ترميز المثقف

(الجاوي) والسقوف الوطنية المرتفعة!!
بهاء عباس
December 25, 2022

ترميز المثقف

(الجاوي) والسقوف الوطنية المرتفعة!!
بهاء عباس
December 25, 2022

لا أدري من أين أبد أو حتى كيف أبد بالحديث عنك أو عن سيرتك؛ فأنت الصحفي المناضل، والسياسي المثقف، والمقاوم حامل البندقية والقلم، أنت من بشّر بالوحدة اليمنية في ظل الاستعمار وحكم الإمام، وأنت من دافع عنها حين أصبحت مجرد غنيمة للظلم والطغيان، وأنت ممّن حموا مدينة صنعاء عندما حاصرتها جيوش الإمامة والظلام.

نعم هو عمر عبدالله الجاوي، ابن قرية الوهط في لحج، المولود في سنة 1938، والذي درس فيها الابتدائية، وأكمل تعليمه المتوسط في المدرسة المحسنية، بالحوطة، وابتعث بعدها إلى مصر لإكمال الدراسة الثانوية عام 1954، وهناك بدأ نشاطه السياسي والتنظيمي، بانضمامه للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني (حدتو) وهي منظمة يسارية ماركسية، وقرأ الكتب وتشرّب الأفكار اليسارية التقدّمية، وشارك في الاعتصامات الطلابية للطلاب اليمنيين في السفارة اليمنية بالقاهرة المطالِبة بتحسين أوضاع الطلاب في مصر، باعتماد مساعدات مالية وتوفير سكن عام للطلبة. 

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فكان ينشط بين أوساط الطلبة اليمنيين كمثقف وناشر للوعي السياسي الوطني، وكانت ثمرة هذا النشاط السياسي هو تأسيسه مع بعض من زملائه "رابطة الطلبة اليمنيين في القاهرة" في يوليو 1956، وكانت هذه الرابطة أول عمل طلابي يمني وحدوي ووطني يرى في اليمن كيانًا واحدًا غيرَ قابل للتقسيم والتجزئة، في وقت كان يتسيد المشهد السياسي تيارات وتنظيمات ذات رؤى انكفائية، مثل: الحزب الوطني (الوحدة الحضرمية) 1945، والذي لم يرَ غير حضرموت، والأنكأ من ذلك، الجمعية العدنية التي كان شعارها "عدن للعدنيين" في 1949، والتي سرعان ما وقعت في فخ ومتاهة (من هو العدني الذي تطالب الجمعية في أن تكون مدينة عدن خالصة له من دون اليمنيين)، ولم يكن الحال أفضل مع رابطة أبناء الجنوب العربي 1951، التي كان شكلها أشبه بردّ فعل على خطاب الجمعية العدنية، والتي كان طموحها يختزل في توحيد بعض السلطنات والمشيخات الموجودة في جنوب اليمن، بعيدًا عن الشمال الذي كان يرزح تحت وطأة الرجعية الإمامية. في ظل هذه الظروف والأحوال نشأت رابطة الطلاب في القاهرة، تحمل حلم اليمن الكبير الواحد.

في 1959، طُرد الجاوي مع بعض من زملائه إلى تعز، بسبب انتمائهم للتيار الماركسي في مصر، ولكن شخصية مثل عمر الجاوي لا يمكن أن تكون على هامش العمل السياسي والنضالي، فعند العودة إلى تعز التحق بالعمل الصحفي والكتابة في صحيفة (الطليعة) في تعز، لصاحبها عبدالله باذيب، والتي كانت أحد منابر مقارعة الاستعمار البريطاني في الجنوب. ولم يمضِ الوقت الكثير في تعز، حتى أعيد ابتعاثه مرة أخرى إلى الاتحاد السوفيتي -يُروى عن الإمام أحمد قوله: "إذا كان هؤلاء الطلبة ماركسيين وشيوعيين فليذهبوا إلى بلاد الشيوعيين ليدرسوا"- وهناك التحق عمر الجاوي بكلية الصحافة في جامعة موسكو، وأسهم في تأسيس اتحاد الطلبة اليمنيين هناك وترأّسه أيضًا، وتحصّل من كلية الصحافة على درجة الماجستير (الدبلوم) في الصحافة عن دراسته الصحافة النقابية في عدن 1966، وكان لدراسته في روسيا وإتقان اللغة الروسية الفضل في ترجمة كتابٍ من الروسية إلى العربية، بعنوان "السياسة الاستعمارية البريطانية في عدن"، للباحثة الروسية فالكوفا. 

عاد إلى صنعاء منتصف 1967، ليرأس تحرير صحيفة الثورة، في وقت كانت تُحشد فيه القوات الملكية لحصار العاصمة، ولم تمنعه وظيفته من حمل السلاح والمساهمة في تأسيس المقاومة الشعبية، وقت بَدء الحصار في أواخر 1967، وصار أحد أبرز أسمائها، ورئيس تحرير نشرة المقاومة التي رفعت شعار "الجمهورية أو الموت". وبعد كسر حصار صنعاء أمام قوات الثورة والجمهورية والمساندين لها من المقاومة الشعبية، انطلق عمر الجاوي في المشاركة في تأسيس حزب العمال والفلاحين في 1969، مع رفيقه سيف أحمد حيدر، ثم تأسيس حزب العمل اليمني 1971، الشكل الجديد والمتحول من حزب العمال والفلاحين.

قد يتساءل البعض الآن، عن سر اهتمام عمر الجاوي بتأسيس الأحزاب والتنظيمات السياسية، وتكمن الإجابة وباختصار؛ في إيمان عمر الجاوي بالديمقراطية والتعددية السياسية وحرية العمل السياسي، فقد كان يساعد ويشارك في تأسيس التنظيم السياسي والمشاركة فيه، ثم يترك ما تبقّى من العمل والنضال السياسي للأعضاء وقيادة الأحزاب في خوض غمار العمل الحزبي والتنظيمي، ويبقى هو بمثابة المستشار والناصح لها. حتى في الإدارة والمجال الإداري، كان لعمر الجاوي البصمة والأثر البارز في هذا المجال، فقد شارك في تأسيس ورئاسة وكالة الأنباء اليمنية في صنعاء، وعند الانتقال إلى عدن مطلع السبعينيات رأسَ هيئة الإذاعة والتلفزيون هناك، وكانت بداية السبعينيات من القرن الماضي مقدمة لعمل كبير بطابعٍ ثقافيّ وسياسيّ مهمّ للغاية، ومثل كل عادة كبيرة، كان لعمر الجاوي حضوره اللافت في هذا الحدث الكبير في تاريخ اليمنيين؛ 26 أكتوبر 1970. وفي مدينة عدن بالتحديد، اجتمع العديد من الكتاب والأدباء والمثقفين والمؤرخين اليمنيين، لإطلاق "اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين" كأول مؤسسة وحدوية في بلد مشطور، سترفع طيلة عشرين عامًا شعارَها الوحدوي الوطني الكبير "تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة".

تجاوز هذا الاتحاد، خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، دوره كملتقى للكتّاب والمثقّفين، إلى منصةٍ للعمل الوطني السياسي الهادف إلى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وأصبحت بطاقة العضوية في الاتحاد هي الحامية والمدافِعة عمّن يحملها، سواء كان في الشمال أو الجنوب من أصحاب الرأي السياسي الوطني، خاصة أن تلك الآراء والتوجهات كانت لا تروق لبعض قادة البلاد.

وطنية ووحدوية عمر الجاوي كانت فريدة من نوعها، وقد وصلت إلى حدّ التطرف في محبة وتبجيل الوحدة اليمنية، وهي من خلقت له القَبول والرضا عند معظم الأطراف السياسية بمختلف توجهاتها ومشاربها الفكرية والعملية، عدا القوى الانعزالية والانفصالية التاريخية.

فكان عمر الجاوي هو رأس حربة هذا الاتحاد، من خلال إعادة إصدار ورئاسة تحرير مجلة الحكمة اليمانية في 15 أبريل 1971، لسان حال "اتحاد الأدباء والكتاب اليمنين"، ولنا هنا توضيح بأن مجلة الحكمة اليمانية كانت تصدر في نهاية الثلاثينيات حتى بداية الأربعينيات (1938-1941)، ورأسَ تحريرها أول مرة أحمد عبدالوهاب الوريث قبل موته المريب، وكان خط تحرير هذه المجلة يتبنّى خطاب الاتجاه الإصلاحي الشاب في عاصمة مملكة الإمام يحيى.

ولرمزية المجلة، استأنف عمر الجاوي إصدارها باسم اتحاد الأدباء والكتّاب الوليد، بشكل مختلف وأهداف وطنية جديدة، تتمثّل في العمل على الدعوة إلى تحقيق الوحدة اليمنية ونشر المواضيع ذات البعد الوطني السياسي، وهذا ما أثار ملاحظة بعض الأدباء والكتّاب اليمنيين وتعليقهم على ما ينشر في المجلة، ولم يكن وحدَهم أدباء ومثقفو الاتحاد من لديهم وجهة نظر على محتوى المجلة، التي طغى عليها البعد السياسي الوطني على البعد الثقافي والأدبي في بعض الأحيان.

بشكل عام كانت سنة 1972، هي سنة اليسار في الجنوب بكل امتياز، من حيث توجه الدولة إلى أن تكون الاشتراكية العلمية هي أيديولوجية الدولة ومناهج فكرها الوقاد، مع قولبة كل شيء بقالب الاشتراكية العلمية، ولم تكن مجلة الحكمة اليمانية بعيدة عن هذه المحاولات، وخاصة من خلال الكتّاب والمثقّفين الشباب ذوي التوجه اليساري، الذين أرادوا أن يكون خط تحرير المجلة يساريَّ المحتوى والمضمون، ورغم أنّ عمر الجاوي يساري ماركسي الفكر والتوجّه، إلَّا أنّه حافظ على وطنية ووحدوية المجلة، بعيدًا عن أيّ تطبيعٍ سياسي لتوجّه معين، حتى في خطوة توحيد الفصائل اليسار في الشمال مع تلك الموجودة في الجنوب 1975، فقد كان أيضًا من الرافضين لتلك الخطوة؛ لما رأى فيها من خطوة لإفراغ الشمال من القوى الوطنية، وسبب في هجرتها للجنوب، وقد حدث هذا بالفعل في وقت لاحق.

وطنية ووحدوية عمر الجاوي كانت فريدة من نوعها، وقد وصلت إلى حدّ التطرف في محبة وتبجيل الوحدة اليمنية، وهي من خلقت له القَبول والرضا عند معظم الأطراف السياسية بمختلف توجهاتها ومشاربها الفكرية والعملية، عدا القوى الانعزالية والانفصالية التاريخية، حتى وإن عارض بعض الأفعال أو الأقوال التي يعتقد أنّها غير وطنية أو وحدوية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فكانت وطنيته ووحدويته هي السبيل في أن يكون الخيار الأفضل في بعضٍ من المسارات السياسية المهمة، مثل مشاركته في لجنة صياغة دستور الوحدة اليمنية كأحد مخرجات اتفاقية طرابلس 1972، بين شطري اليمن بعد حربي قعطبة والراهدة في أكتوبر 1972، إلى جانب الوساطات السياسية التي قادها للإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين، سواء في الجنوب أو الشمال، وأشهرها كان عملية إطلاق سراح معتقلي أحداث 13 يناير 1986 المؤلمة، وهو يتنقل بين خطوط النار، حتى يوقف إطلاق النار وسفك الدماء بين رفاق الكفاح والنضال الثوري.

رغم انشغال عمر الجاوي في الأعمال الإدارية والصحفية والسياسية، لم ينسَ أن يضيف للمكتبة اليمنية بعض المؤلفات من تأليفه: الزبيري شاعر الوطنية 1972، حصار صنعاء (ريبورتاج صحفي) 1975، الصحافة النقابية في عدن (بحث) 1974. حتى كان عام 1980، حين شغل موقع الأمين العام لاتحاد الأدباء في المؤتمر الثاني الذي انعقد في صنعاء.

اتفاقية الوحدة (30 نوفمبر 1989)، هي التي رسمت الملامح الأولى للوحدة اليمنية، عن طريق إقرار دستور دولة الوحدة والذهاب به لمجلس الشورى والشعب للموافقة عليه، وهنا انبرى عمر الجاوي بـ"وثيقة الشرف" كدليل عملي لبناء الدولة الوليدة، المتضمنة خمسة عشر بندًا، من أهمّها إرساءُ العمل الديمقراطي وحرية التعددية السياسية، وفي خضم هذا الحراك السياسي دعا إلى تأسيس "المجلس اليمني للمنظمات المهنية والإبداعية"، ترأسَ هذا المجلس في 90 بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية.

3 يناير 1990، كانت اليمن على موعدٍ مع إشهار أول حزب يمني في ظل حظر التعددية الحزبية في الشمال، وقيادة حزبٍ وحيد وأوحد للعملية السياسية في الجنوب، قبل السماح بالتعددية الحزبية بعد إعلان تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990، ألَا وهو حزب "التجمع الوحدوي اليمني"، وهو حزب نخبوي بامتياز، يتكون من نخبة المفكرين والسياسيين والأدباء اليمنيين، حيث كان المؤسس لهذا التجمع عمرَ عبدالله الجاوي، كأمين عام للحزب، ومحمد عبده نعمان الحكيمي رئيسًا له، إلى جانب أسماء؛ كخالد فضل منصور، وحسن علي الحريبي، وآخرين. وقد تميز هذا الحزب عن بقية الأحزاب السياسية على أنّه قام على منظومة قيمية (الحرية والمساواة والديمقراطية)، وليست منظومة أيديولوجية أو قومية كالأحزاب الأخرى الموجودة في ذلك الوقت، وكانت صحيفة (التجمع) هي الناطقة بأفكار وتوجهات الحزب.

صحيح أنّ التجمع لم يستطع الوصول للبرلمان، لكن كان تأثيره ملموسًا في الأوساط الثقافية، وخاصة في المناظرات الفكرية والسياسية، وتبني الفكر الديمقراطي والعمل الديمقراطي في الحياة السياسية.

وهذا ما عبّر عنه صراحة عمر الجاوي، في إحدى المقابلات التلفزيونية، حين قال: "لقد كنّا نلام على تمسكنا الشديدة ودعوتنا للوحدة في بعض الأحيان، والآن نتمسك بالديمقراطية والحرية، لأنّها السبيل لتطور الإنسان اليمني وحريته". 

لكن سبيل (الوحدة والمساواة والديمقراطية) ليس مفروشًا بالورد، فقد تعرض عمر الجاوي لمحاولة اغتيال، راح ضحيتها الشهيد المهندس حسن الحريبي- أحد مؤسسي حزب التجمع الوحدوي، بينما أصيب هو بإصابات طفيفة في عام 1991، وقد شهدت الأعوام التي سبقت حرب صيف 1994، موجات عنف واغتيالات للكوادر الوطنية في الشمال والجنوب، وحين احتدم الصراع بين شركاء الوحدة في 1993، ومن خلال موقعه كمستشار للمجلس الرئاسي، تنبأ بوقوع حرب تكون الغلبة فيها للقوى الشمالية، وتصبح عدن والجنوب غنيمة لهذه القوى، معلِّلًا هذا التصوّر بما تملكه القوى الشمالية من خبرة وتجربة سياسية تتجاوز 1000 سنة وتصل حدّ المكر والخبث السياسي، يقابلها حداثة في تجربة الحكم لا تتجاوز 25 سنة في الجنوب، ورغم ذلك شارك عمر الجاوي في لجنة الحوار الوطني وصياغة وثيقة "العهد والاتفاق" 18 يناير 1994، كمحاولة أخيرة لنزع فتيل الحرب، التي سرعان ما تفجّرت في 27 أبريل 1994.

خلال تلك الحرب الدامية، كان رافضًا لهذا المنزع بالمجمل، بغض النظر عن أيّ شيء آخر، فقد عقد مؤتمرًا في فندق عدن، يرفض فيه إعلان نائب رئيس الجمهورية (علي سالم البيض) في 21 مايو 1994، فكَّ الارتباط والعودة إلى ما قبل وحدة 1990، وبنفس الوقت أعلن الدعوة لتكوين جمعية للدفاع عن عدن، مع اقتراب جحافل قوات صالح وحلفائه من المدينة، فتلك القوات ليست من أجل حماية الوحدة اليمنية كما كان يراها، إنّما هي قوات هدفها الاستيلاء والقضاء على كل منجز حديث وتقدمي في الجنوب، ورغم هذه النكسة والنكبة للوحدة اليمنية، لم يفقد إيمانه بالوحدة اليمنية والديمقراطية، بعد تخليصهما من الاستخدام السلطوي الفاسد.

وافاه الأجل في 23 ديسمبر 1997، عن عمر ناهز 59 عامًا، قضاها في الدفاع عن الوحدة اليمنية والثوابت الوطنية، وحالمًا بالحرية والمساواة والديمقراطية.

•••
بهاء عباس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English