الحلقة الأولى من مذكرات حاتم أبو حاتم: حديث الثورة والجمهورية

كيف استشعرت السعودية خطر وجود دولة مدنية في اليمن؟
April 6, 2022

الحلقة الأولى من مذكرات حاتم أبو حاتم: حديث الثورة والجمهورية

كيف استشعرت السعودية خطر وجود دولة مدنية في اليمن؟
April 6, 2022

يُعدّ المناضل حاتم أبوحاتم أحد أبرز القيادات المؤسسة للتنظيم الناصري في اليمن، وأحد قيادات انقلاب 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1978، ضد نظام علي عبدالله صالح، وهو قائد عسكري ومهندس طيران، وشيخ قبلي، ورئيس أول لجنة عربية لمناهضة التطبيع مع إسرائيل، عضو مؤتمر الحوار الوطني، وعضو فريق الجيش والأمن، وأحد خريجي الاتحاد السوفيتي سابقًا "أوكرانيا حاليًّا"، وأحد مؤسسي جماعة نداء السلام في اليمن.

في هذه الحلقة يتحدث اللواء أبوحاتم لـ"خيوط"، عن نشأته ودراسته وشهادته على اللحظات الأولى لقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1962، وعن عهد أول رئيس للجمهورية المشير عبدالله السلال، وحركة 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، والصراع بين القوى التقدمية والقوى التقليدية، وعن الدور المصري والسعودي في اليمن.

حاوره: عبدالله مصلح

سيرة نضال

- بدايةً، من هو حاتم أبو حاتم؟

أنا حاتم علي هادي أبو حاتم، من (عيال أحمد) من قبيلة نهم، وُلدتُ سنة 1946، وعشت في منطقة نهم حتى التاسعة من عمري، بدأت تعليمي في المِعْلَامة، تعلّمت الأبجدية حتى أكملت، ثم غادرت إلى صنعاء، حيث كانت والدتي مستقرة هناك، وتنتقل إلى نهم في وقت الزراعة فقط، أما والدي فكان يعمل خيّالًا عند العباس ثم عند الإمام في الحُديدة. نشأت في بيئة قبلية متخلفة لا توجد فيها دولة ولا نظام، كانت تعاني من عزلة رهيبة، لا يلتقي أصحاب القرية بالقرية المقابلة إلا في حال نشوب خلافات أو حرب، فيلتقون في المسراخ لتحل المشاكل والحرب بينهم عبر المشائخ "المرد والمنهى" أو يواصلون ما يسمى "السلَف والقضاء" لفترة طويلة، إذ اقتصر مجيء وتواجد العسكر على تنفيذ الأوامر بحق المتأخرين في دفع الزكاة، حينها كانت قبيلتا نهم وبني حشيش مديرية واحدة، مركزها في بيت سيّد بـ"السرّ"، وكان الناس يذهبون بالزكاة للمركز، ومن تأخر بعثوا له العساكر، هذا فقط كان دور الدولة حينئذٍ (الجباية) من المواطنين. 

- تنتمي إلى فئة النقباء، فكيف ظهرت هذه الفئة؟ 

فعلًا أنتمي للنقباء، والنقباء عبارة عن مرتبة قبلية ظهرت في عهد الكهلانيين -نسبة إلى كهلان- وهم كبراء القوم ووجهاء المجتمع، وفي مقام المشائخ في كل المناطق الأخرى، إذ لم يكن يُطلق عليهم اسم مشائخ، وإنما نقباء، حيث كانوا يقومون بحل المشاكل والخلافات بين الناس.

- هل تجد نفسك سياسيًّا أو قائدًا عسكريًّا أو نقيبًا مجتمعيًّا أو شيخًا قبليًّا؟

أعتز وأفتخر أكثر بلقب المهندس؛ لأنني درست ثماني سنوات في الاتحاد السوفيتي حتى أخذت الدرجة الأكاديمية في مجال هندسة الطيران بدرجة امتياز، ينادونني لواء عسكري أو لواء مهندس طيران، أما بقية الألقاب فهي حق من الحقوق المجتمعية، لا أقبل معها بلقب شيخ قبلي أو نقيب أبدًا.

التعليم لم يكن متاحًا للعامة

- نعود إلى المراحل الأولى من دراستك؛ حدِّثنا عنها؟

كما ذكرت سابقًا؛ درست في البلاد "نهم" حتى وصلت إلى الحمد (سورة الفاتحة) ثم انتقلت إلى صنعاء وأعدت دراسة الحروف (أ، ب، ت، ..) بالصنعاني، إلى "الحمد"، بعدها التحقت بمدرسة (الإصلاح) في منطقة شرارة "التحرير حاليًّا"، حيث كان مديرها السيد غالب من أفضل الفقهاء والمعلمين، بدأت فيها من الصف الثالث حتى الصف الخامس، ثم انتقلت إلى المدرسة (التحضيرية) بجوار مجلس النواب حاليًّا، بعد أن التقيت مصادفة بالأمير سيف الإسلام الحسن بن علي، الذي كان وزيرًا للمعارف حينها، كنت أشعث أغبر محتزم الجنبِية، فوقفت أمامه، وقلت له: يا سيدي أنا قبيلي من نهم، وأريد أن أتعلم.

كانت الكليات العسكرية قبل قيام الثورة، مقتصرة على الموالين للإمامة والمنتمين للمذهب الزيدي ومعظمهم من آل البيت، أما أبناء العامة فلا يستطيعون الالتحاق بها إلا بوساطة، كما حدث مع الشهيد علي عبدالمغني وغيره.

درستُ في مدرسة الإصلاح، وظروفي صعبة، فتكرَّم بإصدار أمر تلحقني بالمدرسة الإعدادية "ذَكار"– (التي كانت توفر السكن والأكل)، فأعجب الأمير بكلامي وأصدر الأمر، حينها لم يكن يوجد في شمال اليمن سوى ثلاث مدارس؛ واحدة في تعز، وواحدة في الحُديدة، وواحدة في صنعاء.

- كيف كان وضع التعليم، سواء قبل الثورة أو بعد قيام الجمهورية؟

قبل قيام الجمهورية، لم يكن التعليم متاحًا لجميع أبناء الشعب، بالذات في الريف، حيث خيّم الجهل والأمية على عموم الناس هناك، لدرجة إذا تلقى أحدهم رسالة مكتوبة من أحد أقربائه المغتربين خارج اليمن، يتنقل من قرية إلى قرية أخرى حتى يجد شخصًا يقرأ له الرسالة ويكتب الرد عليها. 

إذ إن معظم الذين كانوا يقرؤون في المِعلامة أبناءُ مشائخ أو أبناء وجهاء، يتعلمون فقط القراءة والكتابة وتعليم القرآن من قبل الفقهاء، وأتذكر أنه كان يدرسنا السيد محمد عثمان الوزير، وهو من "بيت سيد" -اسم منطقة- كان الوزير يعيش عندنا في المنطقة ويدرسنا، وكنا ندفع له يوم الخميس "كِباء للوقيد" -روث البقر المجفف الذي يستخدم كبديل أو معاون للحطب- والذي معه بقرة يعطي السيد "شوية" سمن.

المقالح أشهر من درسنا

- هل تتذكر عدد المعلمين، سواء في مدرسة الإصلاح أو المدرسة التحضيرية؟ 

أبرز المعلمين الذين ما زلت أتذكرهم؛ سيدنا غالب، والأستاذ محمد الخولاني، وعبدالله الخروش، وسرّي غالب، والأستاذ محمد جباري الذي تخرج من القاهرة وتطوع للتدريس مجانًا، وعلى رأس الجميع كان من أشهر المدرسين الأستاذ المثقف والشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح، وكذلك كان هناك مدرسون مصريون، إذ لم يكن الدعم المصري لليمن مقتصرًا على الجانب العسكري فقط، وإنما جاءت مجاميع كبيرة من المعلمين المصريين الذين انتشروا في كل أنحاء اليمن.

قبل الثورة أيضًا، كان لدينا مدرسون مصريون، إثر زيارة الإمام البدر إلى مصر التقى فيها بالرئيس عبدالناصر، نتج عن اللقاء توقيع اتفاقية تهيئ للوحدة، حيث وصل مدرسون مصريون إلى اليمن، كانوا ينحتون فينا العلم كما ينحت في الحجر، وقدّموا لنا خدمات جليلة لا تنسى ولا نستطيع حيالها أن نرد لهم الجميل.

- قلت بأنك انتقلت من مدرسة الإصلاح إلى المدرسة التحضيرية بأمر من الأمير الحسن بن علي، ماذا بعد المدرسة التحضيرية؟ 

انتقلت من المدرسة الإعدادية بعد الصف الخامس، إلى المدرسة التحضيرية التي استمرت دراستي فيها حتى قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1962، أتذكر أنني خلال هذه الفترة شاركت في مظاهرة قبل قيام ثورة سبتمبر بأربعة أشهر، وتقريبًا في 2 أو 4 يونيو/ حزيران 1962، كانت هذه المظاهرة ضد الإمام، رفعنا فيها صورة الرئيس جمال عبدالناصر، وكنا نهتف "يعيش جمال عبدالناصر ويسقط الإمام".

الخروج الأول في التظاهرات

- ما سبب هذه المظاهرة، ومن هي الجهة التي كانت تقف وراءها؟

المظاهرة كانت نتيجة حنق وغليان الشباب جراء الوضع المتردي في المعيشة، ورخص قيمة الإنسان اليمني، إضافة إلى سبب آخر متعلق بمدير المدرسة الثانوية حينها، الذي كان يدعى "الفضيل"، الفضيل هذا كان رجلًا سيئًا، يعامل الطلاب بأنانية وسخافة وعدم احترام، حيث تحرك طلاب المدرسة الثانوية إلى المدرسة المتوسطة، التي تسمى حاليًّا "جمال جميل"، ثم إلى المدارس الأخرى بصنعاء، لنخرج جميعًا إلى منطقة تسمى "برّوم" خلف الإذاعة. 

- كم كان يقدر عدد المشاركين في هذه المظاهرات؟

 شارك فيها كلُّ الطلاب في صنعاء حينها، حيث جبنا شوارع صنعاء، وحاولنا اقتحام مبنى الإذاعة، ثم اعتصمنا خارج الإذاعة، وكنا نهتف: "يسقط الإمام يعيش عبدالناصر"، استمر اعتصامنا حتى وصل الجيش الذي كان يسمى "فوج البدر" ثم أخذونا بالقوة واتجهوا بنا إلى سجن "الرادع"، لحسن حظي كان أحد أفراد الجيش يعرفني، وعندما رآني أخذني وأخرجني من بين الطلاب المعتقلين قبل وصولي إلى السجن، هربت بعدها إلى منزل والدتي، ثم ذهبت إلى مدير المدرسة الأستاذ علي العيني، وأطلعته على موضوع مشاركتي في المظاهرة، وأنني أنوي الهروب، فقال لي: "لا تخَف، وارجع للمدرسة، اقرأ ولا يهمك، سوف نقول بأنك غير مشارك في المظاهرة"، وفعلًا عدت للمدرسة، وظللت فيها حتى اندلعت ثورة سبتمبر، كنت حينها في الصف الثالث الإعدادي الذي لم أكمله طبعًا، وبدأنا نشارك في ثورة سبتمبر 1962. 

من ضمن المشاكل التي تعرضنا لها في صعدة، غدر الشيخ العوجري الذي استلم أسلحة باعتباره جمهوري ليقاتل الملكيين معنا، وعندما وصل إلى وادي نشور انقلب مع الملكيين، وأرسل رسالة مع رصاصة "معبر" وردّ البلى على الجمهورية، وعندما أردنا الهجوم على وادي نشور تعرضنا لهزيمة نكراء، ووقع الكثير من زملائنا في الأسْر.

- ما طبيعة مشاركتك في الثورة؟ 

ذهبنا إلى ميدان التحرير وكنا (نقهوي) المدرعات التي كانت تضرب دار البشائر مقر الإمام محمد البدر، وفي صباح 26 سبتمبر/ أيلول 1962، ذهبنا لـ"العُرضي"، وبدأنا بتكوين أولى كتائب الحرس الوطني للدفاع عن الثورة.

- من كان يقود كتائب الحرس الوطني؟

أول قائد لكتائب الحرس الوطني هو هادي عيسى، ومجموعة من ضباط الثورة، تحت إشراف مباشر من رئيس الأركان لطف العرشي، الذي كان يشرف بنفسه على تدريباتنا إلى جانب طلائع من القوات المصرية. 

- انتشرت كتائب الحرس الوطني في عدد من المحافظات، هل كان هناك كليات عسكرية قبل الثورة، ومبتعثون يمنيون للدراسة في الخارج؟

نعم، كان هناك كليات عسكرية قبل قيام الثورة، ولكنها كانت مقتصرة على الموالين للإمامة والمنتمين للمذهب الزيدي ومعظمهم من آل البيت، أما أبناء العامة فلا يستطيعون الالتحاق بها إلا بوساطة، كما حدث مع الشهيد علي عبدالمغني وغيره، ولكن بعد قيام الثورة تم فتح هذه الكليات لكل من لديه شهادة ثانوية أو إعدادية.

  

- هل كانت مهمة كتائب الحرس الوطني للدفاع عن الثورة مقتصرة على العاصمة صنعاء أم انتشرت في بقية المحافظات؟

تكن مهمة هذه الكتائب مقتصرة فقط في صنعاء، بل أتذكر أنه تم تكليف أربع كتائب من الحرس الوطني "الأولى والثانية والثالثة والرابعة"، بالتوجه إلى صعدة للدفاع عن الجمهورية، وبالفعل ذهبنا إلى صعدة وبقينا فيها لمدة ثمانية شهور، لاقينا خلال هذه الشهور الكثير من الأهوال والمشاكل.

- ما أبرز هذه المشاكل؟ ولماذا تم التركيز على صعدة بالذات؟

أعتقد أن تواضع خبرتنا كشباب صغار في السن -إذ لم يتجاوز عمري آنذاك الـ16 سنة- وضعنا أمام تعقيدات ومشاكل كثيرة، إضافة إلى ضعف التدريبات التي تلقيناها والتي لم تتجاوز هي الأخرى أسبوعًا واحدًا في العُرضي، بعدها أرسلونا إلى صعدة، فكانت أول مشكلة واجهتنا هي الوعورة الشديدة في الطريق، إذ كنا نضطر إلى النزول من السيارات الكبيرة ونقوم بدفعها للأعلى أثناء الطلوع، ولا أنسى أيضًا أول ليلة سفر، في منطقة (القشلة) بمحافظة عمران، التي كانت مليئة بالقمل والكُتَن "البق" التي حرمتنا النوم، وعندما وصلنا إلى منطقة (العمشية) بعد منطقة حرف سفيان، رقدنا جميعًا بين الأشجار ومن دون أي حراسة؛ لأن الجميع كانوا متعبين من وعثاء السفر.

بعد أسبوع من وصولنا إلى صعدة، واجهنا حصارًا شديدًا لأكثر من شهرين متواصلين، حتى وصلت القوات العربية وفكت الحصار عنا، "استشهد" الكثير من زملائنا خلال فترة تواجدنا بصعدة، إذ تمركزنا في مدينة صعدة والسنارة والصمع فقط، بينما بقية المناطق كانت ملكية، حينها كانت خبرتنا في خوض المعارك غير كافية، تزعمنا وقتها قائدنا عبدالكريم المنصور (الله يرحمه)، الذي كان من أشجع الرجال، فيما كان قائد اللواء الأخ عبدالرحمن الترزي (رحمة الله عليه).

ومن ضمن المشاكل التي تعرضنا لها في صعدة، غدر الشيخ العوجري الذي استلم أسلحة باعتباره جمهوريًّا ليقاتل الملكيين معنا، وعندما وصل إلى وادي نشور انقلب مع الملكيين، وأرسل رسالة مع رصاصة "معبر" وردّ "البَلاء" على الجمهورية، وعندما أردنا الهجوم على وادي نشور تعرضنا لهزيمة نكراء، ووقع الكثير من زملائنا في الأَسْر، أما أنا شخصيًّا فقد تسلقت شجرة "طلحة" مليئة بالأشواك وبقيت فيها من الساعة الرابعة عصرًا وحتى العاشرة مساء، ثم عدت إلى مدينة صعدة بمفردي.

- كم بقيت في كتائب الحرس الوطني؟ وأين انتقلت بعدها؟

بقيت قرابة سنة في الحرس الوطني، منها ثمانية أشهر في صعدة، وبعد عودتي من صعدة حظيت بمنحة دراسية إلى الاتحاد السوفيتي مع مجموعة كبيرة من الطلاب، وكان ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1963، حيث تحركنا من صنعاء إلى الحديدة لنسافر عبر البحر، وعندما وصلنا إلى الحديدة تم إرجاع نصف طلاب صنعاء من أجل استيعاب مجموعة من طلاب تعز، منهم الأخ عبدالله البشيري ومحمد محب النبي وغيرهم، وهذا دليل على عدم وجود تمايز فئوي أو مناطقي بعد قيام الثورة، ولم يظهر التمايز إلا بعد حركة 5 نوفمبر التي أزاحت الرئيس عبدالله السلال، والتي عقبها ظهور صراع بين الضباط التقدميين والقوى التقليدية، تم على إثره إغلاق الكليات العسكرية أمام المناطق التي كان ينتمي لها الضباط التقدميون مثل عبدالرقيب عبدالوهاب وعلي هاشم وغيرهم.

كانت حركة 5 نوفمبر/ تشرين الثاني انقلابًا حقيقيًّا؛ لأن القوى التقليدية سيطرت على قوى الثورة، وجرت الأمور من سيئ إلى أسوأ حتى حصل حصار السبعين يومًا، وقامت القيادات التقدمية مثل قيادة المظلات والصاعقة، ورئاسة الأركان بقيادة الشهيد عبدالرقيب عبدالوهاب، بفك حصار السبعين والدفاع عن صنعاء مع بقية الضباط الأحرار والثوريين الحقيقيين.

أحداث 5 نوفمبر انقلاب

- هناك من يصف أحداث 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 بأنها انقلاب، وهناك من يصفها بحركة تصحيحية نقلت البلاد من الحكم العسكري إلى الحكم المدني؛ ما قولك في ذلك؟

برأيي، كانت حركة 5 نوفمبر/ تشرين الثاني، انقلابًا حقيقيًّا؛ لأن القوى التقليدية سيطرت على قوى الثورة، وجرت الأمور من سيئ إلى أسوأ حتى حصل حصار السبعين يومًا، وقامت القيادات التقدمية مثل قيادة المظلات والصاعقة، ورئاسة الأركان بقيادة الشهيد عبدالرقيب عبدالوهاب، بفك حصار السبعين والدفاع عن صنعاء مع بقية الضباط الأحرار والثوريين الحقيقيين، وبعد تحرير صنعاء وفك الحصار عنها حدثت نكسة 1968، حيث تكالبت القوى التقليدية من جديد وأظهرت وجهها البشع إلى حد الإعدام البشع الذي تعرض له الشهيد عبدالرقيب عبدالوهاب.

- لكن بعض هذه القيادات التي تصفها بالتقدمية وقفت إلى جانب انقلاب 5 نوفمبر، مثل حمود ناجي وقيادة المظلات، كما يؤكد ذلك اللواء يحيى مصلح في مذكراته؟

انقلاب 5 نوفمبر، كان ضد الخط الثوري برئاسة المشير عبدالله السلال الذي تمت إزاحته، ولأن السلال كان سلميًّا، سلّم القيادة وذهب إلى بغداد، وأنا أتذكر له طرفة في هذا الصدد، حيث إن قائد حراسته العميد أحمد الجرموزي طلب منه أن يرقيه إلى رتبة لواء، فرد عليه السلال باللهجة الصنعانية: "امشِ بس، قد عا نلوّي كلنا"، بمعنى تشردنا.

وما جاء في مذكرات الأخ يحيى مصلح صحيحًا، فقد وافقت مجموعة من حركة القوميين العرب على انقلاب 5 نوفمبر بل وشاركت فيه، إلى جانب مجموعة من حزب الطليعة الشعبية مثل يحيى الشامي وجار الله عمر، ولكن لم يمضِ شهر من الانقلاب حتى أودع يحيى الشامي في سجن القلعة، وفرّ جارالله عمر مع مجموعة آخرين إلى الخارج.

بالنسبة لعبدالرقيب عبدالوهاب، فقد صمد صمود الأبطال مع عدد من الضباط، في الوقت الذي هرب فيه الكثير من الضباط الآخرين أثناء حصار السبعين، وظل ممسكًا برئاسة الأركان إلى جانب الفريق حسن العمري حتى انتصرت الجمهورية وفُكّ الحصار عن صنعاء، لكنه لاحقًا تعرض للغدر من قبل الضباط المنشقين، إذ تم إعدامه وسحلت جثته في شوارع صنعاء.

الإرياني كان رئيسًا صوريًّا

- القاضي عبدالرحمن الإرياني كان معروفًا عند الجميع بأنه شخص مدني ومسالم، وكان يرفض إراقة الدماء؛ فكيف حدث هذا العنف في عهده؟ 

لقد تم تنصيب القاضي الإرياني رئيسًا صوريًّا فقط؛ لأنه كان يتمتع بسمعة طيبة وتاريخه نضالي ورجل دين ليس عليه غبار، لكن الحكومة التي تم تشكيلها تحت رايته كانت من القوى التقليدية، فعلى سبيل المثال كان على رأس هذه القوى التقليدية الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وزير الداخلية، والشيخ سنان أبو لحوم، وزير الزراعة، وغيرهم من المشايخ الذين تم تعيينهم في حكومة ما بعد 5 نوفمبر، مضت الأمور في التسليم للسعودية تحت ما يسمى بالمصالحة بين الجمهوريين والملكيين، وبذلك عملوا (جملكية) ومجلسًا رئاسيًّا من جمهوريين وملكيين؛ وبالتالي عاد كبار الملكيين للسلطة، واتفقوا فقط على إبعاد بيت حميد الدين، وأيضًا إبعاد الثوار الحقيقيين الذين قاوموا حصار صنعاء وكانوا ثوريين حقيقيين الذين زج بهم في السجون، أو شردوا إلى الجنوب، ومنهم من تم إعدامه، ومنهم من تم نفيهم من اليمن إلى الجزائر، وعادوا إلى البلاد بموجب أمان مثل عبدالرقيب عبدالوهاب ليتم الغدر به وقتله.

- أنت تقول إن حركة 5 نوفمبر سلمت اليمن للسعودية، وهناك من يقول إن الرئيس السلال سلّم اليمن لمصر، واعتمد كليًّا على المصريين إلى درجة أنّ البعض كان يقول إن القرار السياسي اليمني كان يُتخذ في القاهرة وليس في صنعاء، كما أن الضباط المصريين في اليمن كانوا يتدخلون في كل شيء حتى في التفاصيل اليومية، كما قال ذلك جار الله عمر في مذكراته.

القرار كان قرارًا يمنيًّا ثوريًّا ولكن بخبرات مصرية؛ لأن القوى الرجعية والاستعمارية تكالبت ضد الثورة اليمنية، وكانت شبه حرب عالمية بين قوى الاستعمارية وقوى الحداثة والتقدم.

ثم إن التواجد المصري في اليمن كان تواجدًا حضاريًّا وتنمويًّا، لم يقتصر على الجانب العسكري فقط، وإنما أيضا جاء المعلمون والمهندسون والخبراء المصريون إلى اليمن التي كانت حينها تعاني من تخلف فضيع جدًّا، إذ كانت الكفاءات اليمنية محدودة تعد بالأصابع، وهؤلاء تخرجوا من مصر أو إيطاليا مثل حسن مكي وغيره.

السلال كان ناصريًّا وتم إبعاده عن السلطة

- هل كان الرئيس عبدالله السلال ناصريًّا؟

نعم، كان المشير السلال ناصريًّا، ولذلك قبِل به علي عبدالمغني والضباط الأحرار بأن يكون رئيسًا للبلاد، ضمن تنسيق مسبق مع السفير المصري في صنعاء أو ما كان يعرف بسفير الجمهورية العربية المتحدة، محمد عبدالواحد، إذ تم الاتفاق على رئاسة عبدالله السلال باعتباره رجلًا تقدميًّا وقوميًّا، وطبعًا هو إنسان لطيف وقدوة، قام بدور إيجابي وبذل جهودًا كبيرة لم يتنازل خلالها للقوى الرجعية عن ثوابت الجمهورية، إضافة إلى علاقته القوية بالرئيس عبدالناصر وبالقوات المصرية التي ضحّت وخاضت العديد من المعارك في سبعين جبهة دفاعًا عن الثورة والجمهورية إلى جانب الأحرار اليمنيين، مقدِّمة أكثر من 45 ألف شهيد في اليمن.

- هل نستطيع القول بأن حركة 5 نوفمبر كانت نتيجة للصراع بين البعثيين والناصريين أو المحسوبين على عبدالناصر؟

أولًا، لم يكن هناك تنظيم ناصري حينها؛ لأن الرئيس عبدالناصر، كان يرفض تسمية أي حركة باسمه، وإنما كان هناك ما يسمى بالطلائع العربية، ثم تم تشكيل الطلائع الوحدوية اليمنية في سنة 1969 أو 1970.

ثانيًا، كانت القوى التقليدية والرجعية الموالية للسعودية، تغلب على حركة 5 نوفمبر، حيث تم تسليم اليمن للسعودية عبر سفيرها آنذاك باليمن وملحقها العسكري بصنعاء صالح الهديان، حيث كان الجيش يستلم مرتباته من السعودية

- بمن فيهم أنتم؛ الضباط الناصرين كنتم تستلمون مرتباتكم من السعودية؟

نعم، حتى أنا كضابط كنت أتسلم راتبي من السعودية، وتحت إشرافها.

السعودية استشعرت خطورة وجود الحمدي

- البعض يقول إنه من الحكمة حينذاك أن يحدث تقارب بين الجمهورية الوليدة وبين جارتها السعودية، خاصة بعد انسحاب القوات المصرية من اليمن، وكان عدم استعداء السعودية، أو على الأقل تحييدها من خلال عملية التصالح بين الجمهوريين والملكيين الذين كان أغلبهم من قبائل طوق صنعاء بمثابة اتقاء شر؟

طبعًا كان لنكسة 67 تأثير كبير على الوطن العربي بأكمله وعلى الوضع في اليمن وعلى بقاء الجمهورية الوليدة، ولدي صورة وثيقة تؤكد أن الملك فيصل طلب من الأمريكان أن يضربوا مصر عبدالناصر، وسوف يتكفل بكل التكلفة. نعم، لم تجرِ الأمور كما كنا نتطلع، وإنما تم إبعاد بيت حميد الدين مقابل إقصاء جميع الثوريين التقدميين، بحيث تمكنت القوى التقليدية والرجعية من السيطرة على البلاد، والأخيرة كانت عبارة عن أداة طيعة بيد السعودية، سلمت اليمن والقرار اليمني للسعودية، وبالتالي ساءت الأمور حتى قيام حركة 13 يونيو/ حزيران بقيادة الزعيم الخالد إبراهيم الحمدي الذي تحققت خلال ثلاث سنوات من حكمه، إنجازاتٌ كبيرة كما قال الشاعر الكبير عبدالله البردّوني بأن فترة الحمدي كانت العصر الذهبي للثورة.

- لكن الرئيس إبراهيم الحمدي صعد إلى السلطة بموافقة السعودية، كما يؤكد ذلك الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته؟

نعم، المشايخ أقنعوا السعودية بأن الحمدي شخصية محبوبة وليس لديه حزب أو قبيلة، وسوف يكون بأيديهم، ولذلك وافقت السعودية على تنصيبه، لكن عندما بدأ الحمدي ببناء دولة مدنية وتغيير القوى التقليدية من الجيش وإعادة القوات المسلحة إلى وزارة الدفاع لأول مرة في 27 أبريل/ نيسان 1975، بعد أن كانت القوات المسلحة عقب إبعاد السلال عبارة عن ميليشيات بيد المشائخ مثل بيت أبو لحوم ومجاهد أبوشوارب وغيرهم، ولذلك انقلبوا على الحمدي وتمرّدوا عليه، لأنه قام بتغييرهم، حينها بدأت السعودية تشعر بالخطر من الحمدي.

 

 # يتبع الجزء الثاني 

•••

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English