من التعامل المذهبي مع العرف (2-2)

في النصوص الحضرمية وتقعيدات المالكية
أحمد صالح الجبلي
April 29, 2023

من التعامل المذهبي مع العرف (2-2)

في النصوص الحضرمية وتقعيدات المالكية
أحمد صالح الجبلي
April 29, 2023
قبائل حضرمية ومشرقية

من المهم التذكير هنا بأنّ الاهتمام الذي جرى بالمنطقة الشرقية والجنوبية، أقلّ بكثير من ذلك الذي أُولي لمنطقة الهضبة الشمالية، وبالذات من قبل الباحثين الأجانب. ويمكن استثناء حضرموت من ذلك، ولو أنّه يظلّ اهتمامًا ضئيلًا قياسًا إلى الاهتمام بالهضبة الشمالية. وقد كان "سرجنت" هو الذي أبدى اهتمامه الواضح والحثيث بشأن العرف القبَلي في المنطقة الجنوبية، فراح يجمع ما استطاع من وثائق الأعراف. 

وعمومًا، لا يختلف العرف القبلي من حيث مبادؤه وقواعده العامة، وكذا علاقته بالشريعة الإسلامية في منطقة المرتفعات الشمالية عن غيرها من المناطق القبَلية في اليمن. أما هنا فإنّا نورد جزئية خاصة بحضرموت، أو مظهرًا خاصًّا بمنطقة من المناطق القبَلية لعلاقة العرف بالشريعة الإسلامية.  

في حضرموت: بشأن العرف في حضرموت وما إذا كان مكتوبًا أم أنّه لم يكن كذلك، يذكر سرجنت أنه اشترى نسخة من "كتاب الآدب واللوازم- أحكام المنع"، كانت تملكها عائلة العطاس في حريضة، وهي نسخة فريدة. إنّ هذه المخطوطة الهامّة عبارة عن رسالة توضح الفرق بين الشريعة والقانون وأعراف القبيلة. 

لقد أثار أحد علماء الدين، وهو باعلوي، في كتابه "مجموع مشتمل على رسائل نافعة" إلى أقوال لبعض الثقاة من اليمنيين ضدّ قانون العادات. لكننا، في الوقت ذاته، نجد لأحمد بن يحيى رأيًا آخر، حيث يقول: "لأنّ حكم المنع غير خارق لحكم الشرع بل فيه زيادة لردع المفسدين، وثبتت أصوله على كتاب رب العالمين كلام نبيه". ويعالج الكتاب العقوبات المعتادة التي تفرض على كل حالة خرق القانون والعادات. وتبدأ المعالجة باقتباس من الشريعة ثم يتبعها بقانون القبيلة. (وهذا الرأي يتفق تمامًا مع رأي الشيخ عبدالله العلايلي، كما سيأتي لاحقًا). ويعتقد العديد من علماء الدين السادة وآخرون، أنّ العرف القبَلي طاغوت.

عن قلة الدين في عموم بَوادي حضرموت –مع العلم أنّ هذا هو حال عموم اليمن– يجري الحديث بين علماء الدين في حضرموت، فيذكر العديد منهم –وأورد هنا اقتباسًا لأحدهم وهو المؤرخ علوي بن طار الحداد– أنّهم لا يهتمون بتعلم فرض العين فضلًا عن فرض الكفاية، ومنهم من لا يلتزم أحكام الإسلام لا في نكاح ولا في غيره، وأكثر أهل البوادي لا يعرفون صلاة ولا زكاة ولا يورِّثون النساء، بل وأهل القرى كذلك. ويحكى عنهم حكايات تدل على رسوخ الجهل واندراس الدِّين، وعَوْدهم إلى مثل الجاهلية الأولى، حتى إنّ منهم من يغير بقوم معه على المرأة التي يريدها ويأخذها إلى حيّه، وتمكث معه السنين الطوال بغير عقد نكاح، فإن ولدت له ذكرًا أو ذكورًا أرسلوهم إذا كبروا إلى عشيرة المرأة ليأتوا بالعقد. ويحدث أن يغير أحدهم على امرأة غيره فيأخذها لنفسه، وتفتخر المرأة المنهوبة على نساء الحي بأنّها أُخذت بعكر الباروت (تعني دخان البارود) لا بالبخور عند القاضي. ولم يبلغنا أنّه كان لأهل هذه البلاد عهدٌ بعد صدر الإسلام ظهر فيه العلم والتعليم وأقبلوا فيه على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكف الأيدي عن سفك دماء بعضهم بعضًا، وإجراء أحكام الشرع لغلبة البداوة وتناسل أجيالهم في الجهل، رئيسًا ومرؤوسًا. وهم ينكرون الإيمان بالغيب وبالملائكة والنبيّين والجنة والنار والقيامة والثواب والعقاب، وفيهم من ينكر البعث. وما زالت أحكام الجبت والطاغوت تنتشر بينهم وتتمكن من ضمائرهم، وأيّدها أمراؤهم الجاهلون، الآخر يتبع الأول، فلا يُرجى تركهم لها بدون جهاد. 

وأنا هنا أنقل عن المصدر؛ وكما يقال: "ناقل الكفر ليس بكافر". ومن قبيل التأكيد ليس إلا، أثبت هنا المصدر الذي عدت إليه في اقتباس هذا النص، والذي يعود لعلوي بن طاهر بن عبدالله بن طه الحداد في مؤلفه: الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها، طبعة سنغافورة عام 1359هجرية/ 1940ميلادية، ص 66

بصدد بقية المناطق الجنوبية، لم أقف على أيٍّ من الباحثين اليمنيين أو الأجانب، يذكر أنّ لديه نسخة ما من نسخ الأعراف القبلية لأية منطقة من مناطق الجنوب اليمني أو المشرق (باستثناء الجوف).

أمّا بشأن علاقة القضاء العرفي وعلاقته بالشريعة الإسلامية؛ فيمكن القول، بناءً على العديد من الدلائل والقرائن، أنّ الحال متشابه جدًّا في مختلف المناطق الجنوبية والشرقية. والسبب أنّ التركيب القبَلي الطاغي على المجتمع كان لا يقبل بعض الأحكام الشرعية، خصوصًا في قضايا الميراث والمنازعات حول الأرض لضعف ثقافتهم الدينية، ونتيجة التعود الذي توارثه الأجيال في حل القضايا والمنازعات لدى عقلاء القبائل والوسطاء الذين يحكمون بالعرف والتقاليد ولا يعرفون الفقه والتشريع، اعتقادًا منهم أنّ القضاء يمثل السلطة الحكومية، وبه تفرض الحكومة سلطاتها على القبائل، بينما ترى القبائل المقاتلة أنّها هي المحركة للأمور وبيدها فرض الحلّ سلمًا وحربًا، ولذلك لا تأتمر للإدارات الحكومية، ومنها السلطة القضائية.

تعامل المذهب المالكي في المغرب

على الرغم ممّا يشاع عن المذهب المالكي ميله الكبير إلى تغليب النقل على العقل أو الاجتهاد، فإنّنا هنا، بشأن معالجته للعلاقة بين الشرع الإسلامي والعرف القبَلي في منطقة المغرب العربي، نجد معالجة تضع، في المقام الأول، التحكيم العقلي لتطبيق الشرع الإسلامي عبر مفهوم "المصلحة العامة"؛ والأهم من كل ذلك، حسب ما أزعم، أنّه وضع ما يمكن أن نسميه "قواعد عامة" للتعامل مع العرف القبلي في منطقة الطوارق وفي غيرها من بلاد المغرب العربي، ولم يترك ذلك بدون ضوابط عامة. ويأتي على رأس قائمة تلك الضوابط مفهوم "الردع المالي"، أي الزواجر المالية، وهو ما يطلق عليه في الفقه المالكي "العقوبة بالمال". تعني "العقوبة بالمال" أنه من فعل شيئًا من الجنايات الموجبة للعقوبة، يعاقبه السلطان أو نائبه بأخذ المال، قلَّ أو كثرَ، والعقوبة في المال أن يعاقب الجاني في المال بإتلافه عليه. 

وللعلم، أورد هذه المعلومات نقلًا عن أطروحة الدكتوراة: المجتمع الموريتاني – مدن القوافل (1591 - 1898)، للدكتور حماه الله ولد السالم، والتي أصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، مارس 2008م.  

العقوبة بالمال، في حد القصاص: الأصل في العدول عن حد القصاص في العمد إلى الدية، أنه ليس من العقوبة بالمال، ولكن الفقهاء لم يلبثوا أن اعتبروا تلك الديات المغلظة وما شابه، من أشكال الصلح المادي، وكل ذلك متضمن في باب العقوبة بالمال، على أن مدار عمل الفقهاء في هذا الشأن كانت الدية المغلظة درءًا لمفسدة صراع العصبيات الصحراوية، دفاعًا عن أفرادها الذين يرتكبون العمد. وقد جاء عن أحد الفقهاء في موريتانيا، أنّ إلزام القاتل عمدًا الديةَ للمصلحة جرى به العمل في هذه البلاد من قديم الزمان، والخروج عنه يفضي إلى الفساد، منطلقًا من أولوية العمل بالعرف على التزام منطوق الشرع؛ لأنّ عمل الناس مقدم على النص الشرعي عند مالك (رحمه الله تعالى)، ومن أراد الخروج عن العرف في هذه البلاد، فقد فتح بابَ فتنةٍ لا يسدّ، واجتمعوا على أنه لا يجوز القضاء ولا الفتوى بغير العرف، لأنه ركن من أركان الشريعة. 

ولما كان العمد في هذه البلاد كالخطأ في نفي القصاص وإلزام عاقلة قاتل العمد الدية، وإلزام أولياء المقتول عمدًا قَبولها لخوف الفتن لتعذر فرض الحق لسيبة البلاد، ويتعين الصلح فيها، فكذلك يتعين الصلح على الهدر في الدماء والأموال لجامع العلة، لخلو البلاد من سلطة قادرة على فرض الأحكام الشرعية دون أن تثير مشاكل أكثر من تلك التي تريد حلّها –"لسيبة البلاد"؛ أي لغياب الحاكم الشرعي– وتعذر جريان العمل فيها بما هو من مقتضى السياسية التي لا يجوز التعويل على غيرها في هذه البلاد السائبة، كما نص عليه الأئمة، وبه جرى عملهم في الأحكام واستقرّ لهم الفتيا. وإذا كان العمل قد جرى فيها بهدر أموال المتناهبين وهدر دم القتلى، فذلك ممّا يراعي الإطار العام للمسألة، وهو الفهم السياسي بدل الانحباس بين الجزئيات، وهو مسلك ضئيل الفائدة. 

يذهب هؤلاء الفقهاء الذين يُفتون بجواز هذه الزواجر والضوابط التي تتعارض مع الشرع الإسلامي، بأنّهم في ذلك يعتمدون على المذهب المالكي القاضي بأن "الضرورات تبيح المحظورات" و"مراعاة مصالح الناس وسد الذرائع". 

ولا يقتصر وجود العقوبة بالمال ومتعلقاتها على البلاد الصحراوية ضمن المجال الموريتاني الحالي، بل يبدو أنّه كان حاضرًا وبقوة في جبال الأطلس الكبير الغربي في مغرب القرن السابع عشر الميلادي على الأقل. وثمة تشابه كبير بين المغرب المذكور وموريتانيا، في سبل العيش والنظم الاجتماعية، وكذا الوضعية السياسية، وهو ما أفضى إلى أشكال من التوافق، وخصوصية النظر الفقهي في كلتا المنطقتين. 

فلا قصاص في هذه البلاد السيبة، إذ لا سلطان فيها يقيم الحدود والأحكام، لأنّ القصاص يؤدّي فيها للتقاتل. 

اجتهاد الشيخ عبدالله العلايلي

في بحثه القيم "في التراث والشريعة"، يستند د. حسين مروة إلى الشيخ عبدالله العلايلي الذي يجتهد في معالجة العديد من القضايا الخلافية في التشريع الإسلامي، ليقدم، في الأخير، رؤيته إزاء حلها، منها قضية "الحدود الجزائية" التي تهمنا هنا في هذا المقال الصغير –وأكرر– المضغوط جدًّا. 

يقول شيخنا العلايلي –والكلام لحسين مروة– إنّه يطالعنا، هذا الشأن، بأحكام هي نتاج نظرة جديدة في الحدود، جزائية كانت أم جنائية، وإنه وصل إلى هذه الأحكام من جمع أكبر قدر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومقارنتها مقارنة منهجية، استخلاصًا لعلتها، إضافة لمنفعتها، وإنّ الرأي الذي يقدمه هنا لم يقل به فقيهٌ من قبل، وإنّما أومأ إليه الماوردي إيماءً لا يكاد يبين، (واستنادًا) إلى أنّ القرآن كثيرًا ما أجاز إعمال العقل إعمالًا خالصًا، يدخل (الشيخ العلايلي) في قضية الحدود (القصاص)، ويضع المبدأ – الأساس في القضية، وهو: أنّ العقوبات المنصوصة في الشريعة العملية ليست مقصودة للشارع بأعيانها حرفيًّا، بل بغَاياتها. وعلى هذا المبدأ، يؤسس كل اجتهاداته في قضية الحدود. ويمكن تلخيص هذه الاجتهادات بأن تطبيق العقوبات المنصوصة يحب أن تسبقه الروادع المحتمل أن تؤثر في تحقيق الغاية من تشريع الحدّ دون المبادرة الفورية إلى تطبيقه بعينه؛ أي إنّ اللجوء إلى تطبيق الحدّ بعينه، إنما يكون في حالة واحدة، هي إخفاق كل الروادع تلك.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English