هل التاريخ يكتبه المُنْتَصِرون؟

أربع وجهات نظر من أَرْوِقَة التاريخ
خيوط
December 19, 2023

هل التاريخ يكتبه المُنْتَصِرون؟

أربع وجهات نظر من أَرْوِقَة التاريخ
خيوط
December 19, 2023
.

ترجمة: ربيع ردمان


إنها واحدة من أكثر الكليشيهات التاريخية التي تصيبنا بالسأم، لكن هل هي صحيحة لسبب وجيه؟ مَنْ يكتب التاريخ؟ أربعة من كُتّاب التاريخ المحتملين يناقشون هذه المقولة.

"أصحاب النفوذ في حقبةٍ ما ليسوا كالذين سبقوهم"

ليفي روتش: أستاذ مشارك في تاريخ العصور الوسطى بجامعة إكستر، ومُؤَلِّف كتاب "إمبراطوريات النورمان: صُنَّاع أوروبا، وغزاة آسيا (2022).

ينطوي القول المأثور "التاريخ يكتبه المنتصرون" على قدرٍ من الصحة. وسواء أعجبنا ذلك أم لا، فإننا ننظر إلى الماضي من منظور معاصر، ونحترم (عن وعي أو بغير وعي) المصالح والمُثُل العليا للعَالَم الذي نعرفه. ونتيجة لهذا المسلك، فإننا نميل إلى التعامل مع التطورات التي قادتنا إلى الحداثة باعتبارها تطورات طبيعية، ونغض من شأن القوالب الجامدة البارزة التي اعترضت مسارها. غير أنّ هذا الجانب ليس المعنى الوحيد الذي يكتب فيه المنتصرون التاريخ. فالمؤسسات التي أسهمتْ في صياغة الحداثة هي التي أُنِيْط بها الحفاظ على سجلات الماضي. إن مقتنيات المكتبة البريطانية والأرشيف الوطني تخبرنا كحدٍّ أدنى عن بريطانيا الحديثة بنفس القدر الذي تخبرنا به عن ماضيها في العصور الوسطى ومطلع العصر الحديث. وينطبق الشيء نفسه على نظرائها في أماكن أخرى من أوروبا. هذه التوجهات في حد ذاتها ليست بالشيء الجديد. لقد كانت المكتبات الدينية والحكومية والأرشيفات الكبرى في العَالَمَيْنِ القديم والعصور الوسطى هي الجهات التي تولَّت الحفاظ على المعرفة. ومن هنا، فنحن نعرف الكثير عن أعضاء لجان التحقيق في العصور الوسطى أكثر مما نعرفه عن الهراطقة الذين حاكموهم، وعن مسؤولي الدولة أكثر من رعاياهم. 

ومع ذلك، فإنّ مقولة التاريخ يكتبه المنتصرون مثل سائر المقولات، ليس لها نصيب من الصحة إلا بقدرٍ محدودٍ للغاية. وذلك لأنّ الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتغير باستمرار أُسْوَةً بالتقدم الذي يُحْرِزه التاريخ. إن أصحاب النفوذ في حقبةٍ ما ليسوا كالذين سبقوهم، وإن كانوا أحفادهم في السُّلالة. الواقع أن هناك عوامل أخرى أبعد من القوة السياسية المَحْضَة هي التي تتحكم في وجود السجلات التاريخية وصونها. ففي حقبة العصور الوسطى التي أقوم بتدريسها، تُعدُّ معرفة القراءة والكتابة أمرًا حيويًّا في استحداث السِّجلات في المقام الأول. قبل إدخال الكلمة المكتوبة كنا نعتمد إلى حدٍّ كبير على وجهات نظر الأطراف الخارجية سواء أكانوا "المنتصرين" أم لا. وهكذا، فإن ضحايا الفايكنج هم الذين وثَّقوا للتاريخ هجماتهم وليس أبطال القراصنة أنفسهم. وينطبق الأمر ذاته على الانتفاضة السُّلافية الكبرى عام 983م، والتي شهدتْ طرد ثلاث أسقفيات فيما يُعرف اليوم بشرق ألمانيا. لقد وصلتنا أخبارها بشكلٍ حصري من خلال الضحايا الألمان، وليس عبر المنتصرين الوثنيين. فالتاريخ، كما هو شأنه دائمًا، ينطوي على ما هو أكثر من مجرد ثنائيات بسيطة.

"التاريخ قادر على كشف ما حدث من تلاعب أثناء كتابته"

لوسي وودينغ: زميلة لانغفورد وأستاذة التاريخ في كلية لينكولن – أكسفورد، ومُؤَلِّفة كتاب "سُلالة تيودور حُكَّام إنجلترا: تاريخ" (2022).

يبدو أن بعض صفحات التاريخ كتبها المنتصرون. ففي تاريخ الإصلاح الديني في إنجلترا، منذ أن أصبحنا أمةً بروتستانتيةً جرى تعريفها على أنها النقيض من الأعداء الكاثوليك خارج البلاد، ظلّ السَّردُ لقرونٍ مُشْبَعًا بشكلٍ كثيف بنَزْعَة التفوق البروتستانتي. كانت كنيسة ما قبل الإصلاح تُوصَم بعبارات من قبيل الخرافة والاضطهاد، في حين توصف الأفكار البروتستانتية بأنها تحررية ومستنيرة. وفي وقت لاحق، جرى ربط الكاثوليك بمؤامرات الاغتيال والأرمادا الإسبانية*. عندما أُعيد تقويم المواقف من الهُوية الدينية في العقود الأخيرة من القرن العشرين، أصبح هذا السرد قضيةً مفتوحة للبحث. ومن ثَمّ برز إلى السطح تفسيرٌ تاريخي مغاير يذهب إلى أن الكنيسة قبل الإصلاح كانت في الواقع تتمتع بالعديد من مواطن القوة، وأن البروتستانتية، التي طوَّرتها نخبةٌ متعلمة، قد حطَّمت العديد من المفاهيم العزيزة على الثقافة الدينية التقليدية. 

لكن قد تواجهنا مشكلة التفكير في "المنتصرين" في التاريخ. مَن نعني بالمنتصرين على وجه التحديد؟ هل يتعيّن علينا، مثلًا، في حقبة سلالة تيودور الإنجليزية تحديد "المنتصرين" من داخل النخبة السياسية، والنبلاء، والمثقفين؟ إننا حين ننظر إلى المؤسسة السياسية آنذاك يظهر لنا أن آراء الملكة إليزابيث الأولى (1533 – 1603) كانت في كثير من الأحيان على خلاف آراء رؤساء وزرائها. كما يمكننا أن نلاحظ داخل النخبة الاجتماعية وجود فواصل تحد بين ملكيات النبلاء الكاثوليك وملكيات معارضيهم التطهريين Puritan. وفي عالم المثقفين لا تجد اتفاقًا على رأي بين اثنين من الكُتَّاب أو الشعراء أو كُتَّاب المسرح أو المنظرين السياسيين. إن فكرة بروز أيّ مجموعةٍ معينة كمجموعةٍ "منتصرة" هو أمرٌ مضلل إلى حدٍّ كبير، ويَحْجُب تنوُّع وتعدد الناس والأفكار في أي عصر من العصور. 

من الممكن أن يتحوَّل التاريخُ إلى ذريعةٍ لإحراز النصر عندما يتم توظيفه لأغراضٍ سياسية. وهذا أمرٌ جرى على مَرّ العصور، ويحدث في عصرنا الحالي حين يعْمَدُ السَّاسةُ عديمو الثقة بأنفسهم إلى التلاعب بالماضي لتحقيق أغراضهم الخاصة. غير أنّ ما يقوم به هؤلاء ليس من التاريخ الذي يكتبه المنتصرون، بل هو تاريخ اختطفه أولئك الذين يُقَامِرون من أجل الفوز. 

ورغم ذلك، فإن التاريخ في الوقت نفسه ينطوي على تِرْيَاق داخلي لهذا الأمر. وإذا ما تحقق ذلك على النحو المطلوب فإن التاريخ سوف يكشف ما حدث من تلاعب أثناء كتابته. التاريخ لا يصف الماضي، بل يناقشه. لذا، فإذا كان بوسع معدومي الضمير التلاعب بالتاريخ، فمن الممكن أيضًا التَّصدِّي لأولئك الذين يلهثون لاقتناص الفوز أكثر من الحقيقة. 

"هل بوسعنا التَّحَقّق من هوية المنتصرين؟"

فيليب ثير: مُؤَلِّف كتاب "كيف خَسِر الغربُ السَّلام: التَّحول الكبير منذ الحرب الباردة (2023).

بدا واضحًا أن تاريخ التحول الذي عاشته أوروبا في مرحلة ما بعد الشيوعية بعد عام 1989، قد كتبه المنتصرون في الحرب الباردة. لقد كان نصرًا كاملًا لدرجة أنّ فرانسيس فوكوياما أعلن أن العَالَم لن يشهد أي تغييرات رئيسية في المجتمع أو نظام الحكم أو الاقتصاد بعد وصول البشرية إلى مستوى معين من التطور. وكما يقول، فإن توجه العَالَم نحو اقتصادات السوق الحرة والديمقراطيات الليبرالية هو بمنزلة نهاية التاريخ. 

ولعل من المفترض أن نسأل ما الذي نعنيه بـ"المنتصرين"؟ هل بوسعنا أن نتحقق مَنْ يكون هؤلاء؟ وكم يَلْزَمُنَا من الوقت حتى نُسَمِّي ما فعلوه انتصارًا؟ لقد كان فوكوياما محقًّا بشأن صعود الرأسمالية العالمية، ولكن غاب عن ذهنه أنها قد تزدهر في ظل الأنظمة الاستبدادية أيضًا. 

في وقتنا الحاضر أصبح من السهل انتقاد فوكوياما. معظم علماء الاجتماع المختصين بحقبة ما بعد الشيوعية اعتمدوا على افتراضاته في دراسة توطيد الديمقراطيات والخصخصة وغير ذلك من الإصلاحات المؤيدة للسوق. غير أنهم تجاهلوا إلى حدٍّ كبير الانخفاض في نسبة مشاركة الناخبين وغيرها من الإشارات المبكرة إلى وجود أزمة في الديمقراطية. ولم يُلحَظ أيضًا سوى القليل من الآثار الجانبية الأخرى لإصلاحات الليبرالية الجديدة مثل تزايد التفاوت الجهوي والاجتماعي. 

التاريخ الذي يكتبه المنتصرون يعني ضمنًا ضرورة وجود خاسرين. وقد ترتب على هذا التفسير المانوي** للتاريخ في أعقاب ما بعد عام 1989، إدانة الشيوعية (أُشاطرهم شخصيًّا في الإدانة) التي لم تكن متسقة مع الخبرات المتباينة لأولئك البشر الذين عاشوا في ظلها. وفي حين أُلْقِي بالشيوعية في مزبلة التاريخ (على الأقل في الغرب)، استمرت معاداة الشيوعية في الحرب الباردة، كما فعل التقسيم القديم لأوروبا إلى غرب وشرق. وقد نجح هذا إلى حدٍّ ما حتى اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ومنذ ذلك الحين، تم كسر هيمنة الليبرالية الجديدة، أولًا لأنّ الدولة التي تَسَبَّبتْ بوقوع الأزمة المالية العالمية اضطرت إلى حلها، وثانيًا سياسيًّا ما جرى في عام 2016، من تحول جذري نحو الشعبوية والقومية اليمينية المناهضة لليبرالية. وفي هذا السياق، قد نتساءل: هل ظل من يُدعون بالمنتصرين في الحرب الباردة منتصرين على طول الخط؟ ليس هناك نصر دائم، وعليه فليس هناك تاريخ دائم أيضًا. من المحتمل بشكلٍ قوي أن نزعم أن الغطرسة الغربية التي تنظر إلى نفسها باعتبارها المنتصر كانت من بين الأسباب التي أدت بمَن يُدْعَون بالمنتصرين في الحرب الباردة إلى خسارة السلام في الفترة التي أعقبت عام 1989.

نجح المؤرخون عند دراسة جنون الساحرات في القرنين السادس عشر والسابع عشر في تجاوز المنظور المُشَوَّه الذي توفره السجلات الرسمية في سبيل استعادة معتقدات المتهمات، وذلك باستخدام مناهج تسترشد بالأنثروبولوجيا وعلم النفس.

"التاريخ اليوم يكتبه المؤرخون"

بريجيت هيل: أستاذة تاريخ مطلع العصر الحديث في جامعة سانت أندروز.

قرأتُ مؤخرًا تعليقًا ساخرًا ورد في صحيفة الغارديان: «إذا قابلتَ أيّ مؤرخين محترفين ونظرتَ إلى ملابسهم وسياراتهم ومنازلهم، فسرعان ما ستتوقف عن الادعاء بأن التاريخ يكتبه "المنتصرون"». أبدى الزملاء على "توتير" ملاحظتهم أنه لم يسبق لهم أن شعروا بهذا الأمر. وإذا تركنا المزاح جانبًا، فيمكننا القول إن إضفاء الطابع المهني على هذا التخصص –وهي عملية تجري منذ القرن الثامن عشر على الأقل– يعني أن التاريخ اليوم يكتبه المؤرخون إلى حدٍّ كبير. صحيح أن هذا الوسط العلمي حتى الآن أبعد ما يكون عن التنوع بالصورة المطلوبة، لكنه على الأقل متسق مع الحاجة إلى تحليل الماضي بكل ما ينطوي عليه من تعقيدات. 

ليس هناك مجال للشك في أن مسألة المنتصرين والخاسرين ذات نتائج في غاية الأهمية في المناقشات الدائرة حول تاريخ العبودية والاستعمار. كما تُشكِّل مفتاحًا أساسيًّا في دراسة التاريخ العالمي ضمن السعي إلى مناهضة السرديات التقليدية لصعود الدولة القومية؛ فإلى أيٍّ من الأصوات نستمع؟ وتجارب وتصرفات أي الأطراف التي نحكم عليها بأنها جديرة بالتحليل؟  لقد أسهمت هذه التساؤلات أيضًا في تشكيل مجال تخصصي في تاريخ أوروبا مطلع العصر الحديث. منذ سبعينيات القرن العشرين على الأقل، سعى العلماء في أوروبا لاستعادة تاريخ الأفراد والجماعات المهمشة أو المضطهدة، وأولئك الذين لم يتركوا سوى القليل من السجلات أو لم يتركوا أي سجلات مكتوبة. 

أما في بدايات المرحلة المعاصرة فقد أصبح لتاريخ المرأة، وتاريخ أحرار الجنس، وتاريخ الأقليات الدينية، وتاريخ اللاجئين والمهاجرين، أصولٌ راسخةٌ منذ فترة طويلة. على سبيل المثال، نجح المؤرخون عند دراسة جنون الساحرات في القرنين السادس عشر والسابع عشر في تجاوز المنظور المُشَوَّه الذي توفره السجلات الرسمية في سبيل استعادة معتقدات المتهمات، وذلك باستخدام مناهج تسترشد بالأنثروبولوجيا وعلم النفس. وقد هبت رياح التغيير حتى على "تاريخ الحروب"؛ المجال الذي يُعدّ معقلًا للكتابة التاريخية ذات التوجه الهرمي بتركيزها على السياسة والدبلوماسية والاستراتيجية العسكرية، إذ تزايد مؤخرًا الاهتمام بتجارب المجتمع ككل، وتجارب أولئك الذين عانوا من كارثة الحروب أكثر من غيرهم. 

لذلك أوافق بالطبع على أنّ التاريخ يميل إلى أن يكتبه المنتصرون. لكن لحُسْن الحظ، هناك مجموعةٌ متخصصة من المؤرخين المُدَربين تدريبًا عاليًا يتقاضون أجورًا زهيدة ويرتدون ملابس على نحوٍ سيئ بمقدورهم التعامل مع هذه الكتابات وفرز ما يُدَاخِلها من زيف. 

العنوان الأصلي للمقال: Is History Written by Winners?، ونشر في مجلة History Today، يونيو 2023. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  الأرمادا الإسبانية: أسطول إسباني غزا إنجلترا في عام 1588، ومُنِيَ بهزيمة كبيرة.

** المانوية: اتجاه فلسفي يؤمن بتصارع الأضداد.

The attempted Soviet coup d'état, or August Coup, Moscow, 1991.
موسكو، 1991

رابط المقال:

https://www.historytoday.com/archive/head-head/history-written-winners 

•••
خيوط

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English