ماراثون الجوع

رحلة البحث عن الخبز المدعوم في أزقة المكلا
خيوط
May 24, 2023

ماراثون الجوع

رحلة البحث عن الخبز المدعوم في أزقة المكلا
خيوط
May 24, 2023

مع اشتداد الأزمة الاقتصادية في اليمن، واستمرار تدهور العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، والتي ألقت بظلالها على أسعار المواد الغذائية في عموم اليمن، ولا سيما المحافظات التي تقع في نطاق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، تصبح الأوضاع الإنسانية، يومًا عن يوم، أكثر سوءًا، إذ تحاول السلطة المحلية في المكلا وَجِهات خيرية أخرى، تخفيف العبء على بعض شرائح المجتمع في تقديمها الدعم لبيع الخبز (الروتي) بسعر مُخفّض.

هنا في المكلا، أكبر مدن محافظة حضرموت، من حيث التعداد السكاني، في أزقتها وشوارعها الرئيسية مع أولى بوادر غروب شمس كل يوم، ثمة حراك ورحلة تبدأ فصولها من بعد صلاة العصر حتى أذان صلاة العشاء؛ بحثًا عن الخبز المدعوم.

 بعث جديد

تصدح منابر المساجد في أحياء المكلا بتكبيرات صلاة العصر، هنا في باجعمان، في مخابز (هايبر المستهلك) في حي النصر، وحي الثورة، وحي جول الشفاء، ما إن ينهي الإمام الصلاة حتى تدب الحركة في الأزقة والشوارع كأنّهم في يوم بعث جديد أو في حالة سباق مارثوني، كلٌّ يبحث عن فرصته من الخبز المدعوم. 

في (هايبر المستهلك) بحي النصر، يتم بيع الخبز بسعر 30 ريالًا للقرص الواحد مقارنة بسعره في بقية مخابز المدينة (90 ريالًا) للقرص الواحد، نتيجة لاتفاق بين السلطة المحلية بالمحافظة مع إدارة مخابز هايبر المستهلك، والذي يحصل على الديزل المدعوم مقابل خبزٍ مدعوم؛ في محاولات من السلطة لكبح جماح المجاعة التي بدأت مؤشراتها تظهر على كثير من الأُسَر في المدينة، لا سيما الأحياء القديمة بالمدينة. فالفقر والجوع تجاوزا عتبات المدينة، وباتا كوحش يفتك بطرائده الواحدة تلو الأخرى، في ظلّ صمت الحكومة المعترف بها دوليًّا، في إيجاد حلول ناجعة لمنع الانهيار الاقتصادي. 

طابور طويل لأكثر من ٢٠ مترًا في إحدى صالات هايبر المستهلك. كميات الخبز لا تكفي كل تلك الأعداد التي تنخرط في التزاحم، فكلما تم تعبئة سلال المشترين في أول الطابور، ازداد أعداد الناس، علاقة عكسية أطرافها الخبز المدعوم والوقت والمواطن. 

 وجبة بكلفة أقل

الساعة الـ5:٠٠ مساء كل يوم، تشاهد وأنت تدخل من البوابة الشرقية للهايبر، زحمة غير اعتيادية في الصالة الرئيسية ما إن تمشي خطوات باتجاه ذلك التزاحم، حتى تكتشف بنفسك أنه طابور نسائي أمام طاولات بيع الخبز المدعوم، هنا في هذا الطابور الفرصة تكون أكبر للظفر بوجبة عشاء بسعر مخفض. تقف تتأمل بنفسك في تلك الطوابير من النساء والرجال، ترى ذلك الطفل محشورًا بين بالغين، وهناك يقف رجل كبير السن، ما إن شعر بأني أحدق فيه، طأطأ رأسه؛ إنّه الجوع عندما يضعك على الحافة. 

سعر زهيد يحفظ لتلك الأسر شيئًا من مقومات الحياة التي بدأت تتلاشى مع كل سنة تمر من عمر هذه الحرب الظالمة، التي أعادت اليمني مرة أخرى إلى مرارات الجوع والعوز، بعد أن خاض نضالاته لسنوات في سبيل التخلص منها.

طوابير الخبز المدعوم تشكّل تلك الحافة، الحافة بين صفوف الجوعى، والسقوط في هاوية سؤال الناس وإراقة ماء الوجه. خطوة واحدة فقط، فكثير من أرباب الأسر لا يستطيعون الوقوف في تلك الطوابير، فيضطرون لإرسال أطفالهم الصغار مخاطرين بهم في زحمة سيارات الشوارع، بين سائق طائش وآخر يقود مركبته بنصف تركيز، همّه البحث عن زبون على حافتي أرصفة الشوارع، وبين وحوش بشرية استغلت التزاحم على الطعام للتحرش بأطفال في عمر الزهور. 

وبينما تضطر بعض ربات البيوت للخروج بأنفسهن للحصول على وجبة العشاء، يمكن رؤية كيف أنّ الطابور النسائي أكبر من الرجالي، لكنّ كثيرًا منهن يعُدن بخُفَّي حُنين؛ إما بسبب عطل في الأفران أو التأخر أو نظرًا للازدحام الشديد أو عدم وجود خبز كافٍ، لعدم وصول كميات كبيرة من مادة الدقيق. 

على الجانب الآخر من الموضوع، يوجد مخبز التيسير الخيري بحي جول الشفاء، يقدم حصته من الخبز المدعوم، ولكن على نطاق ضيّق في بعض أحياء مدينة المكلا، سعر القرص الواحد ٢٠ ريالًا فقط، شريطة ألّا تتجاوز حصة الأسرة الواحدة في كل حي ١٠ أقراص لليوم الواحد، بسعر ٢٠٠ ريال.

سعر زهيد يحفظ لتلك الأُسَر شيئًا من مقومات الحياة التي بدأت تتلاشى مع كل سنة تمر من عمر هذه الحرب الظالمة التي أعادت اليمني مرة أخرى إلى مرارات الجوع والعوز، بعد أن خاض نضالاته لسنوات في سبيل التخلص منها.

وتم إنشاء مخبز التيسير بجهود من أهل الخير الذين تكفلوا بتكاليف شراء أصوله بأكثر من ١٠٠ ألف دولار وتكاليف تشغيله وتوفير المؤن اللازمة لاستمراره من دقيق وزيت وخلافه ممّا يدخل في إنتاج الخبز الذي تصل كلفته إلى مبلغ ثمانية آلاف دولار أمريكي شهريًّا. الطاقة الإنتاجية لهذا المخبز لا تقل عن ١٠ آلاف قرص في اليوم الواحد، ومع ذلك لا يغطي إلا أجزاءً من بعض أحياء المدينة.

أنَّات وخطوات 

حوالي ثلاث ساعات من كل يوم، هي رحلة البحث عن الخبز المدعوم في تلك المدينة، يملأ خلالها صخب السيارات أرجاء شوارعها وأصوات مواكب المسؤولين، خصوصًا في شارع الهايبر، خط سير تلك المواكب من قيادة المنطقة العسكرية الثانية وميناء المكلا إلى قصر المحافظ، على الجانب الغربي والعكس.

داخل هذا الصخب -إن كنت صاحب ضمير حي، وعرجت على تلك الصالة- ستسمع أنات الناس وحفيف خطواتهم المتسارعة إلى صالة الهايبر وهم يدركون أنّ هذه الرحلة قد تستغرق منهم كل تلك الساعات إلّا أن يسعف الحظ أحدهم ويصل أولًا فيعود إلى بيته باكرًا والابتسامة تملأ شفاهه، كما شاهدتها على كلِّ مَن يخرج من أتون تلك الطوابير وبيده سلة الخبز وكأنه انتصر على عدو، وليس أشد من عداوة الجوع وطأةً على الإنسان. 

بعد انتهاء صلاة العصر بمساجد المدينة، لو قدّر لك أن تقف عند أسفل الجسر البحري من الجهة الغربية، حيث الوافدون من أحياء المكلا القديمة، وآخرون من داخل أحياء الشرج، فسترى كيف يحث الناس الخُطَى أفواجًا في ماراثون. الكل يرقب الذي بجانبه لئلا يسبقه في الطابور فيتأخر دوره.

يقطع البعض مسافة (2)كم، مشيًا على الأقدام، بينما يستقل البعض الآخر وسائل النقل الداخلي أو الدراجات النارية للوصول باكرًا لحجز موقعه في الطابور. ففي هايبر المستهلك، تستطيع توفير وجبة العشاء في حدودها المقبولة؛ إذ إنّه مسموح لك بما عدده ٣٣ قرصًا؛ أي بقيمة ١٠٠٠ ريال، بعكس المخبز الخيري الذي لا يسمح لك سوى بعشرة أقراص للأسرة الواحدة، ليضمن الوصول لأكبر عدد ممكن من الأسر.

بدلًا عن نوم القيلولة

يحكي بدر (٤٠ سنة)، من سكان حي السلام، الذي يبعد (2) كم شرق هايبر المستهلك، أنه نسيَ شيئًا اسمه نوم القيلولة، فهو يعود من العمل في الساعة الـ٢:٠٠ مساء ليتناول وجبة الغداء، ثم يتوجّه مشيًا على الأقدام إلى هايبر المستهلك، فيصلي العصر بالمسجد المجاور، ليضمن الحصول على مركز متقدم في طابور الخبز المدعوم، يقول:

"اليوم الذي لا تعمل فيه مخابز الهايبر أو لا أستطيع الذهاب إليه لظرف ما، أضطرّ لتقليل حصة كل فرد في العائلة من الخبز، إلى نصف الوجبة المعتادة".

أم محمد (٤٨ سنة)، تأتي إلى صالة الهايبر، قادمة من منطقة الصفاء، حي الثورة، بشكلٍ شبه يوميّ، تقطع مسافة أربعة كيلو مترات ذهابًا وإيابًا؛ وذلك لعدم كفاية ما تحصل عليه من حصة مخبز التيسير الخيري لتغطية جميع أفراد الأسرة الكبيرة لوجبتَي العشاء والفطور، تقول:

"ابني محمد مرتبط بالعمل في القطاع الخاص، وزوجي يعمل كهربائي بالأجر اليومي، فضلًا عن أنّه يشكو من آلام الظهر، ولا يستطيع المشي كل هذه المسافة، فأضطر للذهاب للحصول على الخبز المدعوم".

هكذا يقضي الكثير من أفراد الأسَر في مدينة المكلا، تلك الساعات الثلاث في رحلة الحصول على الخبز، مسقطين القول المأثور "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، ليصبح: بالخبز وحده، يمكن أن تعذب إنسانًا، وتقضي على أحلامه في عيش كريم يحفظ له كرامته.

(تعاون نشر مع مواطنة)

•••
خيوط

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English