خيوط مهددة بالقطع

عن حياكة (المعاوز الوصابية) في زمن الحرب!
عبدالله حمود الفقيه
December 17, 2022

خيوط مهددة بالقطع

عن حياكة (المعاوز الوصابية) في زمن الحرب!
عبدالله حمود الفقيه
December 17, 2022
© Khuyut

منذ سبع سنوات، هبَّت عواصف الحرب لتقتلع ما تبقَّى من أملٍ لدى الكثير من الأسر التي كانت في عداد متوسطة الدخل والفقيرة، تعتمد في مصادر دخلها على راتب معيلها، أو على عمل خاص به يجاهد من خلاله لتوفير لقمة عيش أطفاله وأسرته. انقطعت الرواتب وفقدَ الكثيرون مصادر أرزاقهم، واضطرّ العديد منهم للنزوح إلى قراهم خالِي الوفاض، بين خيارين؛ إمّا الموت جوعًا أو محاولة الحصول على عمل يسد الرمق، وفي معظم مناطق وصاب السافل (إحدى مديريات محافظة ذمار) كانت حرفة نسج المعاوز ملاذًا للكثير من الأسر، التي لجأت إليها لتخفيف الضغوطات التي أثقلتهم بها الحرب.

ملاذ النازحين.. ولكن!

اشتعلت المواجهات في الحُديدة، في العام 2018م، حيث كان يعمل عدنان محمد سعد (من منطقة البَطاحي- عزلة الأثلاث- وصاب السافل) في كشك لبيع الأدوات المنزلية بجانب مستشفى الثورة، واضطر للنزوح مع اشتدادها، والعودة إلى قريته، التي ظلّ فيها بضعة أشهر على أمل أن تهدأ المواجهات ويعود إلى عمله، غير أنّها بدلًا من ذلك اشتدت أكثر، وفي يوم "بؤس" دمّر القصفُ الذي استهدف المستشفى، أملَه ومصدر رزقه (الكشك)، الذي صار حطامًا ولم يتبقَّ منه ولا فيه شيء.

"لجأت إلى حياكة المعاوز لأتمكن من توفير الحدّ الأدنى من متطلبات العيش لأسرتي"، يقول عدنان، مضيفًا: "ذهبت مع أحد أقاربي إلى صاحب المعمل الذي يعمل عنده، فوفّر لي المكنة وأعطاني الشرعة والخيوط، وبدأت في تعلم الحياكة. كان الأمر صعبًا عليّ في البداية، بدايةً من تركيب "الشرعة" الذي يستدعي الانتباه، لأن الغلط في خيط واحد يمكن أن يتلف العمل كله وتتحمل حينها قيمته، ثم التعامل مع الوحج والدعاسات والمزجات، كانت تتقطع علي الخيوط وتشتبك وأعجز عن فكّها أول الأمر، خاصة أنّها من النوع الرديء، لكنني، والحمد لله، استطعت بعد فترة إتقان العمل الذي مثّل لي ولأسرتي بعد ذلك مصدر دخل بديل، رغم قلة الإيجار".

يستدرك عدنان: "لم يستمرّ الأمر طويلًا؛ إذ سرعان ما ارتفعت الأسعار وبدأ العمل يتراجع، ثم بدأ صاحب المعمل بدفع القليل جدًّا من الإيجار، وتأخيره حتى الموسم (عيدي الفطر والأضحى)، وفي نهاية الأمر حتى في الموسم يعتذر بضعف السوق، قبل أن يتوقف تمامًا.

يُبدو عدنان ضجرًا وهو يتحدث عن تداعيات الانتكاسة في سوق المعاوز، وقلة الطلب، على حياتهم المعيشية التي أضحت كتلة من المعاناة والبؤس، وسط عجزك عن شراء أبسط احتياجات أطفالك، يتابع: "تصرّ هذه الحرب على ملاحقة لقمة عيشنا، وكلّما وجدنا بابًا للرزق أغلقته في وجوهنا".

اشتهر أبناء مديرية وصاب السافل، منذ فترة بعيدة بالحياكة اليدوية للمعاوز، غير أنّها بعد أن شردت الحرب الكثير من الأسر وسلبت رواتبهم، انتشرت الحرفة، وأضحت في البيت الواحد مكنة أو أكثر بحسب عدد من استطاع تجاوز الصعوبات واحتراف المهنة، ومعظمهم من الأطفال والفتيات والنساء.

ولم تعُد صناعة المعاوز مقتصرة على المعامل فقط، إذ تم ابتكار مكنات يدوية يمكن استخدامها في البيوت، لا تحتاج إلى حفر ولا إلى مد للشرعة (مجموعة من الخيوط تصل إلى 1200 خيط مفرد وأكثر بحسب نوع المعوز، يتم ربطها واحدة تلو أخرى في الوحج، على جزأين أعلى وأسفل)، يصنعها أصحاب ورش الحديد، ويمكن نقلها من مكان إلى آخر بسهولة، وهذا سهّل على الأسر وضعها في غرفة أو عدد من الغرف.

قاسم عبدالله، من محلة الكديد، في قرية الوادي بمنطقة الأثلاث، لجأ هو الآخر إلى امتهان المعاوز، ومعه اثنان من أبنائه (إبراهيم ١٣ سنة)، و(لميس ١١ سنة)، بعد نزوحه من الحُديدة إثر اشتداد المعارك في العام ٢٠١٨، إلى قريته، تاركًا ٣ محلات تجارية كان يعمل عليها هو وإخوته، ثم اضطروا لتسليمها للمؤجر مقابل الإيجار الذي لديهم، بعد يأسهم من العودة وتحسن الوضع.

استطاع قاسم وأبناؤه بعد جهد كبير تعلم الحرفة، وتمكّنَ، كما يقول لموقع "خيوط"، من توفير القوت الضروري جدًّا، مستدركًا: "ولكن الأزمة الأخيرة سرقت منّا ذلك القليل، ولم يتبقَّ سوى الأقل الذي لم يعد يغطّي شيئًا، أصبحنا نتوقف عن العمل كثيرًا؛ نظرًا لعدم توفير صاحب المعمل الذي نعمل لصالحه، الشرعات، معتذرًا بغلاء الخيط وعدم القدرة على توفيره"، شاكيًا، بمرارة، أنّه وصل إلى درجة عدم استطاعته شراء الأساسيات لأسرته المكونة من 8 أفراد، بينهم 5 أطفال.

عمل أصحاب المعامل على رفد العمّال بالمكنات التي يقسطون قيمتها فيما بعد من إيجار العامل، ويوفرون الخيط والنقشات المطلوب الحياكة عليها، وبحسب عدد "المزجات" و"الفتيل" المستخدمة في الحياكة، يكون الإيجار، يبدأ بألف ريال، ويصل إلى 5 آلاف، وهي -وَفقَ الصانعين- أقل ممّا يستلمه العامل في المدينة.

مأساة الآباء والأبناء

كما هي حال النازحين، مدّ المدرِّسون أيديهم لخيوط المعاوز لعل فيها عاصمًا من حرب نهبت مرتباتهم، وتركتهم وأسرهم أمام عاصفة الأزمات الخانقة، ثم لم تفتأ أن وصلت إلى تلك الخيوط التي أضحت أوهن من بيت العنكبوت، وفق معلمين التقيناهم في مدرسة (26 سبتمبر) في عزلة الأثلاث بالمديرية.

يقول الأستاذ محمد إبراهيم: "اضطررنا لفصل بناتنا من المدرسة، وتفريغهن للعمل في المعاوز، في البداية كان العمل "مخارجًا" إلى حدٍّ ما، ولكن بعد انقسام العملة المحلية وانهيارها في صنعاء وعدن، وعمولات التحويل، وتضاعف الأسعار، واشتداد الأزمات، ارتفع سعر الخيط، وتوقف العمل، مع ضعف قدرة الناس على الشراء، ما سدد لنا ضربة أخرى بعد انقطاع المرتبات".

مضيفًا أنّه تنقل بين الكثير من أصحاب المعامل، مع إفلاس وخسارة الكثير منهم، وإيقافهم العمل، وعجزهم عن الإيفاء بالالتزامات المالية للعمال.

محمد الذي يعيل ٨ أبناء إضافة إلى والدته و٣ من إخوانه عادوا من الحُديدة، إثر المواجهات، يؤكّد أنّ توقف هذه الحرفة يهدّد بمجاعة حقيقية لآلاف الأسر، وخاصة في القرى؛ مناشدًا الجهات المختصة سرعة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإنقاذ الحرفة والعاملين فيها.

في المدرسة ذاتها، يشكو الأستاذ علي محمد الثلاثي، ما يمثّله تراجع العمل في المعاوز من تهديدٍ آخر لهم ولأسرهم، في ظلّ استمرار انقطاع المرتبات، وعدم استطاعتهم ترك التعليم والسفر إلى المدن بحثًا عن الرزق، موضحًا أنّه كان لديه أربعة من أبنائه يوازنون بين الدراسة والعمل في حياكة المعاوز؛ ليوفّروا ما يكفيهم قوت يومهم؛ ولكن الآن توقف الإنتاج، "فلم تعُد تحصل على مقابل وتظل الأجور معلقة، وأنت تبحث عن المصاريف الأساسية".

المعاوز مقابل الغذاء

وفيما عجز الكثير من أصحاب المعامل، عن دفع مقابلٍ ماديّ للعمال؛ اتجه البعض منهم إلى منح الأسر العاملة لديهم، احتياجاتهم الأساسية من المواد الغذائية، كما أخبرنا عبدالرحمن العلوي، من منطقة (المَحِلة)- عزلة بني علي، الذي اضطر وغيره من العاملين في معمل "أبو رهام" للقبول بأخذ مواد غذائية من محل تابع لصاحب المعمل مقابل إنتاجهم، وما تبقى للموسم.

عبدالرحمن كان يعمل في القاعدة بمحافظة إب، وبسبب المواجهات التي اشتعلت في ٢٠١٧، ذهب للعمل في تعز بجولة "سبيستل"، غير أنّ المواجهات العسكرية هناك أيضًا أجبرته على العودة إلى القرية، التي يقول: "إنّ العمل فيها وفّر عليّ المشقة والعناء والكثير من التكاليف الباهظة والخوف في المدن، لكن الآن لم نعد نحصل سوى على مصاريف البيت الرئيسية "من حال الإيجار". صحيح أنّ ذلك لا يكفي، لكنه أفضل من اللاشيء، فتوفير الكيس الدقيق أصبح مقلقًا".

حملنا علامات الاستفهام إلى صاحب المعمل، أحمد محمود العلوي، الذي أوضح أنّ العمل مؤخرًا "ضعيف جدًّا، ومعظم التجّار الذين أبيع لهم لا يعطوننا المال إلا مع الموسم، فأضطر للاستدانة من تجار المواد الغذائية وتوفير احتياجات العاملين الأساسية"، مشيرًا إلى أنّ لديه أربعين عاملًا، منهم موظفون بلا رواتب ونازحون وأيتام بلا معيل.

بدأ العمل في التراجع منذ ما يقارب 3 سنوات، حيث كان أحمد محمود يبيع حينها في الأسبوع (8-10) كوارج (الكورجة 20 معوزًا)، لكن الآن أربع إلى خمس كوارج، و"ما فيش فلوس، (دَين) حتى الموسم"، كما يقول، بأسى بالغ، مجيبًا بالنفي عن سؤالنا له عن توقعاته إن كانت الحِرفة قادرة على الصمود أكثر السنوات القادمة لو استمرّ الوضع كما هو؟ مؤكِّدًا: "سيتركها الناس، وأنا أولهم؛ الآن كل شي غالي يا الله نحصل حق الكيس البُّر".

وإذا كان أحمد العلوي لم يزل متمسّكًا بالحِرفة، فقد أعلن آخرون إفلاسهم وأغلقوا معاملهم، تحت وقع الخسارة الناتجة عن كساد السوق، من بينهم سلطان عبده محمد، من منطقة "عُرماد" أو "عُر معد" كما يسميها السابقون، الذي كان يعمل لديه 45 عاملًا، قبل أن يرتفع سعر الخيط من (12) إلى (26)، بالتزامن مع ضعف الطلب على المنتج المحلي الذي ارتفع سعره على قدرة الناس الشرائية، كما يتحدث لـ"خيوط"، مضيفًا أنّ ذلك جعله غير قادر على توفير الخيط للأسر المنتجة وإنقاص عدد العاملين إلى عشرة، ثم التوقّف نهائيًّا مُحمّلًا بالديون.

حركة شبه واقفة وتجار بائسون

في مركز مديرية وصاب السافل (سوق الأحد)، كانت محال تجار المعاوز والخيوط، تعبّر بجلاء عمّا وصلت إليه الحال من وضع؛ جراء تراجع الطلب على هذه الملبوسات التراثية التي يتميّز بها اليمنيّون وتُعدّ جزءًا من هُويتهم الوطنية؛ فالمحال التي ظلّت فاتحة أبوابها أمام الحِرفيين، تبدو شبه خالية، بعد أن كانت تعج بالزوار ممّن يشترون أو من العاملين الذين يحضرون محمّلين بما أنتجوه من بضاعة لبيعها لأولئك التجار، أو حتى ممّن يعملون لدى التجّار بالأجر.

يشتري التجار المعاوز التي ينتجها الحرفيون، ثم يوزعونها في المدن، شمالًا وجنوبًا، غير أنّ الحرب والانهيار الاقتصادي وتشظي البلاد سياسيًّا وماليًّا، أعاقت عملهم

تبدو علامات الحزن واضحة على تقاسيم أحمد العماد، أحد تجار المعاوز، الذي أضحى محله شبه فارغ من المعاوز والعاملين بعد أن أتت عليه العاصفة الاقتصادية، وكان من قبل ممتلئًا، كما يؤكّد، مُعلِّلًا ذلك بالقول: "ما فيش طلب في السوق، الناس يبحثون عمّا يأكلون، مضيفًا أنّ فوارق العملة الكبيرة بين مناطق سيطرة حكومة صنعاء ومناطق الشرعية، وعدم استقرارها، أثّرت كثيرًا، خاصة أنّ ما كان يتم بيعه في المناطق الجنوبية أكثر من الشمال، ورسوم التحويل تأخذ أكثر من نصف المبلغ، ويضطرّون للتعامل بالسعودي، رغم عدم الجدوى.

ارتفع سعر الكرتون الخيط خلال سنة إلى سنتين أكثر من ٣٠ ألف ريال، من 220 ألفًا إلى ٢٦٠ ألف ريال، وفق العماد، الذي أوضح أنّ هذا الكساد جعلهم يُحجمون عن الشراء من عمال المعاوز والموزعين، ما أثّر على الكثير من الأسر المنتجة.

يشتري التجار في سوق الأحد- مركز المديرية، المعاوزَ التي يُنتجها الحِرَفيّون، ثم يوزعونها في المدن، شمالًا وجنوبًا، غير أنّ الحرب والانهيار الاقتصادي وتشظي البلاد سياسيًّا وماليًّا، أعاقت عملهم، كثابت النهاري، تاجر آخر في سوق الأحد، الذي اضطر إلى إغلاق محلّه بالحُديدة، مع اشتداد الأزمة والحرب، وأبقى على محل في صنعاء، العمل فيه ضعيف جدًّا، كما يحدّثنا بصوت مغمور بالحزن، لافتًا إلى أن تضاعف رسوم التحويل وهبوط العملة ألجأه أيضًا إلى إيقاف العمل في المحافظات الجنوبية.

يشكو النهاري بمرارة، تبعات الأزمة الكارثية على الحرفة وممتهنيها، قائلًا: "الصانعون معطلون عن العمل، يرغبون في الإنتاج، ولكن ضَعف الطلب جعل بضاعتهم بورًا تتكدس بدون فائدة، ويخسرون"، متابعًا: "أسر كثيرة قوتها الضروري من المعاوز، تأثّرت بشدة، وتعب الناس كثيرًا".

قبل أن تعطل المواجهات المسلحة الحركةَ التجارية في الحُديدة، كانت تعدّ أبرز سوق للمعاوز هي القادمة من مديرية وصاب السافل، بل ومعظم العاملين فيها وكبار التجار والموردين أيضًا من المديرية ذاتها، ولهذا كانت الآثار عليهم أكثر من سواهم.

عودة إلى الحُديدة

إثر تهاوي حياكة المعاوز في وصاب، قرّر بعض العاملين العودة إلى المدن، وخاصة ذمار وصنعاء وتعز وبعض المحافظات الجنوبية، لعلّ فيها ما يعينهم على مواجهة ظروف الحياة، ومنهم سليم محمد محمد صالح، الذي التقيناه في أحد المعامل في شارع المعدل بمحافظة الحُديدة، التي اضطر للعودة إليها، بعد أن أعيته الحيل في القرية.

يمتهن سليم، من أبناء منطقة بني سَلَمة في وصاب السافل، حياكة المعاوز منذ ما يقارب 10 سنوات، ولكن الكساد الذي يعصف بالحرفة يهدّده بالاضطرار للتوقف عن مهنة يعشقها ويستمتع بتعبه فيها.

بحرقة يتحدث سليم، ويداه تعزفان بالمزجّات دون توقف، عمّا وصل إليه حال العمل جراء الحرب والأزمة الاقتصادية، مِن تراجع، مشيرًا إلى أنّ الفارق كبيرٌ جدًّا بين ما كانت عليه قديمًا حياكة المعاوز وما آلت إليه، فـ"لم يعُد هناك خراج، هبط العمل وخفف أصحاب المعامل الإيجارات". موضحًا أنّ المعاوز المستوردة اكتسحت المحلية، واستطاعت أن تتفوّق عليها. ومؤكّدًا أنّ دعم المهنة وتوفير الخيط والمستلزمات بسعر أقل، بإمكانه أن يعيد لها قدرتها على المواجهة.

قبل أن تعطل المواجهات المسلحة الحركةَ التجارية في الحُديدة، كانت تعدّ أبرز سوق للمعاوز القادمة من مديرية وصاب السافل، بل ومعظم العاملين فيها وكبار التجار والموردين أيضًا من المديرية ذاتها، ولهذا كانت الآثار عليهم أكثر من سواهم.

في فرزة صنعاء، كان لدى محمد عبدالله الوصابي، محلان لبيع المعاوز التي يشتريها من أصحاب المعامل والصانعين في مديرية وصاب السافل، إضافة إلى الكشك الذي التقيناه فيه، وهو ما تبقّى له، إثر أحداث 2018.

يوضح محمد ما حدث لسوق المقاطب المحلية، بإشارة إلى مجموعة من المعاوز لديه، ذات شكل جذّاب، شارحًا أنّ أسعارها بين 2000 ريال و5000 ريال، فيما لا تقل قيمة أرخص منتج محلي عن 15000 ريال.

ووَفقَ الوصابي، فإنّ المنتج الصيني ليس جديدًا، بل ظهر قبل أكثر من 10 سنوات، لكنه ظل عاجزًا عن المنافسة لأنّ الناس قادرة على شراء البضاعة المحلية ذات الجودة العالية، والنقشات المبتكرة المتميزة، أمّا الآن فلا يقدر على شراء المنسوجات اليدوية سوى كبار القوم، حسب وصفه.

حجم الفارق بين الأمس واليوم كبير جدًّا، بحسب محمد مهدي الأمير، صاحب محل لبيع المعاوز، في شارع فلسطين بمدينة الحُديدة، الذي يقول أنّه كان يشتري في الأسبوع الواحد من 10 إلى 15 كورجة، بينما لا يأخذ الآن سوى كورجة واحدة في الشهر (الكورجة 20 معوزًا).

مؤكّدًا أنّ الانتكاسة التي أصابت سوق المعاوز المصنوعة يدويًّا تكاد تعم البلاد، لافتًا إلى أنّهم اضطروا لإغلاق محلات كانت في أكثر من محافظة، شمالًا وجنوبًا، جراء ذلك.

ضرائب وجبايات باهظة

بدورهم، وضع عددٌ من تجار المعاوز المستوردين للخيط، في لقاءاتنا بهم، سببين رئيسيين تتمحور حولهما بقية العوامل الواقفة خلف ارتفاع أسعار الخيوط والمعاوز، وبالتالي انتكاسة المنتج المحلي في السوق، هذان السببان، هما: انهيارُ العملة أمام العملات الخارجية، وعدم استقرارها، والآخرُ الرسوم والأموال التي يدفعونها تحت مسميات متعددة على البضاعة، منذ وصولها ميناء عدن حتى تستقر بهيئة منسوج محلي جاهز في يد المشتري.

شكاوى الحائكين وتوجيهات على الورق

وكان حائكو المعاوز في وصابين، قد طالبوا في شكوى رفعوها إلى حكومة صنعاء، بإيقاف استيراد المعاوز من الصين، لتعطيله الحرفةَ اليدوية التراثية المحلية وتأثيره الكارثي على صانعيها، فيما أظهرت وثيقة، حصلت "خيوط" على نسخة منها، توجيهًا من رئيس وزراء صنعاء عبدالعزيز بن حبتور، إلى يوسف زبارة رئيس مصلحة الجمارك في الحكومة ذاتها، بحل الإشكالية ومنع الاستيراد من الصين، غير أنّه لم يتم اتخاذ أيّ إجراءات واقعية في هذا الشأن، في حين نفت مصادر اقتصادية خاصة مطّلعة، وجود أيّ قرار رسميّ في الخصوص.

أسباب وحلول

الصحفي المتخصص في الشؤون الاقتصادية، نبيل الشرعبي، من جانبه يقول، في حديث لـ"خيوط": "إنّ الصناعات الحرفية باليمن واجهت وتواجه إهمالًا كبيرًا من الجهات المعنية، وتعاظم تجريف هذه المهن في زمن الحرب أكثر"، مشيرًا إلى أنّ حياكة المعاوز واحدة من هذه الحرف التي غدت تحتضر، نتيجة عوامل كثيرة ومتداخلة زادت حدّتها مع الحرب القائمة منذ ثمانية أعوام.

ويرى الشرعبي أنّ هناك عواملَ كثيرة قبل الحرب وبعدها، تهدّد حياكة المعاوز اليمنية بالاندثار، أبرزها، قبل الحرب: استبدال الكثير من الشباب والرجال المعوز بالبنطلونات، وتنامي النظرة السلبية تجاه من يرتدون المعوز واعتباره شخصًا مُتخلِّفًا، هذه النظرة التي أفرزتها موضة الأزياء، كانت قاصمة لحرفة حياكة المعاوز.

وزاد من تهديد هذه المهنة قبل الحرب -يضيف الشرعبي- السوقُ المفتوحة وإغراق السوق اليمنية بمنتجات من المعاوز الخارجية المُصنعة بمكنات ذات قدرة إنتاجية عالية ومواد خام رديئة، وتسويقها بأسعار زهيدة، وبالتالي عدم قيام الجهات المعنية بدورها في حماية هذه الحرفة والعاملين فيها.

يتابع: "أمّا بعد الحرب فقد تراكمت عوامل أخرى إلى العوامل السابقة، وزاد معها تهديد اندثار حياكة المعاوز، ومن أبرزها: تعقيد إجراءات الاستيراد بما فيه استيراد المواد الخام لحياكة المعاوز (الخيوط بأنواعها)، وكذلك لوازم العمل الأخرى، نتج عنها زيادة في أسعار هذه المواد وصار معها الحرفي عاجزًا عن الشراء"، مضيفًا إلى ذلك؛ التدني الكبير في القدرة الشرائية لدى المحبين للمعوز اليمني جراء توقف رواتب موظفي الدولة، وتوقّف نسبة كبيرة من التحويلات الخارجية التي كان يذهب جزء منها لشراء الملابس بأنواعها بما فيها المعاوز.

كما يرى نبيل أنّ النزوح وشلل الحركة التجارية وصعوبة التنقل، عوامل أخرى أثّرت على هذه الحرفة سلبًا.

تكمن أبرز الحلول الممكنة، وَفقَ الشرعبي، فيما يأتي:

استشعار الجهات المعنية لأهمية هذه الحرفة وحجم إسهامها في احتواء مئات من الأيادي العاملة، وقبل ذلك أنّها صنعة يمنية يجب الحفاظ عليها، فتقوم، بناء على ذلك، بالتخاطب مع المؤسسات المالية المحلية، وفي مقدمتها بنك الأمل؛ لتخصيص قروض ميسرة لملاك مشاريع هذه الحرفة.

منع استيراد المعاوز الخارجية.

إعفاء مستوردي لوازم ومعدات صناعة المعاوز من الضرائب والجمارك، ومنح إعفاءات ضريبية للمحلات التي تتخصص ببيع المعاوز.

مخاطبة وسائل الإعلام الرسمية بكل أنواعها لتخصيص مساحة زمنية بحدود 30 ثانية في الإعلام المسموع والمرئي، ومساحة كرت 8×12 في الإعلام المقروء لنشر إعلانات هذه المحلات والمعامل مجانًا؛ دعمًا لتشجيع الصناعة الوطنية.

تشجيع الحرفيين بهذا المجال بجوائز تشجيعية، وتخصيص مهرجان تحت عنوان "مهرجان المعوز اليمني"، والتسويق إعلاميًّا له.

تتفاقم المأساة بين اليوم والآخر، ويتسع الوجع، في ظل عاصفة اقتصادية لم تترك للمواطن اليمني ولو بضع جبل يأوي إليه، ولسان حالها "لا عاصم"، وتهدد في الوقت ذاته الحِرف المرتبطة بالتراث الثقافي اليمني الأصيل؛ فهل ستحدث معجزة ونجد التفاتة حقيقية تخفف كل هذه المعاناة؟!

•••
عبدالله حمود الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English