تجريف المناهج بدواعٍ سياسية ومذهبية

جريمة تحول دون توطين المعرفة وإنتاجها
أحمد عبده سيف
November 11, 2022

تجريف المناهج بدواعٍ سياسية ومذهبية

جريمة تحول دون توطين المعرفة وإنتاجها
أحمد عبده سيف
November 11, 2022

يُجمِع التربويّون وعلماء الاجتماع على أهمية التعليم ودوره في التنشئة الاجتماعية، وخاصّة إذا كان محكومًا بفلسفة تربويّة تعليميّة ضابطة تكون مرجعًا لتجويده، وأنّه بمقدار ما يكون مجوّدًا يستهدف تحسين مستوى تأهيل مخرجاته، يكون مستجيبًا لطموحات المجتمع في إحداث التغييرات المطلوبة، وتحقيق أهداف التنمية المنشودة، وتمتين عرى النسيج الاجتماعي وثقافته. وعلى العاملين في هذا المجال أن يكونوا مهنيين متخصصين لا تقودهم الأهواء أو النزعات أيًّا كانت (سياسية – مذهبية – دينية – أخرى) بعيدًا عن واجباتهم المكلفين بها، لأنّ المجتمع قد فوّضهم بتأهيل أجياله، وعليهم حفظ الأمانة، وألّا يسعوا لانتهاك حقوق الناشئة، وفي مقدّمتها حقّهم في طريقة التفكير والاختيار المتناسبين مع طبيعة العصر، ومع ميولهم وقدراتهم وخبراتهم ورغباتهم.

ولقد كان الحرص يقتضي من العاملين في العقود الماضية، أن يعملوا دون تسييس أو وصاية، وأن يرفضوا ويكشفوا ما يكرّس من توجيه سياسيّ يخدم مآرب الحكام وتُنتهَك به حقوق الناشئة، لتكون المخرجات مستسلمة، ومكرّسة للتفكير الغيبي الذي يجعل كلًّا منها قالبًا متماثلًا مع غيره، يبني به الحكام جدران تسلطهم على المجتمع ومقدراته.

ولم يكن الرفض إلَّا من باب الإيمان بأنّ حق التعليم يمثّل همًّا مجتمعيًّا يطال كل فرد وأسرة، ويفترض به أن يكون بوابة المجتمع التي تضمن تحقيق التأهيل والتدريب المناسب لكل فرد، (لكلٍّ بحسب إمكاناته وقدراته وميوله) بما يساعده على النموّ المتوازن الذي يحقّق له الرضى، ويمكّنه من المشاركة في الإنتاج، ويوفّر له مردودًا مناسبًا يحفظ له كرامته وإنسانيته، ويُمكِّن المجتمع من الاستفادة منه.

كما كان ذلك واجبًا يقتضي الدفاع عن حقّ المجتمع بملك السلطة والنظام؛ لأنّ من يستخدمه فيهما مجرد أُجَرَاء، وعليهم أن يهتمّوا بمصالح المجتمع وثقافته، لا أن يسعوا لانتهاكهما وتجريفهما لضمان بقائهم متسلطين، فالأفراد زائلون والشعب باقٍ.

ثم إنّ المجتمع بذلك لا بسواه، سيتمكن من إعادة تنظيم حياته وَفقًا لمقتضيات العصر التي ترفض استمرار التفكير الغيبي، وتلحّ على التنشئة وفقًا للتفكير العلمي والإبداعيّ، وتدفع الأفراد لإعادة التشكل وإعادة تنظيم البنى الاجتماعية بما يحقّق المزيد من التماسك في عالم اليوم، تحت ثقافات مطلبية تشكل بتكاملها ثقافة وطنية مرنة تستعصي على محاولات انتهاك الهُوية الوطنية الجامعة، وتقوم على أساس المواطنة المتساوية المسنودة بالعدل، والمكفولة بالقانون الذي يتيح للجميع التشارك بالسلطة والثروة، في ظل تكافؤ الفرص التي تجعل من المساهمة في الإنتاج بوابة وحيدة لتحقيق القبول الاجتماعي، واحتلال المكانة المناسبة فيه، ولا تسمح بالتسلط أو الوصاية أيًّا كانت تعللاتها المستولدة من ثقافات بالية وأوهام متوارثة.

ثم لأنّ التوجيه السياسي أسلوب يلجأ إليه مغتصب السلطة، ويسعى لاحتكارها، واستغلال ما ادّخره المجتمع من عوامل القوة في مؤسساتها المختلفة للحفاظ على بقائه في سدّتها. ونظرًا لحاجته لتبرير بقائه، يسعى لتحقيق قَبولٍ اجتماعيٍّ ما، يمارس التوجيه السياسي عبر كل مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة والإرشاد والشباب والرياضة و...، ولا يسمح بمعارضته أملًا بتصنيمه، وحرصًا على إعادة توجيه اهتمامات الرأي العام نحو تمجيده والتزلُّف له أملًا بمغانم أو لتجنُّب مغارم، مستعينًا بمن يُمالِئه ويداهنه، ومنها ما يردّد اليوم على لسان الكثيرين بأنّ (الحوثيين أنقياء، والمتحوِّثين فاسدين!)، في وقت يعيش فيه العالم في عصر الانفجار المعرفي والثورات العلمية المتلاحقة!

واستخدام التوجيه السياسي في مؤسسات التعليم والمجتمعات المدرسية عبر المناهج والكادر والوسائل والأنشطة، تمثّل أبشع صور القهر والعدوان على الناشئة والمجتمع لما يمثّله من إكراه المتلقي على إلغاء حقّه في التفكير العلمي كمدخلٍ لبناء القناعة أو تبرير الرفض. وهو لذلك، وباستخدام نظرية التعليم البنكي، يُكرِه المتلقي منذ صغره على استخدام التفكير الغيبي الذي يجعله متقبِّلًا لما يُقدَّم له كمسلَّمات وعليه أن يكون قابلًا وموكلًا غيره بالتفكير بدلًا عنه، وألّا يُلقي بالًا لِمَا إذا كان ما يتلقّاه له وظيفة في حياته أم لا، أو لو كان يتجافى ذلك مع ما يعيشه ويعايشه في عالم اليوم، فما عليه إلّا أن يكون خزينة معلومات ومعارف تجريدية، وعليه استدعاؤها (بالتذكر) عند الطلب والتذكر، وهو -بحسب هرم بلوم المعرفي– أدنى درجات السلم المعرفي التي تعلوها درجات خمس؛ هي الفهم والتطبيق والتحليل والتركيب والتقويم، في وقت أخذت فيه المجتمعات النامية والمتقدمة الأخرى بنظرية التعليم الحِواري، التي تجعل من المتلقّي محورًا للعمليات والأنشطة التعليمية والتربوية، وتقدِّم للمتلقي مناهجَ ديمقراطية تراعي احتياجاته المبنية على قدراته وميوله ورغباته التي تساعده على أن يكون ناجحًا في حياته العملية.

والتوجيه يلغي حقّ المتلقي في المناقشة المتحررة من سياط الإرهاب، وحقه بالاختيار، ويلغي أو يضعف قدراته على التفكير العلمي، كما يولِّد لديه تفكيرًا تواكليًّا ضارًّا، يجعله تِرْسًا في آلة من يُوجِّهه، ولغمًا متفجِّرًا عند ملامسته بعد نزع فتيل الأمان منه!

وتشتد مخاطر التوجيه السياسي حين يفقد المجتمع كل إمكانيات الاستفادة من قدرات وخبرات ورغبات وميول (لو أحسن التعامل معها عند التنشئة)، كما تحرم، هذه المخاطر، المتلقيَ من التميز المستحقّ في أحد تخصصات العصر المطلوبة، وتعجزه عن مساعدة المجتمع بتوطين المعرفة وإنتاجها، في وقتٍ تعيش فيه مجتمعات العصر سِباقًا محمومًا على قاعدة الاستثمار في الإنسان الذي بات يشكّل وسيلة التنمية وغايتها في آن، وباتت المجتمعات تحرص على تحقيق أمنها القومي عبر وسائط لا تُلقي بالًا لما كان سائدًا من أسلاك شائكة في طريقها.

كما يحوِّل التوجيه السياسي السباقَ من التنافس الإيجابي بحثًا عن المعرفة والتميّز لتعزيز الانتماء، إلى سِباقٍ لنيل الحظوة وإثبات الولاء، ولو كان على حساب مصالح المجتمع وأمنه.

وبناء على ما تقدّم؛ يغدو التوجيه السياسي المكرّس، عدوانًا على حقوق المجتمع، وإصرارًا على إعاقته، وتآمُرًا على حاضره ومستقبله، وجريمة تحول دون توطين المعرفة وإنتاجها، وتمنع رأب الأصداع التي أصابت ثقافة المجتمع الناتجة عن ادعاءاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، كما تمنع وحدة الصف وحشد الإمكانات المطلوبة لمواجهة أعداء الأمة!

ثم لأنّ البديل المستحق هو باتباع التربية السياسية المبنية على قواعد التفكير العلمي، وتساعد الفرد على التفكير السليم، والتفاعل الحرّ مع الأفكار الإنسانية، والمشاركة الهادئة في المناقشة، وصولًا إلى الإقناع أو الاقتناع، وتعزّز الثقة بالنفس، وتعلّم آداب الحوار، ولا تلغي الآخر بل تحسّن التعامل معه، وتنمّي حبَّ الاطلاع والبحث، وتعوّدهم على احترام الاختلاف وعلى احترام رأي الأغلبية، وتدرِّبهم على القيادة والقيادة الجماعية، وعلى خدمة المجتمع، وتفتح مداركهم على الفكر الإنساني، وعدم انتقاص الحقوق، وتنمّي قيم النقد الموضوعي والنقد الذاتي، وأن يكون النقد للأفكار، وليس للأشخاص.

والمقصود بالتربية السياسية هنا ليس الأدلجة على أفكار بعينها أو فلسفات محددة، بل بالانفتاح على الفكر الإنساني بشكل عام، مع الاهتمام بترسيخ قيم الديمقراطية كأسلوب حياة، تضمن تطبيع الفرد ليكون مواطنًا مستنيرًا في قادم حياته، يدرك حقوقه ويتمسك بها تحت ظل القانون، ويدرك واجباته ويبادر لتأديتها طواعية.

كما أنّ من قيم الديمقراطية كأسلوب حياة، أنّها تُمكِّن الفرد من التأهيل والتدريب المتناسبين مع احتياجاته وقدراته واستعداداته وميوله بالقدر الذي يحقِّق الاكتفاء ويضمن له حياة كريمة؛ لهذا فالتربية السياسية المتزنة والمشاركة الديمقراطية في التعليم والتعلم لا يتحقَّقان إلّا بتعليم مجوَّد محكوم بفلسفة تعليمية راشدة تجعل التعليم استثمارًا لا خدمة، وذلك لا يتحقق إلَّا في ظلّ نظام ديمقراطي يحمي حق الجميع بالعدل والمساواة والشراكة المتكافئة، ويكفل توسيع قاعدة الحاضن الاجتماعي لتوطين المعرفة وإنتاجها من جهة، ويشكّل الضامن لاستمرار النظام السياسي من جهة ثانية.

ولمّا كان ذلك حقًّا من حقوق المواطنة، وقد ظلّ مستلبًا، فلقد بقيَ أملًا وطموحًا تقف دون تحقُّقه معضلات ومؤامرات وصعوبات جَمّة، زاد من صعوبتها ارتفاع نسب الأمية في المجتمع، وعدم نضج قوى المجتمع السياسي وتجنّبها تبنِّي هذا الهمّ الكبير، حيث راحت تسارع الخُطى للقفز على السلطة متأثرة بنوازع راوحت بين القبلية والأمميّة وما بينهما، كما تشكّل بعضها الآخر بحكم تقاطع مصالح قوى اجتماعية تشرنقت داخل مخيلات (مذهبية، سلالية، مصلحية، ...) وأقنعت نفسها بأنّها تعيش معركة بقاء، وعليها أن تحافظ على امتيازات نالتها بغفلة من الوعي، أو بتدليسٍ استثمرَ الجهل السائد، كما تقاطعت مع إرادات خارجية تماهت معها، وكانت مدفوعة للارتماء بأحضانها، بحكم مصالحها أو لارتهانها لقوى وأنظمة خارجية لا تخلو من رغبات الاستعمار في (استغفال) كل من يجده أمامه.

ولما كانت التنشئة الاجتماعية عملًا وطنيًّا تنهض بأعبائه كل مؤسسات المجتمع الرسمية والمدنية المختلفة بأداء تكاملي يستهدف تحقيق مقاصد وغايات فلسفة التعليم، فقد أصبح بذلك عملًا يتجاوز قدرة مؤسسات التعليم، ويتطلب أداءً متناغمًا تنهض بتبعاته بقية المؤسسات وَفقَ أداء مخطط وهادف ومنسق، وهو أمر انتهكته وكرّسته الأنظمة السابقة والحاليّة بمقاربات غير موضوعية وعشوائية، لم ولن تُسفِر عن النتائج التي ترجوها. ومرجع ذلك إلى نظرة المتسلطين على الحكم إلى التعليم باعتباره خدمةً لا استثمارًا في الإنسان ومن أجله. ولذلك لم تهتم إلّا بتصدر أسماء رموزها وأمجادهم الموهومة عناوينَ الموضوعات المقررة في مختلف الموادّ القابلة لذلك، كالعلوم الدينية واللُّغوية والاجتماعية بما يقدّمها بمستويات من التفخيم والتعظيم غير المستحق.

وكل قارئ حصيف لتاريخ القرن العشرين وحتى الآن، سيجد أنَّ كلَّ نظام ساد قد اعتمد التوجيه السياسي، وسيكتشف أيضًا بأنّ كل نظام تلاه لم يأخذ العبرة ممّن سبقه مهما تعلّل بالمبررات الواهية التي لم تراعِ مصالح المجتمع وتصون وحدته وترتقي بثقافته.

فالنظام الإمامي البائد مثلًا، تسلّح بحق إلهي (مُدَّعى)، كما تسلّح بمحاربة كل جديد وكل محاولة لتحديث التعليم، وفرض العزلة، وقد ساد طوال نصف قرن أو أكثر، ومع ذلك فقد باءت محاولاته لتصنيم عهده بالفشل، فكان هدف تحديث التعليم وراء صياغة كل أهداف ثورة سبتمبر62م.

كما إنّ النظام الانقلابي الذي أتى بعلي عبدالله صالح رئيسًا كمثال ثانٍ بالرغم من استمراره قرابة ثلاثة عقود ونصف، لم يقرأ التاريخ ولم يستوعب دروسه، وراح يكرّس التوجيه السياسي متنكّرًا لمصالح المجتمع وخائنًا لوحدته ومتآمرًا على ثقافته ومنقلبًا على الاتفاقات السياسية التي أبقته بسدة السلطة، متماهيًا مع جنون عظمة تلبّسته، ومتكئًا على وهم مذهبي ودعم إقليمي ...، وساعيًا عبر الرقص على رؤوس الثعابين (حسب منطقه)، إلى تسخير إمكانات الدولة لمصلحة نظامه الذي اختزله بشخصه حتى ظنّ أنّه دخل التاريخ عبر المناهج المقررة وغيرها، وبأنه بات يمتلك ناصية المجتمع واتجاهات تفكيره واهتماماته ويعيد تشكيلها كما يشاء ومتى شاء بالتوجيه السياسي الذي كرّسه عبر مناهج التعليم ووسائط الإعلام ومنابر المساجد، وبأنّه أمّن مستقبله ومن يليه من أبنائه، فكانت خاتمة حساباته كما عرفها الجميع!

واليوم ها نحن نجد أنفسنا أمام تجربة (جديدة – قديمة) تكرّر نفس مآسي العهد الإمامي المندثر، وأنّها برغم عمرها القصير وظروف الحرب العدوانية على المجتمع بطرفيها المتسبِّبَين بها، ها نحن نرى تكريسًا أكثر بشاعة وتهورًا لا يراعي مصلحة المجتمع.

وإنّ تغيير المناهج وانتهاك حقوق العاملين وعمليات الإحلال غير الموضوعية وغيرها من التعسفات، لن تجدي نفعًا على مدى المستقبل، وعليه أن يفهم بأنّ إصراره على ذلك وعلى استغلال وسائط الإعلام ومنابر الجوامع لن تنتج رضا مجتمعيًّا عنهم، ولن يستطيعوا مذهبة المجتمع كما يشاؤُون أو يحلمون، وأنّهم بكل ذلك لن يوقفوا التغيير التحديثي المطلوب، مهما استمرّت محاولتهم لإعاقته، وأنّهم سيضاعفون فقط التكلفة على المجتمع وقتًا وإمكانات ليس إلَّا، فهل يرعوون؟! وليذكروا بأنّهم سيبقون جزءًا من مجتمع أكبر، يفترض لبقائه الوئام، وأنّ ما يكرِّسونه لا يقود إلى تهيئة الظروف لمثل ذلك.

•••
أحمد عبده سيف

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English