بطل لا يرتدي البنطلون الجينز

مسلسل "باقة ورد".. دروس في التعبئة الأيديولوجية
محمد الكرامي
January 11, 2024

بطل لا يرتدي البنطلون الجينز

مسلسل "باقة ورد".. دروس في التعبئة الأيديولوجية
محمد الكرامي
January 11, 2024
.

همّشت النظرة "النفعية" في المسلسلات اليمنية العنصر الفني بوصفه أساسًا ثانويًّا في العمل الإبداعي، بحيث تحول الفن إلى رسالة من المفترض أن تعالج مشكلات الثأر أو الفساد الإداري أو المحسوبية وغيرها، وغابت الحكاية لصالح التوظيف المباشر. ولكن الأسوأ من إثقال الدراما بالمعالجات الاجتماعية وتجريدها من الرؤية الفنية، أن يتحول العمل التلفزيوني إلى دروس في التعبئة الأيديولوجية. 

تخدم الأعمال التلفزيونية والسينمائية الأنظمةَ الشمولية بشكل مثالي. فصناعة الدراما التلفزيونية، بوصفها آلات عرض الأشياء المرئية، إما لبناء أدوار ووظائف مصممة سلفًا، مضللة ومتحيزة، أو لاستخراج ردّ فعل مباشر ومحسوب على المشاهد، لا يقل سوءًا عن الممارسات التي تروج لها الأعمال الدرامية وتبررها تلفزيونيًّا.  

يناقش مسلسل "باقة ورد"، الذي بثته قناة اليمن الرسمية (بنسختها الحوثية)، مجريات الواقع والأحداث الأمنية و"فضائح" المنظمات التي تقوم -حسب صنّاع العمل- بإفساد الشباب. ويتتبع المسلسل خطًّا سياسيًّا يعيد صياغةَ تاريخ سلطة الحوثي بمعزل عن انقلاب 21 سبتمبر، وخطًّا اجتماعيًّا يكشف "خطر" المعاهد والمؤسسات الأكاديمية، التي ينتسب إليها الشباب بغرض تعلم لغة أو حرفة حسب المقبلين على الدراسة، إلا أنّ غرضها بحسب صناع المسلسل يختلف في المجتمع، حيث تُقدَّم مراكز التعليم ضمن وسائل "الحرب الناعمة" التي تهدد فحولة الشباب، وأنها سبب رئيسي لميوعهم، وشذوذ أفكارهم، والتي تؤخّر النصر في نظر السلطة الحاكمة.  

مؤامرة غربية

منذ افتتاح التلفزيون، أثّرت الظروف السياسية والاجتماعية على شخصية البطل اليمني، خصوصًا من حيث استقبال الناس لها، ويكفي أن نتذكر شخصية "دحباش" (آدم سيف)، في مسلسله الذي عرض من عام 1991 وحتى 1993؛ ففي أعقاب اجتياح الجنوب في حرب صيف 94، تحول دحباش إلى وصم اجتماعي تمييزي وأيديولوجي يطلق على أبناء شمال اليمن. وبرغم غرائبية شخصيته، التي طغت ملامحها على تكوين صورة البطل في معظم الأعمال اليمنية اللاحقة، يندر أن نجد شخصية بطل صُمّمت من قبل السلطة كي تؤدي وظائف محددة في تاريخ المسلسلات اليمنية، باستثناء بطل مسلسل "باقة ورد" الجديد.

ينقل الخطاب الحوثي المسلسلات التلفزيونية إلى مستوى جديد من التعبئة الأيديولوجية؛ فبعد توجيه الإعلام الرسمي وتكميم الصحافة وأدلجة مناهج التعليم المدرسية والجامعية، توظف الجماعة الأعمالَ التلفزيونية أخيرًا في خدمة "المسيرة القرآنية".

يقدم مسلسل "باقة ورد" شخصية جديدة للبطل اليمني، حيث يقوم أحد الطلاب، الذي يمثّل خطاب السلطة، وهو يرتدي ثوبًا وجنبية يمانية، ويسخر من الطلاب الذين يرتدون الجينز، ويكشف ألاعيبهم، وهي رمزية تتوافق مع روح الجماعة، التي صرح قائدها في خطاب متلفز بأن "البنطلون الجينز" جزء من مؤامرة غربية لاستهداف اللبس اليماني، كما يُظهر طلاب المعهد الذين يرتدون البنطلون الجينز بوجوه شاحبة على نحو يشبه متعاطِي المخدرات، ويُدين المعهد ويظهره كفضاء مشبوه، ويتهمه بأنه يتبع منظمة خارجية، وبالتركيز على وصم أنشطة مراكز التعليم بـ"الدعارة" و"الابتزاز"، ويحذر أهالي الطلاب من تجنيد الشباب والتجسس عليهم وعلى أسرهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا أن الطلاب في المسلسل هم أبناء رجال نافذين في المجتمع، فيكشف "خطورة" و"فساد" مراكز التعليم!

دراما في خدمة السلطة

يعيد مسلسل باقة ورد عرض الواقع من منظور الرواية الحوثية، وبصرف النظر عن تحويل صناعة الدراما إلى وعظ أخلاقي وتلقين ديني على نحو يتلاءم مع خطاب الجماعة؛ ينقل الخطاب الحوثي المسلسلات التلفزيونية إلى مستوى جديد من التعبئة الأيديولوجية؛ فبعد توجيه الإعلام الرسمي وتكميم الصحافة وأدلجة مناهج التعليم المدرسية والجامعية، توظف الجماعة الأعمال التلفزيونية أخيرًا في خدمة "المسيرة القرآنية".

 منذ مطلع يوليو 2023، قامت جماعة الحوثي بإغلاق معهد يالي، والتوقف عن تدريس اللغة الإنجليزية، بحجة "الاختلاط ونشر الثقافة الأمريكية"، وهي خطوة تلت قيامها في وقت سابق بفصل تعليم النساء عن الرجال في المعاهد والمؤسسات الأكاديمية، كما أعلنت منذ بداية العام الدراسي إنهاء التعليم المختلط في جامعة صنعاء والجامعات التي تحت سيطرتها، متذرعةً بعدد من الأسباب المثيرة للسخرية، وهو ما سبق أن مهّد له مسلسل باقة ورد في رمضان الماضي، بتشويه صورة الطلاب واتهام إدارة المعاهد الإنجليزية بالولاءات الغربية والدعارة، وهو أشبه بتبرير إعلامي وتلفزيوني استباقي. ففي واقع تزايد المضايقات على النساء، وكثرة الإملاءات على ملابسهن في شوارع صنعاء ومراكز التعليم المختلط وفرض السفر بمَحْرم، يعكس هذا العمل الدرامي روح الخطاب الحوثي، الذي يدعو إلى عزل النساء، وقمع حرياتهن الشخصية، كما يتهكّم على جدوى دراستهن، باعتبار أن تعليمهن شكلٌ من أشكال "الغزو الخارجي". 

تمييع الذاكرة 

في ضوء صناعة بطل يمني جديد بمعايير الخطاب الديني المتشدد، أتلفَتْ سلطة الحوثي جميع المسلسلات والأفلام والوثائق التي أنتجت إبان الحكم الجمهوري في فترتي الثمانينيات والتسعينيات، منها مسلسل "الفجر" الذي انتقد الحكم الإمامي، وبرغم الأضرار التي طالت مقر التلفزيون في 2014، على إثر انقلاب 21 سبتمبر، تدريجيًّا، أصبحت تستوعب جميع إمكانات الدولة والمجتمع داخل منظومة "سلطة الأخ الأكبر" التي تنتج المعرفة بوصفها حقائق نهائية، وتستبدل الذاكرة الجمعية بنسختها الخاصة والمشوهة؛ انتهاءً بتوطين الرقابة الذاتيّة والدينيّة والقبَليّة داخل كل منزل وكل فرد.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English