حكاية فبــــــرايـــــــــــر

اختلاط المفاهيم في تحديد الهُوية
د. أحمد سنان
February 15, 2022

حكاية فبــــــرايـــــــــــر

اختلاط المفاهيم في تحديد الهُوية
د. أحمد سنان
February 15, 2022

كثيرون لا يزالون ينافحون على مختلف المنصات الإعلامية للبرهنة على أن فبراير 2011 قد جاء بما "لم يأتِ به الأوائل" لخدمة تطلعات الشعب. وكثيرون آخرون يجهدون أنفسهم كل عام للبرهنة على أن ثورة فبراير 2011 لم تكن سوى (نثرة) أو نكبة أو أي تسمية أخرى تخطر على بالهم. ولكن الجميع تقريبًا يتناسى أن الثورة ليست وظيفة وليست رغبة ذاتية لمن أراد، بل هي حركة شعبية عفوية محكومة بالزمان والمكان والظروف الذاتية والموضوعية التي تحدد مداها ومنتهاها.

دعونا أولًا نخوض قليلًا في إرهاصات هذه الثورة الموءودة. لقد نضجت جملة من الظروف الذاتية والموضوعية التي جعلت من الفعل الثوري ضرورة لا بد منها. ولكن تمت المبالغة كثيرًا بمدى ملاءمة العوامل الموضوعية لهذا الفعل وإمكانية هذه العوامل في مساعدة الشعب في اليمن على تغيير الواقع الحياتي نحو الأفضل.

في ثورة فبراير اليمنية اختلطت كل المفاهيم ببعضها والتبست كثيرًا في تحديد هُويتها، هل هي شعبية أو حزبية، قبلية أو مدنية، جهوية أو جامعة. وكذلك اختلطت فيها القوى بمشاريع مختلفة لا يجمع بينها جامع. فالقوى المشيخية القبلية وعادت لتلعب التكتيك نفسه الذي لعبته حيال ثورة سبتمبر 1962، وتمكنت في خاتمة المطاف من إفراغ الثورة من محتواها الوطني والديمقراطي لصالح التحالف القبلي العسكري والتجاري. 

إذن، دعونا نحاول الإجابة على التالي:

- هل فبراير ثورة واحدة؟

- هل فبراير جبهة واحدة؟

- ما العلاقة بين مفهومي الثورة والسلطة عند أصحاب فبراير؟

لقد وصلت الأمور في البلاد إلى منتهاها في بداية عام 2011، وأصبح من المستحيل حل التناقض الصارخ بين حلفاء حرب 1994. وصل هذا التحالف إلى مأزق حقيقي بين أطرافه المختلفة؛ فمن ناحية لقد كبر الأبناء الذين كانوا أطفالًا عند اندلاع حرب 94، وصاروا كبارًا، وبالتالي يطالبون بإعادة قسمة الثروة والسلطة وفقًا للواقع الجديد، لم يعد تقسيم ثروات البلاد وسلطتها تُرضي هؤلاء. 

يثبت التاريخ دائمًا أن الدولة والقبيلة نقيضان لا يجتمعان. ولا تستكين القبيلة إلا لدولة أقوى منها، أو بخضوع الدولة للقبيلة، ذلك أن الدولة هي إطار أوسع وأرفع. هي فوق القبيلة والمنطقة وبالتالي لا توجد للقبيلة مصلحة معتبرة بوجود الدولة، لو لم يشرعن الحكام لذلك.

حتى أواخر القرن السادس الميلادي كانت اليابان قبائل متناثرة على الجزر اليابانية، تحكمها العصبية ويحل العنف كل مشكلات المجتمع، فتسود القبيلة المنتصرة دائمًا، ولم تشكل اليابان حتى ذلك الوقت رقمًا في سوق الدولة.

كان "الساموراي" هو القانون هو الحاكم. ولو لم تستعن بالعلوم الصينية والكتابة الصينية وبعدها بالبعثات العلمية إلى أوروبا لما وجدناها لتنقل لتصير إمبراطورية الشمس المشرقة، حتى كادت لتهيمن على جزء كبير من العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فيما عرف بالعسكرية اليابانية.

ومرت الصين في تاريخها بفترة مشابهة أيام الممالك الثلاث (يان، تشاو، وي تشين).

أين اليابان وأين الصين، زالت القبيلة وتأصلت الدولة كرافعة للتقدم والازدهار.

اليوم لا توجد دولة قبلية متطورة ناهضة في مصافّ الدولة المحترمة. هل منكم من يستطيع الإشارة إلى دولة واحدة متقدمة ومحترمة تحتكم للقانون والدستور تديرها قبيلة؟ 

لَنحن فقط، ومَن في حكمنا بقينا أسارى لسطوة القبيلة التي حذر منها ابن خلدون في مقدمته.

إذن، التناقض الذي فتك بنظام 17 و07 يوليو في الأساس هو عدم قدرة هذا النظام على الاستجابة لمطالب الصغار حين يكبرون، بل لم يكن يتوقع مطالبَ كهذه. وقد رأينا مثلًا حميد الأحمر من على شاشة الجزيرة وهو يتوعد الرئيس صالح مُستقوِيًا بقبيلة حاشد والشيخ صادق وليس بمشروع الدولة.. كانت المركبة تحتاج لصيانة شاملة منذ أكثر من عقد، لكن السائق ومن ركب معه تجاهلوا وتجاهلوا وكثيرًا ما تجاهلوا.

لقد حاول الشيخ عبدالله الأحمر وهو القطب الأكثر تأثيرًا باعتباره شيخ الرئيس، حاول التخفيف من وقع الصدمة على رئيسه الذي وضعه هو على كرسي الرئاسة عندما انحاز في انتخابات 2006، ومعه الزنداني وطابور طويل من قيادات الإخوان إلى صف علي صالح ضدًّا على طيب الذكر المهندس فيصل بن شملان، وكان هذا هو التناقض الخفي الذي لم يُفصح عنه أي من الطرفين.

تم إلباس هذا التناقض ثوبًا عامًّا حتى لا يدرك الناس طبيعة الصراع المحتدم حول إعادة تقسيم النفوذ.

على أن ذلك ليس إلا سببًا واحدًا، والسبب الأكثر تحفيزًا الذي دفع غالبية الناس للخروج هو حالة الجمود الاقتصادي الذي أصاب البلاد بدرجة رئيسية. وليس ذلك فقط، بل إن البلاد أضحت عشية فبراير 2011 أشبه بالمركبة التي لم يعد بالإمكان تدوير محركها؛ لأن سائق المركبة نسيَ، في زهو القيادة، أن يزودها بماء التبريد، ولم يستبدل زيت المحرك لمسافة طويلة، ولم يقم بتغيير الشمعات أو وزن "الديلكو". لقد توقفت الدولة عن الحركة قُدُمًا، تدنى مستوى الخدمات رغم تخلفه، توقفت عملية إنتاج الكهرباء أو كادت، ولجأ النظام للطاقة المشتراة منذ 2006، وبرزت مصالح جديدة في مجال الكهرباء خارج نطاق المصلحة العامة ومناهِضة لها، وتراكمت مخزونات البطالة لسنوات متتالية، حتى أصبحت البلاد تحتاج عام 2008، حسب تقارير وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، إلى 180000 فرصة عمل لتلبية الطلب السنوي، وتحتاج إلى 35000 فرصة إضافية سنويًّا لتشغيل جزء من البطالة المتراكمة.

نستطيع الجزم بثقة أن القضية الجنوبية قد اخترقت مكوناتها من جميع الأطراف، خاصة تلك التي كانت العامل الفعال في وجودها، بينما ظلت الحركة الحوثية عصية على الاختراق لامتلاكها مشروعها الواضح وأيديولوجيتها التي تحدد مسارها بصرامة، إضافة إلى صرامة انضباطها مثلها مثل بقية الحركات المشابهة.

ولن نتحدث عن مخرجات التعليم للفترة من 1978 حتى 2010؛ لأن الشاهد عليها يأتي من أفغانستان إلى حرب التكفير إلى حوادث كثيرة.

وحالة الخدمات العامة هي نتيجة انشغال النظام بتطويع الناس لخدمته عبر الإفقار والهبات ودبر حالك. فكل الخدمات لم تشهد أي مشروعات حقيقية منذُ منتصف الثمانينيات، بما في ذلك قطاع الصحة، حيث رأينا جميع المسؤولين تقريبًا يسافرون زرافات ووحدانا للعلاج في الخارج. ربما يكفي الاسترسال في هذا الجانب فهو بيِّن حتى اليوم.

لقد وصلت القوى السياسية إلى طريق مسدود في خطابها حول مشروعها السياسي مع الشعب ومع النظام. فالقوى التي أطلقت على نفسها اسم معارضة، ظلت طوال 2009 تفاوض صالح على إشراكها بالسلطة مقابل كف خطابها الناري، وقد أعرب صالح حينها عن استعداده التنازل عن ستّ حقائب وزارية للمعارضة، لكن الطرف الأقوى فيها كان يصِرّ على ثماني حقائب؛ أربع له، وأربع توزع على البقية.

عند هذه النقطة، اتفق الطرفان على التمديد لفترة مجلس النواب لمدة سنتين لمرة واحدة فقط، على أمل أن يأتي عام 2011 وقد حسمت المفاوضاتُ الأمرَ بين الجانبين.

ظل الجمود في مفاوضات الطرفين سائدًا حتى العام 2011، ولم يحدث أي اختراق يذكر يَشِي بتوصل الطرفين إلى صفقة سياسية بحيث تجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفقًا لها. 

على أن الرئيس صالح قد نجح خلال هذه المدة في إقناع العديد من النواب بالموافقة على التمديد لولايته، ولم تكن تلك الموافقة شفوية بل موقعة بمحضر رسمي، بل وتقديم تعديلات دستورية جديدة في يناير2011 تلغي تحديد مدة ولاية الرئيس، حينها خرج علينا سلطان البركاني بمقولة "قلع العدّاد". الغريب في الأمر هنا أن الكثير من النواب الموقعين على التمديد صاروا فيما بعد يقدمون أنفسهم على أنهم رجال الثورة ومنظِّروها.

لماذا يخرج الناس؟ 

قلنا إن الرئيس صالح نجح خلال الفترة التي سبقت الوقت المحدد في الدعوة للانتخابات بدفع ما لا يقل عن مئة وخمسين نائبًا للتوقيع له بالتمديد، بينما لم تجنِ أحزاب المعارضة -المشترك على الخصوص- غير وثيقة "الإنقاذ الوطني" التي أعلنتها في نهاية ملتقى التشاور الوطني في مايو 2009، والذي اتضح فيما بعد أنها لم تكن أكثر من ورقة سياسية لابتزازه أكثر منها برنامجًا وطنيًّا للتغيير.

ليست الأوضاع التي ذكرناها في مطلع المقال هي كل شيء بالنسبة لدوافع الناس للخروج للشوارع مع اندلاع الربيع العربي في بداية 2011، فإلى جانب تردي الوضع الاقتصادي وهيمنة الفقر والبطالة، وسيادة الفساد والمحسوبية السياسية والجهوية في كل مؤسسات السلطة، فقد كانت هناك القضية الجنوبية كذلك، التي تصاعدت وتائرها منذ ما بعد حرب 94، ونتذكر جيدًا بداياتها وحتى2007 عندما أخذت تنتظم شيئًا فشيئًا على شكل حركة تقترب من درجة التنظيم، ولا نرى هنا حاجة للحديث عن عوامل ذلك؛ لأن مجرد ذكر حرب 94 ونتائجها يفسر كل شيء. وعلى امتداد بعيد في أقصى الشمال، كانت تربض مشكلة صعدة مثقلة بالحروب الستة التي دارت دون أن تقود إلى نتيجة لصالح بناء الاستقرار، بل زادت من أزمة النظام العميقة.

بين القضية الجنوبية وحروب صعدة نشطت حروب صغيرة اختلفت ساحاتها ومقاصدها، بين قبائل وقبائل وبين تجار نافذين وناهبين، تختلف الأسباب وتتعدد، لكن مصدر الإلهام واحد. وتمتد حروب الجميع ضد الجميع. 

بدورها نشطت الجماعات الإرهابية التي تمت الاستعانة بها في حزب 94، في فراغات كثيرة تشكلت نتيجة الوضع الذي وجدت البلاد نفسها فيه. هذه الجماعات أخذت توسع دوائر وجودها كما لو أن المنطقة التي خُصصت لها بعد حرب 1994 لها لم تعد كافية للتوسعات العددية والاحتياجات اللوجستية لتنفيذ خططها ومد نفوذها، وأكثر من ذلك أنها بدأت بالتوالد على شكل عناقيد متفرقة في عدة محافظات متجاورة، تشمل: البيضاء – مأرب – شبوة - أبين بصورة رئيسية.

وفي وسط الصراخ الحكومي المتزايد بنفي وجود إرهاب في البلاد، جاءت الضربة الأمريكية في مأرب باصطياد أبو علي الحارثي وبعض مرافقيه عام 2002 في مأرب، في حرب مرخصة للدرونز الأمريكية مستمرة حتى اليوم تحصد ما شاءت من الضحايا إلى جانب الأشخاص المستهدفين بالهجمات.

إذن، كانت القضية الجنوبية وصعدة ستبقيان إمّا مفتاحًا للسلام وإما بركانًا للنار، قضيتان غُيبَت العقلانية عن التعاطي معهما عن عمد.

ليس هناك من إمكانية لتغيير الواقع بالأدوات نفسها التي أنتجت هذا الواقع، في هذه الظروف وتظافرها خرج الناس بحثًا عن أمل في حياةٍ أفضل. الجميع خرج، لكنْ كلٌّ له ثورته الذي تصورها في وعيه.


إلا أننا، مع ذلك، نستطيع الجزم بثقة أن القضية الجنوبية قد اخترقت مكوناتها من جميع الأطراف، خاصة تلك التي كانت العامل الفعال في وجودها، بينما ظلت الحركة الحوثية عصية على الاختراق لامتلاكها مشروعها الواضح وأيديولوجيتها التي تحدد مسارها بصرامة، إضافة إلى صرامة انضباطها مثلها مثل بقية الحركات المشابهة. لذلك ظل زمام أمرها بيدها في الوقت التي تختفي فيه بوصلة الجنوب والجنوبيين في لجة قاتمة متعددة النزاعات والانتماءات والتنظيرات.

العوامل المحلية التي ذكرناها، لم تكن وحدها التي فعلت فعلها في تحريك الناس صوب فكرة التغيير؛ لأن الأمور كان لا بد لها أن تصل إلى تلك النقطة التي وصلتها عام 2011، بصرف النظر عن التوقيت، فالتوقيت عامل ثانوي في ظروف كهذه. إلا أنه لا يمكن بحال إهمال المتغيرات الدولية التي اجتاحت العالم والمنطقة.

أولًا المتغيرات المهمة هي أن علاقات النظام بالفاعلين الدوليين والولايات المتحدة على وجه الخصوص لم تعد في أحسن حالاتها؛ الأمر الذي يعني أن فترة صلاحيته الأمريكية انتهت عمليًّا، فقد ذكرت هيلاري كلنتون ذلك في كتابها (خيارات صعبة): "كانت علاقة أمريكا بالرئيس صالح رمزًا للخيار المحير الذي تعانيه سياستنا في منطقة الشرق الاوسط كان فاسدًا ومستبدًا"، ويبدو أن هذا قد انعكس من وجهة نظرنا على علاقات النظام بمحيطهِ كذلك.

المتغير الثاني أن الجارة السعودية نفسها بدأت تتغير من الداخل في اتجاه مختلف عما كانت عليه قبل عقد من ذلك.

المتغير الثالث أن "طرفًا في الساحة العربية أكثر تنظيمًا"، قد وجد نفسه فجأة وبدون مؤشرات سابقة أن الغرب يتطلع إليها ليكون هو البديل المرتقب لبناء نظم جديدة بديلة لتلك التي قررت التخلي عنها؛ الأمر الذي دفعه للتنمُّر العنيف ضد بقية الأطراف، وهذا ما لوحظ بصورة جلية كثيرًا خلال بداية الربيع العربي.

لقد فقد النظام مبررات بقائه داخليًّا وخارجيًّا، هذه حقيقة يجب الإقرار بها بصرف النظر عن القناعات المتعصبة التي يفرضها الولاء الانتهازي المفرط. هناك فرق بين الولاء وبين الحاجة الموضوعية لإحداث التغيير الذي تحتاجه البلاد وتحتاجه حياة الناس.

ليس هناك من إمكانية لتغيير الواقع بالأدوات نفسها التي أنتجت هذا الواقع، في هذه الظروف وتظافرها خرج الناس بحثًا عن أمل في حياةٍ أفضل. الجميع خرج، لكنْ كلٌّ له ثورته الذي تصورها في وعيه. 

في ساحة الجامعة كنت تجد الذي خرج بحثًا عن وطن آخر، وطن فيه العدالة وفيه الحرية تتنفس، وفيه الخبز مباح، والجوع في إجازة إجبارية، وبالمقابل تجد أولئك الذين خرجوا من أجل حسابات أحزابهم، والقول عندهم ما قالته قيادتهم، وهناك من خرج على حرف؛ إن انتصرت الثورة فقد فاز فوزًا عظيمًا وكان بين الثائرين، وإن هي فشلت فقد قضى وقتًا مسليًا وتمكن من توفير بعض الوجبات المجانية ومارس الثرثرة لبعض الوقت دون أن يلومه أحد، في الساحة كنت تجد المثقف والأكاديمي والمحامي والقاضي والمعلم، وكلٌّ يختلف عن الآخر، وتختلف ثورة كل منهم بالضرورة. 

في المقال القادم سنتحدث عن ثورات فبراير، وليست ثورة واحدة. لماذا تعددت الثورات والنظام واحد؟


•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English