"بني حديجة" التي طمرتها الثارات والعزلة

آثار وأسرار تاريخية غير مكتشَفة بالقرب من "بينون"
صقر أبو حسن
February 7, 2024

"بني حديجة" التي طمرتها الثارات والعزلة

آثار وأسرار تاريخية غير مكتشَفة بالقرب من "بينون"
صقر أبو حسن
February 7, 2024
.

في الطريق الذي لا يمكن أن يحدده تطبيق (Google Maps)، سارت بنا السيارة في خط سير ترابي، يشق الأرض المنبسطة التي تحيط بها الجبال الصخرية، ذات الطبيعة القاسية. 

كان يرافقنا "زبن الدين الحديجي"، وهو شاب تعرض قبل أسابيع لحادث مروريّ أدى إلى كسر في قدمه، وهو يعرج في سيره، نحو القبور الصخرية؛ قال وهو يبتسم: "كانت مساكنَ لآبائنا وأجدادنا سنين عديدة، وإصرارهم على السكن هنا كان بسبب الحروب القبَلية التي كانت تطحن المنطقة طوال سنوات." كانت هنا مقابر صخرية، لكنها الآن تستخدم مخازن لأعلاف المواشي، في حين أكلت عوامل التعرية الكثيرَ من التفاصيل لتلك المقابر الصخرية، وهدم زلزال العام 1982، أجزاءً من معالم تلك المقابر والشواهد الأثرية في المنطقة.

طاف بنا "زبن الدين" في أجزاء من تل صخري تحاط به المقابر الصخرية، قبل أن يطلعنا على ممر صخري يمتد على طول نحو 180 مترًا، وارتفاع يصل إلى نحو 7 أمتار، وعرض حوالي متر ونصف المتر.

الجهة الغربية من الممر مفتوحة وسالكة للسير، بينما الجهة الشرقية من الممر أُغلقت بسبب تهدم بعض أجزاء المدخل وتساقط الصخور على البوابة، ومن الملاحظ وجود بوابتين للجهة الشرقية متقاربتين، ولا تفصل بينهما سوى أمتار قليلة، سُدَّتا، باستثناء فتحة صغيرة بالكاد تسمح بمرور العابرين.

الظلام داخل الممر مخيف، والصمت موحش، لكن نسمات الهواء البارد هي التي تجعل تجربة المرور من هذا المكان مثيرة.

في التل المقابل، يوجد نفق آخر مرتفع عن سطح الأرض بنحو 10 أمتار، لكنه أقل مسافة من السابق، ومتاح حاليًّا للسير على الأقدام، ويجمع بين الأجزاء البعيدة لقرى "بني حديجة". ويصل طول هذا النفق إلى نحو 100 متر، وهو أصغر من النفق الآخر، ويمتاز بارتفاعه عن الوادي. كما يوجد في بابه سرداب واحد متجه إلى أسفل الوادي، والآخر متجه باتجاه النفق الآخر الذي طوله نحو 180 مترًا.

في قرية الحطمة، هناك كتابات بخط المسند في أسفل الوادي، وأيضًا كانت هناك بيوت سكنية في الموضع ذاته، وكهوف وشواهد كثيرة، كما يوجد كذلك النفق، وإشارات ورموز كثيرة تدل على أشياء عديدة، مثل مدافن وقبور، حتى إن هناك أماكن لوضع مشاعل النار التي كانوا يستضيئون بها.

كان "زبن الله" متحمسًا جدًّا ليطلع العالم على الآثار في قريته، إذ تحدث لـ"خيوط": "كنت أعتقد، ونحن صغار أن الأنفاق والمقابر الصخرية موجودة في كل مكان، وعندما كبرنا عرفنا أهمية الموضوع وأنه مرتبط بتاريخ عظيم لمنطقتنا التي تنفرد بها".

لا تزال منطقة "بني حديجة" التابعة لمديرية الحداء في محافظة ذمار (شمال اليمن)، عذراء فيما تخفيه عن أعين الناس منذ آلاف السنين، وما ظهر من آثار الأجداد الشيءُ اليسير، ويشير إلى وجود حضارة قوية ودولة لها قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي خلصت على شكل آثار ما تزال جلية للعين.

الناظر إلى قرية "الحطمة" يشاهد مرتفعًا صخريًّا تحاط به التربة الزراعية الخصبة، كسفينة تشق طريقها وسط الأودية، بشموخ فريد. ما تزال بعض النقوش الصخرية ماثلة في بعض منازل تلك القرية، حيث استُخدمت بعض الأحجار المحفورة فيها، لبناء المنازل التي يصل عمر بعضها مئة عام.

منطقة "بني حديجة" الأثرية بمديرية الحداء - ذمار

أسرار مدفونة

لا يفصل منطقة "بني حديجة" بمديرية الحداء، عن منطقة بينون الأثرية -في ذات المديرية- غير بضعة كيلومترات، وتتشابه في الطابع الأثري والهندسة الفنية في شق الأنفاق وتطويع الطبيعة لصالح الإنسان، لكنها ما تزال تخفي أسرارها، ولم تبح إلا بجزء يسير تكشَّفَ للباحثين.

على ربوة صخرية، تحولت إلى موقع للمقابر، توجد بركة ماء، نُحِتت في الصخر الأصم وفق نظام هندسي لتصريف المياه، وذلك من أجل استخدامها للزراعة، تصل أبعادها إلى نحو 15 مترًا عرضًا، و15 مترًا طولًا، وعمق 5 أمتار تقريبًا، يتوسطها عمود صخري، وهو ضمن جسد الصخرة.

ويقع النفق الذي يربط بين الواديَين تحت هذه البركة، على بعد 150 مترًا تقريبًا. بالإضافة إلى مقابر صخرية منحوتة يدويًّا بدقة عالية، يصل عددها إلى 60 قبرًا، من المرجح أن تعود إلى ملكٍ من الملوك الحِميريين؛ وفق حديث جبر محمد الحديجي- أحد سكان المنطقة.

ويؤكد الحديجي لـ"خيوط"، أن جدران الأنفاق لم تتغير، حتى إنّ آثار مرور الناس وضربات المعاول ما تزال فيها واضحة، مشيرًا إلى أنها توحي بأن تاريخ شقها لا يتجاوز بضع سنوات، وليس آلاف السنين؛ "وهذا يدل على أنها لم تتعرض لأي تغيير أو تبديل أو استحداث"، وفق تعبيره.

جبر الحديجي، مدوِّن في منصات التواصل الاجتماعي، من أبناء المنطقة، وينشر بشكل دوري عن الآثار الموجودة في منطقته، استعرض خلال حديثه لـ"خيوط"، بعض "الكنوز الأثرية" في المنطقة. 

ويقول: "في قرية الحطمة هناك كتابات بخط المسند في أسفل الوادي، وأيضًا كانت هناك بيوت سكنية في الموضع ذاته، وكهوف وشواهد كثيرة، كما يوجد كذلك النفق، وإشارات ورموز كثيرة تدل على أشياء عديدة، مثل مدافن وقبور، حتى إن هناك أماكن لوضع مشاعل النار التي كانوا يستضيئون بها في النفق المظلم".

وبيّن أنّ السد الذي كان موجودًا في المنطقة، كان موقعه في مكان آخر من الوادي؛ في أعلى السائلة قبل نبع عين مياه المقطرة، وما زال أثر بنائه موجودًا إلى اليوم.

يثق الحديجي بأن الأنفاق نحتت لأغراض سرية للدولة، وكانت تستخدم ممرات إلى القلعة، وربما هذا واحدٌ من الأنفاق. متابعًا: "هذا غير وظائف أخرى كانت تؤديها الأنفاق لم تُكتشف بعد، وما تزال غامضة".

هذا الأمر ينفيه الدكتور محمد مسعد الشرعي، أستاذ الآثار والمتاحف بجامعة ذمار، إذ يقول لـ"خيوط"، إن الأنفاق خُصصت لنقل الماء من أحد الوديان و"سد قزن" إلى وادي "الخوالف"، حيث يبلغ طول النفق الكبير قرابة 284 مترًا، في ارتفاع 7-9 أمتار، وعرض يصل إلى متر ونصف المتر، بينما النفق الآخر يصل طوله إلى نحو ستين مترًا نُحت بشكل أسطواني.

يشير الشرعي إلى أن موقع الحطمة "بني حديجة"، الكائن جنوب شرق مديرية الحداء، من أهم المواقع الأثرية التي تمركز فيها الاستيطان البشري منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى الفترة السبئية المبكرة، الألف الأول قبل الميلاد، حيث كانت تحت نفوذ مملكة سبأ، واستمر الاستيطان في الفترة السبئية المتأخرة (الحميَرية الريدانية) تحت نفوذ "الريدانيين"، وبدأ الاهتمام بهذه المدينة والمدن المجاورة لها منذ القرن الأول الميلادي إلى القرن السادس الميلادي؛ كون المدينة تحفّها أودية خصبة ولها طوبوغرافيا تم استغلالها في تجميع المياه للزراعة والشرب. وبازدهار الدولة اليمنية القديمة وتوسعها واستقرارها تطورت المدينة والمدن المجاورة لها معماريًّا وثقافيًّا، فآثار المدينة الباقية شاهدة على ذلك.

كما أنّ للمدينة منشأة دفاعية تظهر في بقايا الأسوار من جهة الشمال والجنوب والشرق، وبقايا محافد للحماية تظهر بقايا أساساتها في كنف المنحدر الصخري لمدينة "الحطمة".

إرث حضاري غير مكتشف

لهذا المكان الأثري الضارب في القدم شواهد حية واضحة للعيان؛ قصور، معابد، منشآت مائية، تدل على قوة وثراء الدولة اليمنية في تلك الحقبة.

يوضح الشرعي أن "الحطمة" تمتلك منشأة ومبانيَ سكنية، منها: قصر قديم، في حين ما تزال أساسات القصر واضحة للعيان حتى الآن، تتمثل في سبعة صفوف من المداميك الأصلية للبناء، إضافة إلى التقسيم الداخلي للقصر، ويضم بداخله منشأة مائية منقورة في الصخر، وعددًا من الممرات تصل إلى أسفل الوادي عند البرك المائية، إلى جانب مبانٍ أخرى عبارة عن مساكن أصغر حجمًا، ما زالت أساساتها باقية إلى اليوم، تتوزع في سطح الموقع.

المدافن تضم مقابر صخرية فردية ومقابر عائلية وجماعية، كلها نحتت على الصخر في أكناف الجبال الكلسية والرسوبية، وهي عبارة عن غرفة على مدخل واحد تحتوي ضمنها كوَّات لوضع الجثث، وتنتشر هذه المقابر الصخرية بشكل كبير جدًّا في الجبال المحيطة بالمدينة ووديانها، ومن المقابر أيضًا المقابر الترابية، التي كانت تخصص لعامة الناس.

يتابع أستاذ الآثار والمتاحف بجامعة ذمار، حديثَه بالتأكيد على وجود منشأة دينية يحتضنها الموقع، منها مبنى شبه مستطيل في أقصى جهة الجنوب الغربي للموقع، لم تتبقَّ غير أساساته المتناثرة وبلاطات حجرية وقنوات وبعض الكروف الصغيرة، صنفه بعض الدارسين بأنه معبد المدينة، إضافة إلى معبد آخر صغير نحت في الصخر بشكل غرفة مستطيلة يحمل سقفه عمدان من نفس الجبل، وله مدخل صغير، وإلى جانب المدخل نافذتان صغيرتان مفتوحتان.

فيما المنشأة المائية، تعد أبرز الآثار من ناحية الشواهد الظاهرة والباقية إلى الآن، منها: الأنفاق، والبرك، والحواجز المائية، والآبار، والكروف.

ويقول الشرعي إن المدافن (المقابر الصخرية) تضم مقابر صخرية فردية ومقابر عائلية وجماعية، كلها نحتت على الصخر في أكناف الجبال الكلسية والرسوبية، وهي عبارة عن غرفة على مدخل واحد، تحوي ضمنها كوَّات لوضع الجثث، مؤكدًا أنّ هذه المقابر الصخرية تنتشر بشكل كبير جدًّا في الجبال المحيطة بالمدينة ووديانها، ومن المقابر أيضًا المقابر الترابية، التي كانت تخصص لعامة الناس.

وتعد مدينة "الحطمة" من المدن الواقعة ضمن أراضي قبيلة شداد، ومركزها مدينة بينون الأثرية، وهذه القبيلة لها تاريخ سياسي كبير، إذ استطاعت الوقوف إلى جانب "الريدانيين" ومساعدتهم في السيطرة على مملكة سبأ وحضرموت، وكانوا من أحد العوامل التي أرست مملكة سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات، بحسب ما تشير إليه المصادر التاريخية.

ويبيّن الشرعي أنّ أهل المدينة كانوا يهتمون بالزراعة حين استقرار الدولة، أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، وكانت أهم منتجاتهم الزراعية هي العنب والحبوب كالقمح والشعير، لافتًا إلى أن المنطقة ما زالت إلى اليوم تحتوي على معالم أثرية تحتاج إلى دراسة وتنقيب علمي وبشكل دقيق ومفصل.

كما توجد العديد من القطع الأثرية لدى الأهالي، التي تشكّل أهمية في الإرث الحضاري والتاريخي، لكنها ليست في متناول الباحثين، كما يأسف الشرعي، عدا القليل منها، بفضل بعض أهالي المنطقة الحريصين على إظهار حضارة قريتهم وتاريخها، الذي كان ولا يزال بعيدًا عن أعين المتخصصين والمهتمين والسلطة القائمة.

الصورة النمطية التي ترسخت في أذهان السكان، أنّ الغرباء الزائرين للمنطقة يبحثون فقط عن الآثار لنهبها، وقد يعود ذلك لشدة العزلة التي شهدتها المنطقة، في انعكاس طبيعي لواقع الحروب القبَلية والثارات، التي كانت تعصف بالمنطقة.

غنمة أشعلت حربًا

تجدر الإشارة إلى أن عزلة "بني حديجة"، هي إحدى عزل مديرية الحداء في محافظة ذمار اليمنية، ويبلغ تعداد سكانها (2507) نسمة، وفق التعداد الذي نُفِّذ في اليمن عام 2004، وهي من أكثر المناطق في محافظة ذمار التي تعصف بها الحروب القبَيلة والثارات منذ عقود طويلة.

مؤخرًا، أفضت جهودٌ قبَلية ورسمية إلى إنهاء واحدة من أعنف الحروب القبلية بين "بني صبر والقشادمة" -يقطنون في قرى متجاورة- من أبناء منطقة "بني حديجة" بمديرية الحداء، راح ضحيتها 40 شخصًا من الطرفين، إضافة إلى العشرات من المصابين، وفاتورة طويلة من الخسائر المادية.

ويرى المدون "عبدالمحسن البخيتي"، في حديثه لـ"خيوط"، أنّ الحداء تعرف بمشاكلها القبَلية التي تعيق الكثير من أعمال التنمية في المديرية، وقال ساخرًا: "أصحابنا رغم أن فيهم الأطباء والأكاديميين والمتعلمين، وقت المشاكل يختفي كل ذلك وتظهر العصبية".

البخيتي هو مدوِّن ومسؤول مبادرة "ضع بصمتك" الشبابية، يؤكّد أن الثأر لن يتوقف إلا بتخفيف أسبابه ومصادره، عبر نشر التعليم والتوعية، وإصلاح منظومة الضبط الأمني والقضائي، والتزام الجميع بالإطار القانوني في حال ظهرت أي مشاكل أو قضايا بين المواطنين.

كانت السيارة تسير في الطريق الترابي، والغبار يحاط بنا حتى تتلاشى الرؤية، عندما كان يقص لنا البخيتي حكايات عن الثارات التي تشعلها في كثير من الأوقات أسبابٌ "صغيرة وبسيطة"؛ وفق البخيتي، الذي قال إن حربًا طاحنة اندلعت بسبب "سَطْل تراب"، عندما أخذ أحدهم ترابًا من "جربة (قطعة أرض) شخص آخر"، لينشب خلاف نتج عنه مقتل أحدهم، لتندلع حربٌ استمرت سنوات، وحرب أخرى أشعلت فتيلها "غنمة" عندما دخلت مزرعة شخص، ليقوم بقتلها، ما آثار غضب صاحبها الذي ردّ بقتله، ليفتح باب حرب استمرت سنوات، ذهب ضحيتها العشرات بين قتيل وجريح. وغيرها من القضايا التي تتراكم لتشكّل جبلًا هائلًا من ملفات الدم والثأر بين أبناء القرية الواحدة أو قرى متجاورة.

•••
صقر أبو حسن

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English