القتل والموت بين عبوديتين

من الحق الإلهي إلى الإرهاب السياسي!
قادري أحمد حيدر
June 12, 2023

القتل والموت بين عبوديتين

من الحق الإلهي إلى الإرهاب السياسي!
قادري أحمد حيدر
June 12, 2023
.

حين تجد نفسك مخيرًا بين العبودية القهرية، باسم الحق الإلهي، أو "العبودية المختارة" بقوة الإرهاب السياسي، فأنت قطعًا ميت أو مقتول، أو مشروع في قائمة الانتظار للقتل.

ذلك أنّ الهدف منهما: العبودية القهرية، أو "المختارة"، هو تجريدك من معنى الكرامة الإنسانية، ومن هُويتك كإنسان حر.

حين يتمكن الخوف، من اغتيال الأمل في عقولنا، هنا يجتمع الموت والقتل في داخلنا، وهو الطريق السهل لاغتيال إرادة الفرح في حياتنا.
إنّ عربدة القتل مهما بلغ مداها لن تتمكن من قتل روح الأمل داخلنا، حينها ننتصر على الموت والقتل معًا، لأنّنا لم نقبل بالموت والقتل كما يراد بهما لنا. هل نبدأ بتدريب الروح على ذلك؟ لننتقل بعدها لممارسة فعل التغيير.

قديمًا، قالها الخليفة العادل (الفاروق) عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!"، وهو النص المعياري والقيمي والأخلاقي والإنساني، الذي أخذته عنه الأمم المتحدة وثبتته في وثائقها الحقوقية والقانونية، كنص مكتوب، مؤكّدة فيه على قيمة الحرية، ورفض الظلم؛ أي على حرية الإنسان، وعلى القيمة العليا للكرامة الإنسانية، التي أفردت لها مواثيق الأمم المتحدة صفحات عديدة مؤكّدة على معنى ومفهوم الكرامة الإنسانية، تجدها مبثوثة في وثائقها وأدبيّاتها حول حقوق الإنسان وحق الإنسان المطلق في الحياة.

في عودتنا الدائمة إلى قواميس اللغة العربية، دائمًا نجد تفريقًا واضحًا ودقيقًا بين الكلمات المختلفة، وخاصة بعد تنوين وتشكيل الكلمات. التنوين والتشكيل اللذان يجعلاننا نفرق بين معاني الكلمات، وهي منونة، ومشكّلة ومضبوطة لُغويًّا، لتحديد الصلة بين اللفظ والمعنى، على إيقاع القراءة الصحيحة لمعنى الكلمة، بهذه الطريقة أو تلك الصورة من القراءة والكتابة، فكلمة (موت) لها معنى واضح يختلف عن معاني ودلالات كلمات عديدة تحمل في داخلها معنى ودلالة الموت، وكذلك كلمة (قتل)، وأن تكون لها تفسيرات ومعانٍ مختلفة محكومة بالسياقات التي تورد فيها، وتكون حصيلة فعله في واقع الممارسة.

هناك قتل عمد مع سبق الإصرار، وهناك قتل خطأ، وتحت عنوان القتل الخطأ، هناك عناوين مختلفة، لا يتسع لها المقام، منها: خطأ طبي؛ عبر جرعة دواء زائدة، قتل عبر زيادة جرعة المخدر الذي يسبق العملية الطبية، كما أنّ هناك خطأ الموت الناتج عن حادث سيارة، وأيضًا، خطأ قتل أحدنا الآخر بالسلاح دون قصد، وكلها بالمعنى الواقعي تقود إلى حالة الموت. وبالمقابل، هناك أشكال عديدة تقودك إلى الموت، منها: الموت جوعًا وإفقارًا وحرمانًا، والذي يسجل في الغالب ضدّ مجهول، قتل غير مباشر مع أن القاتل معلوم. أما حالات القتل المباشرة المختلفة، فتقف خلفها دواعٍ مختلفة، ومتناقضة في معظم الأحيان، على أنّها جميعًا يتحكم بها تدخل جسم إراديّ (مادي/ خارجي)، قصدي في إحداث وإيقاع عملية القتل، وما أكثر تطبيقاتها في الحياة السياسية العربية، على أنّ أخطر وأسوأ تطبيقاتها أنّها تكون وتتم في الواقع السياسي؛ ولأسباب سياسية، وخاصة مع المعارضين للأنظمة الاستبدادية، والتي تطال –عمليات القتل– المطالبين بالحرية، وبالعدالة، هذا الثنائي المزعج والمخيف حين يسمعهما الطغاة في كل زمان ومكان، فيتحسسون مسدساتهم.

إنّ كلمة وعبارة الموت لا تحمل في داخلها أي تدخل إراديّ ماديّ مباشر، من الخارج، لمن يطاله الموت، فقد يموت أحدنا بالسكتة القلبية، وبمرض السكر، وبالذبحة الصدرية، وقد يموت من جرعة دواء غير مقصودة، أو في حادث سيارة غير مرتب (قضاء وقدر)، على أنّنا مع الجماعة الحوثية "أنصار الله" نجدهما –الموت والقتل، وبقدرة قادر– قد اجتمعا أمنيًّا في معنى واحد، وفي يد واحدة، قادرة ومقتدرة على المزج بينهما، (الموت، والقتل)، فأنت عبر قطع الراتب، ومصادرته لثماني سنوات عجاف، ومن خلال واقع تدهور أوضاع الصحة العامة (المستشفيات)، وتدهور أوضاع العملة، والعجز عن شراء الدواء، وعن دفع إيجار السكن، وعدم القدرة على تعليم أولادك، والإيفاء باحتياجات أسرتك المعيشية اليومية، أمام كل هذه التحديات والضغوطات، تجد نفسك أمام حالات موت محقّقة، تترصدك وتنتظرك في كل لحظة، هي إلى القتل أقرب، حتى إنك من شدة الخوف من الكلام، لا تستطيع أن تقول إنّها حالة قتل شبه عمد، مع أن كل المقدمات التي أدّت إلى الوفاة، الموت، هي معطيات ومفردات مادية، المسؤول الأول عنها، ومن تسبّب فيها، هو الطرف الممسك بزمام السلطة والثروة، لأنّك كمواطن فرد تقع تحت سلطتهم/ سلطته المباشرة، وهو الأمر الذي ينطبق على أوضاع اليمنيّين عمومًا في الشمال والجنوب، بدرجات متفاوتة، ولكنه ينطبق بصورة أكبر وأعظم وأصدق على واقع حياة الناس في شمال البلاد، وخاصة موظفي الدولة الفقراء، الذين لا يستلمون رواتبهم منذ قرابة ثماني سنوات.

وحين يعجز أو يتخلف الموت عبر الأدوات والمعطيات الأولى عن تحقيق هدفه عبر السكتة القلبية، والجلطة الدماغية، والموت جوعًا، وإفقارًا، ومرضًا، (الخوف من الحياة)، فإن أداة القتل الأخرى حاضرة وجاهزة لتستكمل ما لم تتمكن من إنجازه حالة الموت عبر الأدوات الطبيعية "المسكوت عنها"، هنا تتدخل الأدوات الثانية/ الأخرى؛ أي التدخل الإرادي/ القصدي، لقصف العمر عبر الاغتيال السياسي لتنفيذ عملية القتل، كما يحدث مع المعارضين، حيث يتوحد ويجتمع في تنفيذ عملية اغتيالهم، كلمتَا ومعنيَا الموت والقتل، وجميعها تسجل -في الغالب- ضد مجهول، وكلٌّ منها (الموت، والقتل)، يؤدي ويقود إلى الآخر، حتى إن اللغة السياسية والأمنية/ الاستخبارية، الجنائية، للبحث عن القاتل، لا تستطيع، أولًا: أن تفرق أمنيًّا بين الكلمتين والمعنيين، (الموت والقتل)، في واقع الممارسة (التنفيذ)، وثانيًا: أنها تعجز عن الوصول إلى الجاني، ولذلك تسجل ضدّ مجهول، وكأن الجن التي قتلت "سعد بن عبادة"، وهو يبول قائمًا، هي من تغتالهم اليوم بالرصاص! وهذا هو حالنا، مع الاستبداد الديني، والسياسي، في كل حالات الاغتيال السياسي، في كل مكان وزمان.

هذا بعد أن انمحت الحدود والفوارق بين كلمتَي الموت والقتل، وكأننا شعب يعيش في انتظار الموت، ورهين لحالة القتل.

القتل بأي وسيلة وتحت أيّ دوافع كانت، يؤدّي إلى الموت (الوفاة)، موت الجسد، موت الإنسان المستهدف بالقتل، على أنه ليس كل موت سببه القتل، ولكننا مع كل التجارب السياسية الاستبدادية والفاسدة، باسم الدين، أو باسم الوطن، نجد أنفسنا أمام حالة من التوحد الكامل بين القتل والموت، وهو تعبير عن حالة وصول القمع والإرهاب السياسي إلى ذروته الاستبدادية القصوى، والذي يجعل من العبودية "حالة مختارة".

والسؤال: هل التخلص من الجسد بالقتل يقتل الفكرة، ويحل مشكلة القاتل؟!

والجواب: لا، بل هو يوسع من دائرة الدم والقتل، بقدر ما يوسع من دائرة حضور المعنى/ الفكرة، بل ويوسع -كذلك- من القاعدة الاجتماعية الحاضنة للفكرة. 

إنّ متعة الكتابة النقدية، في الزمن القاتل تقودك في كثير من الأحيان إلى حتفك، إلى خرم عمرك، أو ما تبقى منه، على أنه الخرم النبيل.

باختصار: في الزمن القاتل، لا ينجو أحد من القتل، يصبح معه الموت، والقتل وجهَين لعملة، ولعملية واحدة، فإذا لم ينَل منك الموت جوعًا وإفقارًا ومرضًا، أو لعدم صرف راتبك طيلة ثماني سنوات عجاف، فإنّ الموت بالقتل جاهز وعلى قائمة الانتظار، تحت ذريعة أنّك مع "العدوان"، و"خائن" و"عميل"، و"مرتزق"، وهنا تستكمل دائرة عملية الموت، بالقتل لما تبقى من ربيع عمرك مع الحياة ومع الكتابة. 

فقط، علينا إذا أردنا أن نوقف، وننهي مسلسل الموت والقتل الجبان بأن نجعل من الحياة كيفية جديدة لحلمنا بالحياة، هنا تتقدم وتنتصر إرادة الحياة على الموت والقتل.

في كل كتابة أمارسها، أحاول أن أقترب بكل ما هو متاح من دائرة الصدق مع النفس، ملبّيًا لنداء الضمير الذي تحاول أدوات القهر والقتل المختلفة أن تسلبه منا، وتجردنا منه، وتفصلنا عنه، تحت فرض شرط "العبودية المختارة" لتجعل منّا كُتَّابًا بدون إرادة، ومثقفين بلا معنى أو سياسيين انتهازيين. أحاول قدر ما أستطيع أن أقاوم بما تبقى لديَّ من معنى، ومن عمر، أن أكون أبدًا أنا.

إنّ متعة الكتابة النقدية، في الزمن القاتل، تقودك في كثير من الأحيان إلى حتفك، إلى خرم عمرك، أو ما تبقى منه. على أنّه الخرم النبيل.

والجميل في ذلك أنك تذهب إليه، إلى نهايتك أو بدايتك الثانية، مع الحياة وأنت بكامل أناقتك الروحية، وسلامتك الأخلاقية، وصحتك النفسية، الخاسر الأعظم من كل ذلك، من يذهب إلى خرم الأعمار، متحدّيًا ومتوهّمًا قدرته على إيقاف الحياة عند لحظة القتل.

حين نختار أن نموت أو نقتل ونحن متمسكون بصارية الأمل، والحلم، يعني أنّنا لن نموت مستضعفين أذلاء، لأنّنا عمرنا أرضنا بحياة ممتلئة بالفرح والأمل، وبذلك نصنع لغة سياسية وثقافية جديدة تؤسس لمعنى جديد للحب، وللحياة على الأرض. علينا أن نجعل خيار القتل والموت صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا، في يد المستبد/ القاتل، ليفكر ألف مرة قبل ذهابه إلى ممارسة هوايته في القتل.

لنعلّم الطاغية باسم الدين، أو باسم الوطن، كيف يجب أن نعيش ونحن نعانق حلمنا بأن نبقى أحرارًا كما ولدتنا أمهاتنا.

ورحم الله الخليفة العادل، عمر بن الخطاب، وكل الخلفاء الراشدين.

اللهم اجعل موتنا هادئًا ورحيمًا، وأبعدنا، برحمتك وقدرتك، وجلال عظمتك عن القتل الجبان.

اللهم آمين.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English