أرض يُسقى طينها بعرق كريم

جوهرة ثمينة لا يُقدِّرُها فحّامون يتكسبون من التشظي
محمد عبدالوهاب الشيباني
October 5, 2022

أرض يُسقى طينها بعرق كريم

جوهرة ثمينة لا يُقدِّرُها فحّامون يتكسبون من التشظي
محمد عبدالوهاب الشيباني
October 5, 2022
الصورة ل: محمد عبدالوهاب الشيباني - خيوط

قبل أن يدخل شهر أكتوبر 2022، بدأت بواكير البرتقال البلدي القادم من بلاد آنس بذمار، تظهر في السوق إيذانًا بدخول الشتاء، لأنّ مثل هذه الفاكهة تظهر في ذروة الشتاء إلى جانب الشمام (الكنتلوب) القادم من تهامة، والفراولة التي تُزرَع في أرياف صنعاء. فاكهة البرتقال ستتعايش لأسابيع طويلة مع الرمّان الصعداويّ، وأسابيع قليلة مع العنب، اللذَين تعج بهما الأسواق، قبل أن تزيح الرمان تاليًا لتحل محله، والذي حلّ بدوره محل التفاح والخوخ البلدي (الفرسك) والتين الشوكي، ابتداء من بداية شهر سبتمبر؛ أمّا الفاكهة التي ستزيح البرتقال وفصائله (يوسف أفندي والبرتقال المعنَّق) لاحقًا، فستكون المانجا بنوعها الذي يسمّى السودانيّ الذي تبدأ بواكيره من مطلع يناير، ويمكن للمسافرين على طريق الحُديدة (صعودًا أو هبوطًا) في هذا التوقيت أن يشاهدوا معروضاتها بيد البائعين خارج المزارع في (وادي سردود).

طبعًا الحديث هنا لا علاقة له بطريقة الإنضاج المبكر بالمعالجات الكيماوية والقطاف قبل الأوان لمثل هذه الأنواع المبكرة من الفواكه والتي يتّبعها مُلّاك المزارع الكبيرة الجَشِعِين، فهذا الأمر مُدان بكلِّ تأكيد لمخاطره الصحية الكبيرة، وأثره السلبي على التربة التي تتشبع بالسُمِّيَّات غير المرخصة وغير المراقبة، فتفقد على المدى الطويل خصوبَتها وتجدّدها.

(**)

في 20 مايو الماضي، شاهدت أولَ مرة في هذا الموسم، بواكيرَ البلح (المناصف) في سوق الرَّقّاص بصنعاء، قبل شهر من موعده التهامي، وشهرين من وصول بلح وادي حضرموت الأحمر والأصفر، وفي اليوم التالي وأثناء مروري برفقة بعض الأصدقاء بسوق العِنَب بالقرب من الجامع الكبير بصنعاء القديمة، شاهدت بواكير العنب القادمة من الجوف قبل شهر ونصف من ظهور أعناب الروضة والعنب الجُبَري، كما التقطت عيناي صورةً لبائع الفواكه في حانوته في السوق وأمامه خوخ (فرسك) بلاد رداع، ومشمش (برقوق) حدّة وسناع في صنعاء، وتين (بلس) بلاد البيضاء، والتفاح البلدي الأخضر الصغير القادم من بلاد همدان. قبل وصولنا السوق، شاهدنا بواكير الرمّان والتوت البلدي في بستان معاذ، بالقرب من مرنع طلحة وبستانها أيضًا.

أسواق صنعاء وبقية المدن كانت وقتها غارقة حتى أُذنيها بمانجو تهامة الذي بقيَ يتدفّق منذ مطلع العام، مثله مثل الباباي الأَبْيَنيّ، وحَبْحَب أحور، وتفاح صعدة، والبلس الشوكي (الصبار) المستجلب من نواحي غيمان وأرتل في ضواحي المدينة، مثلها مثل الفراولة من نواحي سنحان، والعنبرود البلدي (الكمثرى) من قرية القابل ووادي ظهر، والجوافة الصاعدة من بلاد العدين وأودية تعز الدافئة.

موز وادي رماع لا ينقطع عن الأسواق طوال العام، وهو اليوم في أدنى أسعاره الموسمية وبأسعار تقارب أسعار الرمان (ثلاثة كيلوجرامات بألف ريال؛ 1.8$) مثله مثل عنب الفلفل (الباباي) القادم من مزارع الشريط الساحلي.

كان الحديث وقتَها عن فواكه موسم الربيع وبواكير الصيف المعروضة في الأسواق، وليس عن الخضروات بأنواعها، ولا عن الليمون الذي عبر كل الحواجز ليصل من سيئون إلى صنعاء طازجًا ورخيصًا بعد أن عزَّ تواجده طويلًا في الشتاء الماضي، وهو ما يُتوقّع حدوثه في هذا الشتاء، فيستقدم بدلًا عنه (الليمون المصري) الذي ليس بجودة ورائحة ليمون حضرموت.

تنوع المناخ في هذه البلاد وخصوبة أراضيها يجعلانها من أجمل بلدان الله، لو أنّ نخبها اختارت طريقًا آخرَ غير الحروب والأزمات والارتهان الرخيص لتتكسب منها.

إنّها فعلًا جوهرة بيد فحَّام كما يقال، ومختطفة بسلاح أمراء حرب لا يحبّونها، ولو أنّ مشروعًا وطنيًّا كبيرًا وجامعًا وُضِعَ في طريق اليمنيين لصار حال البلاد أفضل، ولَوجدَ من يدافع عنه بمنزع وطنيّ صرف، غيرَ أنّ المشاريع التفكيكية الصغيرة التي تقودها الجماعات العصبوية من ميليشيا دينية وجهوية وقروية، هي التي تُكرَّس وتثبَّت أرضًا، وبقوة، من قبل رعاة الحرب ومسيِّريها ومموّليها، الذين وجدوا في هؤلاء أدوات سهلة لتقويض الدولة وتفكيك الجغرافيا وتدمير الإنسان الذي طالما سقى طين هذه البلاد بعرق كريم.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English