طبول تقرع على أمعاء فارغة

"مكالمة" تحشد حروف الموت على جدار اليأس
منصور أبو الفضل منصور
October 27, 2022

طبول تقرع على أمعاء فارغة

"مكالمة" تحشد حروف الموت على جدار اليأس
منصور أبو الفضل منصور
October 27, 2022

داخل غرفة ضيقة في قرية نائية تسمى الرباعية في عزلة بني عبدالعزيز- مديرية كسمة- محافظة ريمة، تسكن أسرة مكونة من أمٍّ وخمسة أطفال أصغرهم يبلغ من العمر أربعة أشهر، وأب أبعدته الظروف المعيشية عن الأسرة للبحث في المدينة عمّا تيسر من لقمة العيش، ليسدّ بها رمق أطفاله، من خلال عمله بالأجر اليومي. 

على رصيف حراج العمال يجلس هذا الأب، شارد العقل، غارقًا في الهموم، يقطع شروده بين الفينة والأخرى أصواتٌ مختلفة لفمٍ واحد، إنه فم السلطة -مكبّر الصوت- المعلق على عمود الإنارة، هذا العمود الذي أصبح منذ سنوات شماعة للّافتات الإعلانية والخرق (قطع القماش) الخضراء فقط. 

تحتشد حروف الموت لتخرج من ذات المُكبِّر على هيئة زامل، يهنهن الأب بكلماته التي أصبح يحفظها جيدًا لكثرة تكرارها، ويحاول الاستماع لألحانه لا الاستمتاع بها، وسرعان ما تختلط عليه قرع الطبول بقرقرة أمعائه الفارغة.

ينتهي الزامل لتبدأ الخطب المعتادة التي تستحضر العواطف الدينية والمذهبية، وتحثّ على الحرب والقتال؛ حينها اتَّكَأ على جدار اليأس الذي عجز أن يحفره بالأمل ذلك الأب الذي تتكِئ عليه هموم الدنيا.

كانت الأم، التي لم تتجاوز عقدها الرابع، تحضر لأبنائها "العصيد"، وجبة الغداء التي اعتادوها منذ أن وُجدوا، والتي تنقطع عنهم كلما تأخرت حصتهم الإغاثية، بسبب العراقيل التي تضعها سلطة الأمر الواقع أمام المنظمات الإغاثية، ولسوء التخزين تصل هذه المعونات لمستحقيها شبه تالفة.

ما سمعه من خطاب لم يغير من نفسيته، ولم يشبع جوع بطنه، ولم يضف لعقله جديد، فهو قد حفظ في سنٍّ مبكرة، مقولةً تنسب لعلي بن أبي طالب؛ "عجِبتُ لِمَن لا يَجِدُ قوتَ يومِه، كيفَ لا يخرجُ إلى النّاسِ شاهِرًا سيفَه"، واليوم وقد تجاوز الخامسة والأربعين شتاءً، يعيش في وطن لا يجرؤ أن يقول فيه أنا جائع، يحكمه من يدّعون الانتماء ويحملون المحبة للإمام علي.

يفكر أن يقول إنّه جائع، لكنه يخاف أن يتحول في غمضة عين لجاسوس يعمل لحساب الأعداء والخصوم المتوارثين جيلًا بعد جيل منذ ما قبل 1342 عامًا، إنه يرى الطُّهر في كفه العاملة والقداسة في فأسه.

بشيء من الصعوبة، وبكاهلٍ مثقَل بالهموم، ينهض ليغير مكانه، ويبحث عن مكانٍ بديل، يأويه من أشعة الشمس وحرارتها، وأخذ يفكر بالاتصال للسؤال عن حال أسرته الصغيرة، ثم يتردد -خوفًا وخجلًا- يخاف من أن تقول له أم أطفاله، إنّ كيس القمح قد نفد أو يكاد، ويخجل من أن يطلبه أحد أطفاله شيئًا، فأيّ طلب مهما كانت قيمته، يؤثر سلبًا على سرعة استيفاء قيمة كيس القمح، ودفع الجوع عن بطون أكفاله أهم لديه من إدخال السعادة إلى قلوبهم.

وبعد صراع، انتصر الشوق على الخوف والخجل، واتصل الأب المكافح بالأم الصابرة، لكنّها لم ترد عليه، فعاود الاتصال مرة أخرى، ولم يجبه أحدٌ أيضًا، فتحولت نبضات قلبه إلى دقات طبول قلقٍ متسارعة، واتصل على هاتف جاره الذي أخبره بالفاجعة. وكيف لشخص أن يستوعب أو يتقبّل عقله أنه خسر فلذة كبده وزوجته في لحظة واحدة!

الموت ووجبة الغداء

كانت الأم، التي لم تتجاوز عقدها الرابع تحضّر لأبنائها "العصيد"، وجبة الغداء التي اعتادوها منذ أن وُجدوا، والتي تنقطع عنهم كلما تأخرت حصتهم الإغاثية، بسبب العراقيل التي تضعها سلطة الأمر الواقع أمام المنظمات الإغاثية، ولسوء التخزين تصل هذه المعونات لمستحقيها شبه تالفة. 

في الوقت الذي كانت تحضّر فيه الأم وجبة الغداء، ذهب مصطفى (٧ سنوات) لجلب الماء من إحدى البرك المكشوفة في القرية، وهي مهمة جعلته يتأخر عن الالتحاق بالمدرسة، وقد لحق به أخواه: علي (٥ سنوات)، وخالد (٤ سنوات).

كان علي أسرعهم في العودة إلى الأم، لكنه عاد مفزوعًا باكيًا ينادي على أمه بأنّ مصطفى وخالد يغرقان في البركة، فسابقت الثواني بجناحي الحب والخوف حتى وصلت، وبقلب الأم لم تتحمل المشهد، فقفزت في تلك البركة دون أن تتردّد، ورغم أنّها لا تجيد السباحة بالشكل المطلوب، لكنّها أخرجت مصطفى من فم الموت، وعادت لتصارع الماء والموت من أجل إنقاذ خالد، الذي بعد أن أُنْهِكَتْ في البحث عنه تحت الماء وجدته في قاع البركة، فقررت البقاء معه.

وصل البعض من أهالي القرية، وأخرجوا الطفل وأمه، لكنهما كانا قد فارقا الحياة، لم تترك الأم أطفالها، فقد أعادت أحدهم إلى الحياة، ورحلت عن الحياة مع الآخر، حيث لم يترك لها الموت وقتًا كافيًا لتقديم وجبة الغداء التي أعدتها لأطفالها الخمسة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English