رحلة استصدار جواز سفر

مأرب حين تحتاج تعريفًا باليمنيين!
عبد الرحمن حسن مجمل
October 9, 2023

رحلة استصدار جواز سفر

مأرب حين تحتاج تعريفًا باليمنيين!
عبد الرحمن حسن مجمل
October 9, 2023
.

يعيش اليمنيون ومنذ ما يزيد على تسعة أعوام من الحرب، معاناة مريرة شملت شتى مجالات الحياة، وتمت مصادرة معظم حقوقه إن لم يكن كلها، وبات يحلم كل فرد من أبناء هذا الشعب، وخصوصًا الشباب، بالهجرة والسفر بعيدًا عن كل هذا الجحيم الذي يرزح فيه، بيد أن معظم هؤلاء الشباب لا يدرك أن الطريق إلى ذلك لن يكون محفوفًا بالورود، وأن مفتاح السفر، المتمثل في جواز السفر، يتطلب الحصول عليه جهدًا ومعاناة تجعل من قاساها يتناسى فكرة السفر بحد ذاتها، فقد أمعنت الحرب حتى النخاع في تمزيق البلاد.

كغيرنا من الشباب الذين يحلمون بأي فرصة للسفر خارج هذا الوطن المكلوم، إما للحصول على تعليم أفضل أو على عمل مناسب يدر دخلًا أفضل من أجل أن يعيش حياة كريمة هو وأسرته، فكرت مع أحد أصدقائي أن نعمل على استصدار جواز سفر على أمل أن يحالفنا الحظ بفرصة ما لمواصلة تعليمنا في الخارج، وطرحت أمامنا المحافظات التي تُستصدر منها الجوازات عادةً (عدن أم تعز أم مأرب)، وقد وقع اختيارنا على محافظة مأرب لسبب ستعرفونه لاحقًا!

في بداية الأمر، بدا لنا أنها ستكون رحلة ممتعة، لكن ما كشفته لنا ساعات السفر كان خلاف ما كنا متأملين، فقد عشنا تجربة لا تكاد تنسى من ذاكرتنا لزمن طويل، تُنبئ عن غيض من فيض من مخرجات هذه الحرب الظالمة. سأتوقف هنا ولن أطيل الاستطراد، وسأسرد لكم فصول رحلتنا ليس للاستمتاع أو للوقوف لحظة حزن لما جرى فيها؛ بل لكي نعرف جميعًا مدى بشاعة الحرب وتجارها، ولعلها تمثل حافزًا يؤازر الحوافز الأخرى من أجل الدفع لإنهاء هذه المعاناة، ولنعيد لليمن السعيد اسمه ومكانته.

كانت البداية مع ضابط الأمن الموجود في فرزة مأرب، فقد طلب السائق أن نعطيه هوياتنا، ليقوم بإعطائها لضابط الأمن من أجل تسجيل بيانات المسافرين لاستصدار ما بات يعرف بـ(الكوشن) وتمثل تصريح سفر.

وقف ضابط الأمن عند نافذة السيارة وصار يوجه بعض الأسئلة للمسافرين، والتي سنعتاد على سماعها طوال هذه الرحلة في أكثر من ثلاثين نقطة تفتيش! ينظر الضابط إلى البطائق الشخصية ويسأل: أين فلان؟ من أين أنت؟ وإلى أين تذهب؟ وما الغرض من ذهابك؟ وهي الأسئلة التي ستتكرر علينا طوال هذه الرحلة المضنية.

تحركت عجلات السيارة معلنة بداية الرحلة التي يكتنفها الغموض منذ الوهلة الأولى، وبدأت مع صديقي نتبادل أطراف الحديث ونحن نظن أن رحلتنا ستكون سعيدة وممتعة، ولكن ...!

على بوابة الخروج من العاصمة صنعاء تستوقفنا نقطة تفتيش، لا يعني هذا أننا لم نمر بنقاط تفتيش قبلها، ولكنها كانت نقطة التفتيش الأولى التي كشفت لنا عن بداية إجراءات لم نعتد عليها في النقاط السابقة لها، فقد لاحظنا توقف السيارات قبلنا وخضوع المسافرين لبعض الأسئلة، ولأن السائق كان يعلم بتلك الإجراءات وحتى لا نتأخر عندها، أخرج السائق من جيبه ألف ريال وأعطاها للجندي الذي يقف عند النقطة، لينظر الجندي فقط إلى السيارة وكأنها عملية تمويه لباقي زملائه، ويأمر السائق بالعبور، لم نستغرب ولم يستوقفنا الموقف فقد أصبح الأمر معتادًا عليه في بلادنا ونعايشه كل يوم.

لا نكاد نرتاح في جلوسنا قليلًا حتى تبدأ سلسلة نقاط التفتيش تظهر كخرزات المسبحة يتلو بعضها بعضًا، وفي كل نقطة تُوجه الأسئلة ذاتها لكل مسافر، التي كنا قد سمعناها من ضابط الأمن الموجود في الفرزة بعد أن يطلب من كل واحد منا أن يُظهر هويته ويعطيها لجندي النقطة، هنا توقفت وبت أتساءل في قرارة نفسي: أنا الآن متجه إلى جزء من تراب هذا الوطن أم أنني في طريقي للذهاب إلى دولة أخرى؟ لكنها الحقيقة المرة التي تنتجها الحروب والصراعات، والتي لم أستوعبها بعد!

فجأة وبعد أن قطعنا مسافة جديدة بعد تلك النقطة، انعطف بنا السائق يسارًا خارج الطريق الرسمي متجهًا بنا نحو محافظة الجوف، وحين سألت عن سبب ذلك، علمنا أن الطريق مقطوعة بسبب الحرب، فحزنت لذلك، ولكن ما أزعجني وأحزنني أكثر حين سألت: كم كان الوقت المستغرق للوصول إلى مأرب لو أن الطريق لم تكن مقطوعة؟ فقيل لي: نصف ساعة فقط.

نظرًا لتكرار نفس الطلب ونفس الأسئلة في كل نقطة تفتيش، تركت بطاقتي وبطاقة صديقي في يدي، وكلما استوقفتنا نقطة تفتيش أعطيتهم بطائقنا قبل أن يطلبوها منا.

بعد أن قطعنا مسافة لا بأس بها من الطريق، رأينا أمامنا طابورًا من السيارات عند نقطة تفتيش، حينها أدركنا أن هذه النقطة تختلف عن سابقاتها، فقد كانت كل السيارات يُطلب منها أن تقف على حافة الطريق، وينزل السائق إلى غرفة بجوار الطريق ثم يتبعه المسافرون إليها، وكغيرنا طُلب من السائق أن يركن السيارة جانبًا ويأخذ (الكوشن) وبطائق المسافرين إلى الغرفة وأن نتبعه إليها، وصلنا إلى تلك الغرفة فإذا بها ضابط يجلس وفي يده هاتف يدخل فيه بيانات المسافرين بعد توجيه نفس الأسئلة السابقة وإن بشكل تفصيلي أكبر، وإذا انتهى أعطى المسافر بطاقته وصار بإمكانه أن يذهب، بعد الانتهاء من هذا الإجراء نكون قد تجاوزنا المرحلة الثانية من مراحل رحلتنا، والتي ستتلوها مراحل كنت وصديقي نظن أنها أهون منها، ولكن كانت هنالك مفاجآت بانتظارنا.

كل ما سبق ونحن لا نزال نسير على الطريق الأسفلتي الرسمي، فجأة وبعد أن قطعنا مسافة جديدة بعد تلك النقطة، انعطف بنا السائق يسارًا خارج الطريق الرسمي متجهًا بنا نحو محافظة الجوف، وحين سألت عن سبب ذلك، علمنا أن الطريق مقطوعة بسبب الحرب، فحزنت لذلك ولكن ما أزعجني وأحزنني أكثر حين سألته: كم كان الوقت المستغرق للوصول إلى مأرب لو أن الطريق لم تكن مقطوعة؟ فقيل لي: نصف ساعة فقط.

ذُهلت مما سمعت، وتساءلت: لماذا على هذا الشعب أن يقاسي كل هذه المعاناة؟ وفي مصلحة من تصب معاناته؟ أَمَا آنَ لأطراف الصراع أن يذهبوا هم إلى الصحراء ليصفوا حساباتهم هناك ويجنبوا هذا الشعب تبعات حروبهم المصطنعة بأيديهم وبعقول غيرهم، أم أن الصحراء هي نصيب محتوم يقاسي فيه هذا الشعب ويلات حروب أرباب المصالح الداخلية والخارجية دون أن يرف لهم جفن؟

عمومًا، دخلنا الصحراء فظننت وصديقي أن هذه مجرد صحراء ولا يمكن أن توجد فيها نقاط تفتيش، وما تفاجأنا به أنّ الصحراء أصبحت طريقًا رسميًّا بديلًا عن الطريق الأسفلتي، ويوجد بها العديد من النقاط لكلا الطرفين، وأما عن معاناة المسافرين والسائقين فيها فحدّث ولا حرج، ولعل فصول رحلتنا قد تزيل الستار عن جزء من تلك المعاناة المريرة.

بعد أن دخلنا الصحراء وقطعنا مسافة تصل إلى حوالي (10كم)، وكنا على حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل، توقف بنا السائق بجوار مطعم لكي نتناول الطعام ويأخذ كل منا حاجته من البقالة المتواجدة هناك؛ لأننا سندخل على صحراء لا ماء فيها ولا مرعى، ثم أرجعنا صاحب السيارة من نفس الطريق التي جئنا منها مسافة قصيرة لينعطف بنا بعد ذلك يمينًا متجهًا بنا نحو عمق الصحراء، وفي "بنشر" يقع في بداية الصحراء تفقد السائق عجلات السيارة وعمل على تنقيص الهواء منها للتمكن من السير في الصحراء ويتجنب غورها في رمال الصحراء.

على بعد (2كم)، تكشف لنا أنوار السيارة الساطعة عن عمود من الخشب يقطع الطريق أشبه بتلك التي لا نراها إلا أمام المؤسسات الحكومية والتي تحول دون دخول السيارات غير المسموح لها! ويقف عندها رجل بِزِيّ مدني مسلح، وإلى جواره توجد خيمة يُرى الضوء من خارجها.

لم يجد السائق مناصًا من التوقف عند ذلك العود الذي يقطع الطريق، في البداية حاول السائق أن يتجادل مع الرجل المسلح بجوار ذلك العمود من أجل أن يرفعه لنتمكن من العبور، لكنه رفض، وفجأة يخرج رجل آخر مسلح من داخل الخيمة وكأنه زعيم قطاع الطرق، وتفاديًا لأي مشكلة -قاطع الطريق على استعداد لإزهاق الأرواح حتى على أتفه الأمور- أخرج السائق من جيبه ألف ريال وأعطاها لذلك الرجل الذي أومأ له الرجل الواقف عند الخيمة ليسمح لنا بالعبور.

سألت كم تبعد المسافة بين آخر نقطة لحكومة صنعاء وأول نقطة لحكومة عدن، قيل لي: قرابة 50 كيلومترًا مربعًا، حينها، وسأصدقكم القول، كنت أظن أن الوضع سيختلف وسأجد نقاط تفتيش تُنبئ عن دولة معترف بها دوليًّا، ولكن المفاجأة أنّ كل ذلك مجرد وهم فقد وجدنا نفس النقاط ونفس الإجراءات ونفس الأسئلة.

عند مرورنا في الصحراء، ومما كانت تكشفه لنا أنوار السيارة، رأيت من خلال الطريق وآثار إطارات السيارات والشاحنات معاناة من نوع آخر يقاسيها السائقون، وبت أتساءل: كم من الناس انقطعت به السبل في هذه الصحراء ولم يعد يعرف له أثر، كم من المرضى وافاهم الأجل في هذه الصحراء؟ كم من النساء وضعت حملها؟ كم؟ وكم؟ وكم؟

السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كانت أطراف النزاع اتفقت على رسم معاناة اليمنيين، فلماذا لم تعمل على تحديد طريق آمنة وسالكة في هذه الصحراء الشاسعة والمترامية الأطراف؟ كنت أحاول أن أرى حتى إشارات بأحجار أو أعواد تحدّد الطريق، لكني لم أرَ من ذلك شيئًا مع الأسف!

هذه الصحراء لم تكن خالية من نقاط التفتيش كما كنت أظن، فقد مررنا بعدد من النقاط، كان آخرها لحكومة صنعاء، قبل أذان الفجر بساعة واحدة، وهناك كانت السيارات تقف على جانب الطريق، وينزل السائق ببطائق المسافرين إلى خيمة من بين الخيم الموجودة عند نقطة التفتيش، وقرابة الساعة ظللنا ننتظر دورنا حتى دخل وقت صلاة الفجر، فتيممنا وافترشنا الأرض وصلينا الفجر، وما إن فرغنا من الصلاة حتى نادانا السائق ليعطينا هوياتنا لننطلق ونكمل طريقنا.

وعندما سألت كم تبعد المسافة بين آخر نقطة لحكومة صنعاء وأول نقطة لحكومة عدن، قيل لي: قرابة 50 كيلومترًا مربعًا، حينها، وسأصدقكم القول، كنت أظن أنّ الوضع سيختلف وسأجد نقاط تفتيش تُنبئ عن دولة معترف بها دوليًّا، ولكن المفاجأة أنّ كل ذلك مجرد وهم، فقد وجدنا نفس النقاط ونفس الإجراءات ونفس الأسئلة، وبالتأكيد كانت لنا نفس الأجوبة، إلى أن وصلنا، بعد حوالي خمس نقاط من نقاط الحكومة المعترف بها، إلى نقطة يُطلق عليها نقطة (التحالف)!

هنا وفي نقطة التحالف، اتضح لي أننا نعيش ضمن لوحة لرسام واحد، يُوقَف السائق في مكان مخصص لفحص أمتعة الركاب، ويأخذ السائق الهويات كما هي العادة إلى غرفة بجوار نقطة التفتيش، ويذهب المسافرون إلى هناك الواحد تلو الآخر، ليجدوا أمامهم ضابطًا يُدخل بيانات المسافرين، ليس في كمبيوتر؛ فهذا ما لا كنت أتوقعه، ولكنه كان يدخلها كمن سبقه في جوال! ويلتقط صورة للمسافر، وهنا يُطلب من كل مسافر مُعرِّف يُعرِّف به في غرفة العمليات في مأرب! ومن أين لكل مواطن معرف في مأرب يعرف به؟! فقد تساءلت: كيف لشخص عادي لا يعرف شيخًا أو عاقلًا أو ...؛ إذا أراد أن يسافر للعمرة مثلًا أو للعمل في مأرب أن يمر من هذه النقطة، وهل سيتم إرجاعه لو لم يعرِّف به أحد؟

لم ننتهِ بعد، فقد طلب مني السائق أن أتصل بأحد أقاربي حتى ينتظر مجيئنا عند نقطة أخرى على بوابة المحافظة عند نقطة يطلق عليها نقطة الشركة! ففيها يريدون مُعرِّفًا من أبناء المحافظة، وهذا الطلب أغرب وأصعب مما قبله، وهل الشعب كله لديه أقارب في مأرب! 

ما إن وصلنا حتى توقف بنا السائق على جانب الطريق في نفس نقطة التفتيش، وطلب منا أن ننزل أمتعتنا لتفتيشها مرة أخرى. لحظات ووصل قريبي الذي ذهب فورًا إلى الغرفة التي في الجوار ليُعرِّف بنا عند الضابط، بعدها أخذنا أغراضنا واستقللنا الباص الذي جاء لأخذنا به، وهنا وبعد كل هذا العناء نكون قد وصلنا إلى مأرب. 

كل هذه المعاناة ونحن نعيش في ظل هدنة مُعلنة، لكم أن تتخيلوا حجم المعاناة التي كان يعانيها المسافرون وسائقو السيارات في ظل الحرب ولم يلتفت إلى معاناتهم أحد أو حتى ينقلها إلى العالم، ولعل قصتنا هذه تكون جزءًا من ذلك، لعل العالم يدرك عن قرب حجم المعاناة والمشقة التي يقاسيها المواطن اليمني المغلوب على أمره.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English