عن التفاهة ونظامها

أقليّة تتكاثر مثل فطر سامّ!
د. نجيب الورافي
February 28, 2023

عن التفاهة ونظامها

أقليّة تتكاثر مثل فطر سامّ!
د. نجيب الورافي
February 28, 2023

يعدّ كتاب نظام التفاهة، للمفكر والأكاديميّ الكندي آلان دونو، من أندر الكتب التي تحوي أفكارًا معرفية هامّة وجادّة جمعت بين تشخيص واقع الإنسان المعرفيّ المعولم الذي يصطلي بجحيم الرأسمالية المتوحشة، وما نجم عنها من نشوء طفيل التفاهة في العمق الفردي والمجتمعي، وبين نقد هذا العالم بكل ما يكتنفه من سقوط أخلاقيّ وقيميّ عميق، وتحديدًا في مجال الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، إنّه خلاصة جامعة بين أفكار سابقة في الفلسفة والتربية وعلم النفس وعلم الاجتماع، وبين التأمل العميق لمؤلفه وتجاربه الشخصية وتجارب سواه من المفكرين والأكاديميين الجادّين والمحترمين في العالم.

يتضمّن الكتاب مقدّمة مطوّلة وقيّمة لمترجمه الأكاديمي الكويتي الدكتورة مشاعل عبدالعزيز الهاجري، وتحتوي هذه المقدمة على عرض هامّ للكتاب، يضيء الأفكار والحقائق التي تناولها مؤلفه مع حشد هائل من الأمثلة والاستشهادات ضمّنها المترجم لشرح أهم محاور الكتاب، وهذه الأمثلة ذات مرجعيات عربية وإسلامية في الفلسفة والتربية تؤخذ على سبيل التأييد والاستدلال، يلمس في هذه المقدمة أيضًا مدى حماس كاتبها للحقائق الناجزة التي تفرّد بها الكتاب، موضحًا أبرز ما ناقشه المؤلف، وهو مسألة تسليع المعرفة الأكاديمية وبيعها للجهات الممولة للجامعات، من خلال سلسلة تبدأ أولى حلقاتها في سعي الأستاذ الجامعي للحصول على المنح من هذه الجهات الممولة، وهكذا ينحدر العمل بالجامعة إلى درك التفاهة، فتتحول من منتِج للمعرفة إلى تاجر فيها يعمل في وسط من الاعتبارات الكمية والقيم الزبائنية، (ص35).

ويقابل بين الخبير كمثال لنظام التفاهة وبين المثقف الحر، وما يمثله من التزام بالقيم والمبادئ، فللخبير هُوية مؤسساتية، ومن ثَمّ فإنّ ظهوره يرتبط بالشروط الموضوعية لمؤسسته، ولذلك فهو يلتزم بأهدافها فيما ينتجه من أفكار مقابل ما يحصّله منها من مكافآت (ص38 )، ثم يستقصي مترجم الكتاب مزيدًا من مظاهر نظام التفاهة فيما تضج به وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي يوميًّا من دعاية هابطة لذواتهم، مستغلين هذا الفضاء الرحب للترويج لأنفسهم ولبعضهم، فلا شيء يهتم به التافهون، ولا يهمهم سوى تضخيم أنفسهم ومنجزاتهم، ساعين أقصى ما يمكن لنشر الأنموذج التافه، وتسييد جوهره ومنطقه، وهذا شيء بحدّ ذاته تفاهة، فكل ما يبالغ فيه هو أمر غير ذي أهمية، (ص61).

ما هو نظام التفاهة، ومن هم التافهون؟ إنّهم عبارة عن وسط خاص استثنائيّ من حيث الوعي والشعور، وسط يبدأ بمثابة أقليّة قد تكون فردًا ثم يتكاثر كالفطر السامّ، حتى يتشكّلَ نظامًا له قواعده وأهدافه وأقرب إلى التشكيل العصابي في محيط علاقات شاذة تجعل التشابه بين أفراده حتميًّا، ومن ثم يصعب عليك أن تفرق بين تعريف نظام التفاهة وبين الشخص التافه، فماهيته مترادفة مع ماهية مثيله، إنّ جوهر هذا الشخص هو القدرة على التعرف على شخص تافه آخر، معًا يدعم التافهون بعضهم بعضًا فيرفع كلٌّ منهم الآخر لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، لأنّ الطيور على أشكالها تقع، (ص70).

لن تضلّ كثيرًا في التعرف إلى علامات الشخص التافه، ومنها علامات سلوكية، فهو مخلوق منحط، يستفيد من معرفته بالأخبار الداخلية والدسائس في أوساط ذوي السلطة؛ لاستغلال كل موقف، ومنها علامات جسدية ذات دلالة سيميائية، فمن يشتركون في سلطة نظام التفاهة يظهرون ذات الابتسامات المتواطئة، معتقدين أنّهم أذكى من الجميع، (ص79).

يستعمل الإيهام والخداع والزيف وسيلةً لاستدراج الأشخاص ليصبحوا تافهين؛ ففي الجامعات يتم إخضاع الشخص المؤهّل جديدًا لدرجة الأستاذ الجامعي، لطقوس عبور ترهيبية مصمّمة لجعله يفهم أنّ ديناميات السوق لها الأولوية على المبادئ الأولية للمؤسسة، وأنّ هذه المبادئ ينبغي التغاضي عنها، فتلك المهنية ينظر إليها على أنها مجرد لعبة، إنّنا نلعب فحسب، فالأمر مُسلٍّ خفيف الظلّ وليس بالحقيقيّ، إنّه مجرد ادّعاء كبير؛ أن تلعب اللعبة رغم أنّك قد تتظاهر بغير ذلك، يعني الاستسلام لقانون الجشع لا سواه، لقد صارت هذه المهنية تقدّم نفسها، وكأنّها اتفاق ضمنيّ بين منتجي المعرفة والخطاب العام من جهة، وبين ملاك رأس المال من جهة أخرى، (ص80-82).

ولأجل ذلك، لا بُدّ من خلق أنموذج ما يسمى بالخبير العلمي، بل ويجب، لكي يصبح ظاهرة لافتة، أن يتم بذل الجهود لتوكل إليه شؤون المؤسسة، فيرسم السياسات ويحدّد الاستراتيجيات ويتصرّف -بحسب (إدوارد سعيد)- وَفقَ ما يراه سلوكًا مناسبًا مهنيًّا ثم ينبغي الرضوخ له، فلا تربك الأمور ولا تشرد بعيدًا عن النماذج والحدود المقررة مع جعل نفسك قابلًا للتسويق، وقبل كل شيء صالحًا للظهور ثم غير مثير للجدل وغير سياسي، وموضوعيًّا، (ص83).

تتمثّل استراتيجية إدارة المعرفة بجملة من القواعد الخاصة يتم التواطؤ عليها، وفي صدارتها بيع المعرفة العلمية من خلال ربطها برأس المال وسوق العرض والطلب؛ أي بربط نفسها بالأعمال الكبرى وبمؤسسات السلطة، دوائر مال، دول ثراء، من دون أن تبقي شيئًا، لا تقوم المؤسسات البحثية ببيع المعرفة للزبائن فقط، بل إنّها تصبح شريكة في التلاعب أيضًا، (ص98).

وينبغي العمل على تغذية النزعة الإنتاجية، وما يصاحبها من عمليات تراكمية، دون إيلاء أيّ أهمية للروح العلمية والشعور بالشغف البحثي للابتكار والإضافة. إنّ منجز هؤلاء ونجاحهم يشبه منجز القَتَلة؛ كلاهما منجز لكن عائده هو الخسران وعدمية الحياة، فعمل العقل هذا الذي يتطلب استيعابًا بطيئًا وحميمًا، قد تمت إعاقته بواسطة مراجع متكاثرة، إلى حدّ مدير للرؤوس، صارت التفاهة غالبة، (ص96).

بينما التلاعب باللغة هو إحدى القواعد المتبعة للتافهين أو من يدينون بالولاء لنظام التفاهة، يستعمل هؤلاء ألفاظًا زئبقية، لا تدل على مرونة، بل على مراوغة ومواربة، لغة غير حدّية وقطعية، يلجؤون لدى استعمال مصطلحات البحث إلى استعمال كلمات ومصطلحات تغري شركاءهم المموّلين، ولا تتسبّب في قطع خيط الودّ وعلاقة التواطؤ بين الطرفين، يضطرّون للتحريف باستعمال مرادفات بديلة أكثر برودة وأقل حدّة، كاستعمال لفظ حركة بدلًا من ثورة شعبية بالنسبة إلى سلطة مملكة الثروة، ولفظ فئة اجتماعية، بدلًا من طبقة في مجتمع رأسمالي وهكذا.

ظاهرة السوبر مان الأكاديمي، وهو أبرز ظواهر نظام التفاهة، إذ يقوم على تنصيب أكثر المنتمين إلمامًا بقواعد النظام، بمثابة شخص مؤهل للقيام بهذا الدور ولديه من الملكات الخاصة ومن الخبرات المكتسبة ما يجعله يتصرف باقتدار على تكوين شبكة من الأشخاص التافهين وخلق القواعد المتواطَأ عليها بين أفراده لتحقيق ذلك. تجد هذا النموذج يحاول خلق كيانه في جامعاتنا، السوبر مان الأكاديمي هذا يدعي العلم بكل شيء، وهو متحفز على الدوام لدس أنفه في كل قضية وموقف أو عمل، فيقدّم مشوراته لأصحاب القرار المؤسسي، ويُبدي من مزاعم التميز والفرادة حتى يبهر وينال الثقة، فيما هو يضمر غاية انقلابية لكلّ ما يمت لقوانين المؤسسة العلمية ولوائحها بصلة، لا سيما في حال التعارض مع مصالحه المادية. يناط بشخص الخبير، تثبيت دعائم نظام تافه وسن قواعد اللعب فيه، (ص118).  

ما هي هذه اللعبة في نظام التفاهة؟ إنّها في المقام الأول الإقرار أنّ ثمة طقوسًا يجب أن تبديها لتثبت ولاءَك للمجموعة، واللعبة في حقيقتها على وجهين كرياضة مسلية، أو كحرب مستترة، عنف علني، أو حتى جريمة، إنّ اللعبة في هذا النظام تقوم على وجهين؛ الأول زرع كيانها الشاذّ الخارج عن المعتاد وترسيخ قواعدها بين أفرادها وتوسيعها قدر الإمكان، أمّا الثاني فهو مواجهة ما يدعونه خصومهم ممّن لم يدينوا بالولاء للتفاهة، ومن ذلك العمل على التشكيك بمهنية هؤلاء لإقصاء أي فكرة تستحق الاهتمام، أو إبداع؛ وذلك استعدادًا لطرح نهجهم البديل، لكيلا ينازعهم أحدٌ فيه، فقد يستعملون القوانين الرسمية للتغلب على الخصم أو للطعن بمصداقية فكرة أو لسحق شعبية، (ص130).

يبدو الإقصاء مريرًا انتقاميًّا في منظور هؤلاء، فحالما يستحوذون على المؤسسة ويتم ربط نتاجها بممولين، يتكون عن ذلك فئة قليلة ثرية، فيما الغالبية فقيرة تعاني البطالة والعوز، وهنا يتم إذلال هؤلاء بالفتات أو ابتزازهم، ويصبح عليهم أن يختاروا بين الرضا بالأمر الواقع أو المعاناة، أمّا الرافضون فيعلنون الحرب عليهم بوسائل شتى يمتلكونها، وقد أصبحوا إلى جانب النفوذ المالي النوافذَ الثقافية والمعرفية الوحيدة داخل المؤسسة، (ص141).

والآن، وقد عرضنا اليسير ممّا حواه هذا الكتاب القيّم، وبقي الكثير منها؛ فهي دعوة لقراءته قراءة جادّة، لا سيّما من قبل إعلام المعرفة من ناحية، ومن ناحية أخرى فبقدر ما يسود الحقائق التي تناولها مؤلفه من توجسات تنذر بمخاطر جمّة على المعرفة ينبغي التنبه إليها واليقظة تجاهها، فإنّ ذلك لا يجعلنا ننزوي في زوايا قنوط، ولا أن نقفل على أنفسنا حجرات مظلمة، فما زال في الناس ناس، وما سيبتدئ هباء سينتهي كما ابتدأ، والنافع سيبقى عطاء ثريًّا يتجاوز الفناء ويستعصي على النضوب.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English