أمّية المتعلمين عنوان بارز للضياع

كل حزب بما لديهم فرحون!
عبدالرحمن بجاش
January 24, 2021

أمّية المتعلمين عنوان بارز للضياع

كل حزب بما لديهم فرحون!
عبدالرحمن بجاش
January 24, 2021
الصورة ل: محمد الصلوي

  بمجرد أن انبلج صبح الـ26 من سبتمبر 1962، حتى اندفع الناس نحو الصبح الذي طال انتظاره بكل الحماس والشغف لحياة جديدة. عطش الإنسان إلى الجديد بعد أن عاش ضمن سور التجهيل أدى به إلى الاندفاع نحو التعليم بكامل قوته. فالطريق الى أي مستقبل حقيقي يبدأ من المدرسة.

  بدأت مصر يومها، والكويت بالذات، تبنيان المدارس لتستوعب الأعداد الكبيرة من التلاميذ في كل المناطق اليمنية بدون استثناء. في تعز افتتح الرئيس السلال مدرسة الكويت الإعدادية في حفل رسمي مهيب له مغزى أن يكون على رأسه رئيس الجمهورية. كانت رسالة واضحة بأن هذا هو المعول الذي سيهدم أسوار الجهل والتخلف. وفي تعز أيضًا بنت مصر العظيمة مدرسة الثورة الثانوية، وفي الحديدة انتصبت مدرسة الشعب المقدمة هدية من الاتحاد السوفيتي العظيم، ونفس النسخة من "مدرسة الشعب" في صنعاء وفي تعز أيضًا.

  وفي العاصمة صنعاء، حدد القاضي علي أبو الرجال وعبدالله الكرشمي المساحة الموازية لشارع علي عبدالمغني لتنتصب فيها مدرسة عبد الناصر الثانوية، وقريب منها مدرسة سيف، مقدمة من الكويت، فمدرسة سالم الصباح والفضل للكويت كذلك، ومدرسة أروى، لتشتعل البلاد طلبة ودفاتر وأقلام وكتاب، ومدرّس يحمل رسالة، قدم من مصر ليعطي بلا حدود. مدارس تصدح صباحًا بنشيد: "لنا الغد الموحّد"، وتحية العلَم: "تحيا الجمهورية العربية اليمنية" تشق عنان السماء، وشارعٌ يقف إجلالًا لمن يحملون الدفتر والكتاب، ولمن يقدم روحه في سبيل النجاح، فيما يتبارى الآباء بأولادهم، و"يا ويلك لو رسبت"!

  سنوات الستينات كانت سنوات الخصب في العملية التعليمية والتربوية، عندما نظر الجميع إلى التعليم على أنه رسالة إنسانية حقّ لكل يمني أن يحملها، وتحملت الدولة عبء التعليم المجاني لكل طبقات المجتمع وفئاته.

  مرت الستينات بزخمها في كل المجالات، ولم يستفد أحد من ذلك الزخم بتوجيه العملية برمتها نحو هدف محدد يتبلور فيما بعد فلسفةً للتعليم تجيب عن السؤال الذي لم يُجَب عنه إلى اللحظة: ماذا نريد بالتعليم ومن التعليم؟ إذ لو كانت حُددت فلسفةٌ واضحة للتعليم، لكنا استفدنا من ذلك التوجه العظيم الذي تبعثر مع مجيئ "المصالحة" ودخول السعودية على خط التعليم، حتى وصل الأمر إلى خضوع اختيار وزير التربية لرغبتها.

  من لحظة سيطرة الإخوان المسلمين على التعليم "تلاقى المتعوس على خائب الرجا" في نفس اللحظة التي غابت فيها الأحزاب القومية واليسارية والطرف والوسط، لأنه لم يكن لها هدف سوى الهتاف في الشارع، بينما تركت القلم والمسجد نهبا لمن يسيسون الدين، ويعتبرون الآخرين "شيوعيين". سمعت الشيخ عبدالمجيد الزنداني يرددها هكذا: "إنهم شيوعيون وسنواجههم"! من هم؟ لا أدري؟ يوم أن كنا ندرس مادة "التوحيد"، لو أدرك أن الشيوعية فكرة مثالية لا يستطيعها الإنسان وأن الجهل لا يمكن أن يأتي بشيوعيين، لو كان كذلك، لما أدخلنا في دوامة لاتزال أعاصيرها تقذف بنا في كل اتجاه!

أول دفعة ثانوية عامة أتت من تعز، انظمت إلى من في صنعاء لأداء الاختبار، وتم تصحيح أوراقهم في مصر، وذهبت أول دفعة بعد الثورة للالتحاق بالجامعات المصرية وكان عددهم "37" طالبًا

  ومن لحظة مجيئ المغدور به عبده محمد المخلافي -وكان رجل حوار وجد أرضية مشتركة يقف عليها مع عبدالقادر سعيد، لكنهم لم يمهلوه- بدأ الصراع على المدرسة ليسطون عليها ويسيطرون على المفتاح، في لحظة أُدخلت فيها مصر في أتون معركة  بدا أن أحزاب الشارع لم تكن تدري بأن العملية التعليمية ستتم السيطرة عليها، وسيُحرف توجهها وهذا ما كان.

  جاء "5 نوفمبر" وبالًا على هذه البلاد، على حسن نية بعض القائمين عليه، ولأن مصر تآمروا عليها، فلم تستطع مواصلة دعمها، ومن تدعم بعد ذهاب السلال بما يعنيه!

  تُرك المجال للعبث بالتعليم، ومن لحظة أن طُبع الكتاب في المملكة وذهبوا بالطلبة بمنح إلى باكستان، قضي الأمر. ما الذي أنتجته سنوات الستينات؟ 

  أول دفعة ثانوية عامة أتت من تعز، انظمت إلى من في صنعاء لأداء الاختبار، وتم تصحيح أوراقهم في مصر، وذهبت أول دفعة بعد الثورة للالتحاق بالجامعات المصرية كان عددهم "37" طالبًا، ناهيك عن أولئك الذين كانوا قد ذهبوا إليها قبل الثورة، لتتوالى البعثات إلى مصر، ومن هناك تحديدًا عادت الكفاءات مسنودة بالحلم الذي تشكل مع الثورة، لكنه لم يوجه في الاتجاه الصحيح.

  لذلك ترى الكفاءات الكبيرة نتاج سنوات الحماس والرغبة والطموح حتى خبت المشاعل من يوم أن ذهبت البعثات إلى سوريا والعراق، فعاد خريجوها مقسومين بين البعثيين! ومن الاتحاد السوفيتي عاد من قرأ دفتره، ولم يقرأ الجميع دفتر هذه البلاد، ليظهر الشارع منقسمًا بين الأحزاب، ويغيب التعليم ولا أحد سأل نفسه عن التربية.

  كثرت المدارس، وبإهلالة التعاونيات كبرت الصورة لتشمل الأرياف بمدرسين مصريين وعراقيين وسوريين، ولاحقًا سودانيين وبشر من الصف العاشر من مصر، لنرى أجيالًا تحمل ثقافات شتى إن صح التعبير.

  ويوم أن شعر من شعر بفداحة الخطأ المتمثل في غياب المدرّس اليمني، أقبلت معاهد المعلمين التي لم تأت من خلال رؤية، فأخرجت كثيرين كانوا يتسلمون رواتب وهم طلبتها، أكبر من مرتباتهم وهم يدرّسون! لتضمحل الحكاية ويشلها السيل الجارف.

في ظل الحرب التي دمرت الأخضر واليابس تحول الطلاب إلى وقود لها، ودمرت مدارسهم وتوقفت مرتبات المدرّسين، فتحولت العملية التعليمية إلى حالة من العبث، وصار كل طرف يجرّ التعليم إلى صفه

  ظهرت المعاهد العلمية وقرار الموافقة عليها كان الخطأ الأكبر الذي قسم العملية التعليمية إلى قسمين. أما البعد التربوي، فكل حزب رمى إلى رؤوس أعضائه ممن استقطبهم من الصفوف، رمت الأحزاب بملازمها، وغابت التربية الوطنية، وبالتوازي، أُلغيت مادة الأخلاق واللغة الفرنسية، وحرّمت الموسيقى، وبحجة التوسع، قُضي على الأنشطة الرياضية ببناء فصول إضافية، ومبنى مكتب التربية والتعليم بتعز، قضى على آخر ملمح لمدرسة الثورة الثانوية التي كانت ساحتها بحجم ميدان الشهداء، وفي الطريق قُضي على فِرق "الفتوة" و"الكشافة"!

  أتى التعليم الجامعي بتأسيس جامعة صنعاء التي كبرت وكبر معها الحلم. ولغياب الرؤية وصاحب القرار، أُدخلت الجامعة ضمن دوامة الصراع على السلطة، فتوزعت نِسَبًا بين الرئاسة ووزارة الدفاع والشيخ والأمن. بدأت جامعة وانتهت إلى مصلحة حكومية، لأن استقلاليتها انتُهكت، وأُلحق بكلياتها من لا موهبة له ولا قدرة، وصارت "معادلة" الشهادات بوابة لمن هبّ ودبّ. وفي المجمل، تحولت الجامعة إلى وعاء يُقذف فيه الفائض من المدارس، أما المبدعين والواعدين، فلم يجدوا لهم ملجأً!

  وحدها سنوات الستينات عندما كان الحلم عربيًا، أخرجت الجامعات كفاءات وقدرات هي من تولت عملية التنمية التي وُئدت هي الأخرى بمال الكشف الخاص.

  في جنوب البلاد تبين أن عملية تعليمية وتربوية بدت آثارها في كوادر مقتدرة في كل المجالات بسبب وجود الرؤية، ولأن نظام الحكم كان واضحًا خطه، اتفقنا معه أو اختلفنا، فقد أنتج شيئًا، وكانت العملية التعليمية نتاجًا للخط العام.

قبل الوحدة تم دمج التعليم أو توحيده بعد فوات الأوان. عاد الجميع إلى المدرسة، وفي نفس الوقت، برزت جامعة الإيمان تخرّج أجيالًا، والتعليم العام أنتج هو الآخر من مزارعه دجاجًا بدون ديوك، ثم ظهر التعليم الأهلي وتحول إلى وسيلة ابتزاز؛ فلم يوفّر تعليمًا، حيث وقد أتى بعذر الكم الهائل في الصفوف، فتحول إلى عملية تجارية رديئة، بل وسيلة للترزّق، ولم يضف جديدًا سوى تسرّب المدرسين من التعليم العام إليه، أو توزّعهم بين هذا وذاك، وصارت الشُّقق التي أُسميت "جامعات"، تقذف إلى الشارع بالمئات، ليتحول الجميع إلى بطالة وبطالة مقنعة، وصارت أمّية المتعلمين عنوانًا بارزًا للضياع! وفي البلاد توالدت معاهد دينية أنتجت هؤلاء المتحاربين الآن على أهدافهم هم وليس من أجل المستقبل، ليضيفوا عبئًا جديدًا على كاهل البلاد ستتبدى آثاره في المستقبل. أما التربية عمومًا، فلا وجود لها، ما غيب الولاء والانتماء الوطنيين بالتوازي. ولأن الكم تغلّب على الكيف، فقد تبين أن العملية التعليمية، باستثناء فترة الستينات، تُخرّج الأعداد الهائلة التي يجري الاحتفال بها سنويًا كأرقام، لتفجر حكاية الـ60,000 وظيفة ما جرى في العام 2011.

  فرح الناس بالوحدة، ولم تفرح الوحدة بنفسها؛ فلعُقم العملية السياسية، و"أيّ عليٍّ سيخصي عليًّا"، فقد ضاع الجميع، وصاروا يلهثون وراء "الخدمة المدنية" للانضمام، ككمّ وليس ككيف، إلى الوظيفة التي تحولت الى ملجأٍ للعجزة.

  انعكس ذلك على نظرة الناس للتعليم؛ فالشهادة إن لم تنعكس رزقًا، فليس لها معنى. وهكذا بدأت ظاهرة التسرب من الفصول إلى المطاعم والورش وموبقات الشارع، إن صح التعبير، ولم يعد الناس ينظرون إلى التعليم نفس نظرة الستينات.

خلاصة الأمر: إلى ما قبل حكومة بحاح، فقد سألت وزير التربية والتعليم، الدكتور عبداللطيف الحكيمي: كيف ترى العملية التعليمية وماذا حققَتْ؟ قالها: صفر على الشمال! جوابه القصير لخص كل الأسئلة وأي استفسار آخر.

  في ظل الحرب التي دمرت الأخضر واليابس، تحول الطلاب إلى وقود لها؛ دُمّرت مدارسهم، وتوقفت مرتبات المدرسين، فتحولت العملية التعليمية إلى حالة من العبث، وصار كل طرف يجرّ التعليم إلى صفه؛ هؤلاء من خلال توجههم، فيغيرون أسماء المدارس والمناهج، وأولئك لا رؤية لهم. وبين الطرفين، يتجه مستقبل العملية التعليمية إلى لا شيء!


•••
عبدالرحمن بجاش

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English