيًا نداء غرائزه التي يسرح بها كيف يشاء. 

في الآونة الأخيرة، تحول التحرش من حالة نادرة إلى ظاهرة خطيرة تعكر صفو يوميات النساء وأسرهن، لا سيما أولئك اللاتي يخرجن للعمل أو للدراسة فيتعرضن للتحرش اللفظي. 

مجتمع يصطف ضد الأنثى

تصمت المرأة ولا تُبدي أيّ ردة فعل سوى الانكماش حول ضعفها؛ خوفًا من نظرة المجتمع أو من عقاب أسرتها الذي سرعان ما يتحول من التوبيخ إلى التعنيف وحرمانها من الخروج للعمل أو للدراسة أو لأي غرض حياتي آخر، أو لأنّها تربت في أسرة تقر بخضوع وخنوع المرأة للذكر منذ الصغر، فالتنشئة الأسرية في المجتمع اليمني، غالبًا، تعتمد على التمييز بين الذكر والأنثى منذ نعومة الأظافر. فالأخ يعنّف أخته حتى لو كان أصغر منها، حتى إنّ أي ذكر في العائلة يحق له أن يُشرِف على تحركات الفتاة وأقوالها، وحتى على نبرة صوتها، فكيف يمكن لتلك الأنثى الضعيفة أن تصدر ردة فعل أو مقاومة في مجتمع يمنح القوة والثقة للذكر، فتنشأ الفتاة منذ الطفولة وحتى الوفاة، ضعيفةً، منكسرة وذليلة.

لتلك الأسباب وغيرها، يزداد التحرش وتفشل أمثال ياسمين، في إيقاف الخطر الذي يحدق بها، وتفشل فزعة الناس -إن وجدت- إذ لا يزال المجتمع، رغم نخوته وامتعاضه من التحرش، يحمي المتحرش بقصدٍ أو بدون قصد، ويعيب على الضحية ويحمّلها السبب الرئيسي في حدوث الجرم. 

وفي هذا الصدد، يتحدث لـ"خيوط"، الدكتور المحامي عبدالله سلطان شداد، فيقول: "إنّ ازدياد التحرش يرجع إلى أكثر من سبب؛ من ذلك الثقافةُ المجتمعية تجاه المرأة بالاعتقاد أنها تمثّل للرجال وعاء جنسيًّا لا أكثر، إضافة إلى الثقافة الجنسية لدى المراهقين والشباب، وحتى عند الرجال كبار السن، التي تنحصر في ذهنيتهم حول الممارسة الجنسية، وهذا ما يدفعهم للتحرش بأي امرأة ولو كانت كبيرة في السن، وهذا النوع من التحرش يتمثل في الفعل اللفظي في الغالب، ومن خلال مضايقة النساء أثناء مرورها في الشوارع أو الأسواق". 

ويردف قائلًا: "إضافة إلى ضعف الثقافة والتربية في المدرسة والبيت والجامعة بشأن العلاقة التي تحكم الرجل والمرأة، والتصور الذهني بأن المرأة فقط سلعة مخصصة للرجال للاستمتاع عندما يرغب بها رجل أو شاب".

وفي نفس السياق، تقول الدكتورة فدوى عبدالمعطي، اختصاصية علم الاجتماع، جامعة القاهرة: "للأسف نشأت مجتمعاتنا على التعامل مع المرأة، كأنها مجرد مُكمل للجنس الأساسي وهو الرجل، وبناءً على صورة النقص والاحتياج الدائم للرجل، تحول مجتمعنا إلى مجتمع ذكوري بحت، مهما حاول إظهار أو ادعاء غير ذلك، ومن هنا كان انتهاك حقوق المرأة أثناء ممارسة حياتها الطبيعية أمرًا هينًا لا يُنظر له بعين الاعتبار".

قصور قانوني

يعد القانون اليمني أحد العوائق الأساسية التي تقف وراء فشل الحد من التحرش الجنسي؛ فلا توجد نصوص قانونية واضحة ومحددة لمعاقبة أفعال التحرش، حيث اكتفى القانون اليمني بمعاقبة الفعل الفاضح، على النحو المبيّن في المادة 273 في قانون العقوبات اليمني، فإنه يتم تجريم أي عمل يسيء إلى الآداب العامة أو الشرف أو القيام بكشف المناطق الخاصة أو التحدث بطريقة مسيئة. كما أنّ المادة 274 من نفس القانون، تنص على معاقبة أي شخص يرتكب فعلًا فاضحًا يمكن رؤيته أو سماعه من قبل الآخرين، بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بدفع غرامة. وتلك ثغرة في قانون العقوبات، حيث إنّه لا يعطي تعريفًا واضحًا لما يقصد به من مخالفة الآداب العامة، وهذا يجعله خاضعًا لفهم المنفذ لهذا القانون، ممّا قد يؤدّي في بعض الأحيان إلى عواقب وخيمة للنساء.

في نفس اليوم الذي عادت فيه جليلة من الخطف، قام أبوها بقتلها والتخلص منها، ووصفه الناس بالرجل العظيم لأنّه غسل عاره بيده، بينما عوقب الخاطف بالحبس بضعة شهور ثم أُفرِج عنه.

من التحرش إلى الموت 

إنّ عقوبة أي جرم أخلاقي بين الذكر والأنثى، يجب أن تدفع ثمنه الأنثى وحدها، هذا ما تنص عليه موروثات العيب في المجتمعات الشرقية، لا سيما المجتمع اليمني الذي يكاد يحتل المرتبة الأولى في هذا الشأن، وهذا السبب كافٍ ليجعل الضحية (المرأة) تؤثر الصمت وتأنس إليه، لا سيما أنها تراقب عن كثب، ما يحدث لنسوة كثر تعرضن لمواقف أودت بحياتهن، إما إلى الحبس بين أربعة جدران أو إلى الموت على يد أقرب الناس. ومِن ثَمّ، فإن الجاني (المتحرش) يعيش في بيئته المناسبة التي تحميه وتحيطه بالحصانة الدائمة، فالذكَر في قوانينها المتغطرسة مخلوق حر ينقض على فريسته متى شاء، ما دامت قد اعترضت طريقه بمفاتنها المحركة لغرائزه الحيوانية، وهو بريء، بحسب الموروث.

إلى "خيوط"، انضمّت غدير حسن (اسم مستعار)، طالبة في الصف الثاني الثانوي، منطقة السواد، صنعاء، لتروي قصة جارتها التي ذهبت ضحية التحرش، وتقول: "جارتنا جليلة -التي هي بنفس سني- سكنت في حارتنا بعد أن تزوجت بشهر، وسافر زوجها بعد الزواج بشهور قليلة إلى السعودية ليكمل غربته. كانت جارتي جليلة تحكي لي عن شخص يلاحقها كلما خرجت من البيت، وكانت تخبرني دائمًا أنها تدعو الله أن يسهل دخولها عند زوجها قريبًا، كي تتخلص من هذا الكابوس...".

تواصل غدير لـ"خيوط"، سرد حكاية جارتها جليلة، تقول: "بعد مرور فترة لم تتجاوز العام، فجأة وبدون مقدمات أخرى اختفت جليلة، استمر البحث عنها ثلاثة أيام قبل أن يجدوها مع رجل غريب، وكان ذلك الرجل هو نفسه الذي كان يلاحقها، بحسب حديث جليلة سابقًا، واعتراف الخاطف لاحقًا، في نفس اليوم الذي عادت فيه جليلة من الخطف، أفرغ الأب ثلاث طلقات على رأس ابنته، ماتت جليلة وكُفّنت وقُبرت في نفس الليلة. بالنسبة للأب، كان قد حظي بتأييد عظيم من رجال الحي، ووصفوه بالرجل العظيم لأنه غسل عاره بيده، بينما عوقب الخاطف بالحبس بضعة شهور ثم أفرج عنه".

الأكثر شيوعًا في عواقب التحرش، الاكتئابُ والقلق، وحتى اضطراب ما بعد الصدمة، وبعض الأبحاث وجدت أن التحرش الجنسي بالشخص في وقت مبكر من حياته، يمكن أن يسبب أعراض اكتئاب طويلة الأمد.

من التحرش إلى الطلاق

تروي نسوةٌ لـ"خيوط"، قصصًا من الألم والمعاناة كان سببها التحرش، فتقول تغريد (٣٥ عامًا)، لـ"خيوط": "أنا امرأة مطلقة، والتحرش كان سبب طلاقي وحرماني من أطفالي..."، وتردف قائلة: "كنت سعيدة بزواجي طوال سنوات، لدي أطفال وكل مقومات العائلة المستقرة، وبعد أن ظل ذلك الرجل المجهول يلاحقني أينما ذهبت، حتى حين أتسوق مع أطفالي، خفت، وبعد كثير من التردد، أخبرت زوجي بما يحدث معي، لكنه منذ تلك اللحظة وبدلًا من أن يُوقف الرجل عند حدّه، اختار أن يحاصرني بظنونه ويلاحقني بشكوكه، وانتهى به الحال إلى الطلاق، وحرماني من صغاري".

رمت بنفسها من الحافلة 

من القصص المؤلمة حادثة (بثينة)، التي وقعت في 4/ 9/ 2023، وتداولها الناشطون والحقوقيون على نطاق واسع، حيث عُثر على بثينة ملقاةً تحت جسر حدة المدينة في صنعاء، وهي تعاني من كسور ورضوض في كامل جسدها وقد كانت في غيبوبة تامة. ماتت بثينة فور وصولها إلى المستشفى، وبعد الاطلاع على كاميرات المراقبة، اتضح أنّها ألقت بنفسها من على باص يستقله سائق وأشخاص آخرون. فضّلت بثينة أن ترمي بنفسها؛ لأنها تعلم علم اليقين أن الموت هو مصيرها الحتمي، سواء واصلت الطريق برفقة المتحرشين أو ألقت بنفسها من أعلى الجسر.

آثار نفسية ومعاناة لا تتوقف

أشارت منظمة الأمم المتحدة للمرأة، أنّ حوالي 80% ممن يتعرضن للتحرش الجنسي، لا يُفصحن عن الأمر، ولا يستطعن أخذ أي إجراء ضد المعتدي. تلك الإحصائية تشرح أن الكبت الذي تتعرض له النساء، يجعل من ذكريات حادثة التحرش وحشًا مفترسًا يلاحق الضحية، يدعم ذلك الكثير من الدراسات النفسية التي تشير إلى أن ضرر التحرش لا يقتصر على ما تشعر به الضحية حينها من نوبات بكاء وخوف، أو ما تتعرض له من خسائر كالتوقف عن العمل أو الدراسة... إلخ، بل إنّ الضرر قد يلحق بالضحية نفسيًّا على الأمد الطويل، فتشعر الضحية بالرغبة في العزلة، وفقدان الثقة بالذات والأمان، وتدني احترام الذات، واضطرابات في النوم مع كثرة الكوابيس والتخيلات، وتنعكس تلك الأعراض على جسد الضحية، فتنهك صحته وتضعف مناعته، مما يجعله أكثر عرضة لكثير من الأمراض الخطيرة، بينما قد تصل بعض الحالات إلى محاولة الانتحار.

وفي هذا الصدد، تشير الطبيبة النفسية كولين، إلى أن التشخيص الأكثر شيوعًا بالنسبة لضحايا التحرش الجنسي، هو الاكتئاب والقلق، وحتى اضطراب ما بعد الصدمة، وبعض الأبحاث وجدت أن التحرش الجنسي بالشخص في وقت مبكر من حياته، يمكن أن يسبب أعراض اكتئاب طويلة الأمد، وفقًا لموقع "إن بي سي نيوز" الأمريكي.

إذن، نحن بحاجة إلى رفع مستوى الوعي عند المجتمع، وكسر حاجز الصمت عند الضحية، ما لم، فسوف يتمادى المتحرشون في تغطرسهم، وسيصبح التحرش هوايةً يمارسها كثيرون دون حرج أو خوف أو أدنى شعورٍ بتأنيب الضمير، يشجّعهم قانون غير واضح، وثقافة مجتمع ملغومة تنفجر في وجه الأنثى من كل الجهات.

وفي نهاية المطاف، لن تتضرّر المرأة وحدها من التحرش، بل ستنعكس جريمة التحرش الفردية على علاقات المجتمع، وستُضعِف تماسكه، وحتمًا ستطفو على السطح مشكلات أخرى أشدّ ضررًا وأكثر خطورة.

•••
آزال الصباري

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English