الحصار الفكري والتشظي المعرفي

المثقف سجين حالة مَرَضيَّة يفرضها المتحاربون
د. عصام واصل
November 27, 2022

الحصار الفكري والتشظي المعرفي

المثقف سجين حالة مَرَضيَّة يفرضها المتحاربون
د. عصام واصل
November 27, 2022

يعاني اليمن منذ أكثر منذ سبع سنوات، حالةً من الحصار الاقتصادي الذي أنهك البلد كله، وعلى الأصعدة كلها اجتماعيًّا وصحيًّا وتعليميًّا وثقافيًّا، غير أنّ حصارًا أشدّ وطأة منها هو الحصار الفكري الذي خلق حالة من الركود والتيه والتشظي المعرفي وأعاق مواكبة نتاجات العالم الإبداعية والفكرية والعلمية.

منذ العام 2011، دخل اليمن في حالة من التيه والفوضى، وقد عزّز ذلك أنّ البلد في الأصل قائمٌ على كيانات غير مؤسسية تسيطر عليها القبيلة والنافذون من عتاولة المال والجاه والنفوذ العسكري والأمني. وقد نتج عن ذلك الوضع انغلاقُ البلد مرحليًّا على الحراك الثقافي محليًّا، إذ تمّ إغلاق الكيانات الثقافية وإصابة دور النشر ونقاط بيع الكتاب بالشلل التام، كما تم إيقاف الصحف (والصفحات) الثقافية كليًّا -على قِلّتها- أو تحويلها إلى صحافة ذات صوت واحد وتوجّهٍ واحد يفتقر إلى صفة الثقافة بمفهومها الواسع.

وقد استتبع هذا الشلل غيابٌ كليّ لمعارض الكتاب، ووصول المطبوعات الدورية الخارجية إلى البلد مؤقّتًا، ثم ترسّخ الأمر بعد نشوب الحرب، وإدخال البلاد في حالة الحصار الخانقة التي صاحَبَها وما يزال، منعٌ لكلِّ ما يمكن أن يعزِّز الهُوية أو يفتح آفاق المثقف في البلد على المحيط الثقافي.

إنّ إغلاق البلد بهذا الشكل قد أغلق معه وصول مصادر الثقافة والفكر كافة إلى القارئ المثقف، الذي بات ينتظر كتابًا ما صدرَ في أي بقعة من بقاع العالم بأيّ شكل، غير أنّه لا يصل إليه، وإن وصل فهو وصولٌ قاصر ومحصور، وقد يحصل المثقف على نسخة إلكترونية من كتابٍ ما أو مجلة معينة بعد أكثر من خمسة أعوام من صدورها، إذا تفضّل أحدٌ ما في بقعة من بقاع العالم بتحويله إلى صيغة PDF ورفعه على الشبكة الإلكترونية، وهو رفعٌ يراه صاحبه ترفًا، لكنه عند المثقف اليمني ضربٌ من فتح كوة يطل منها السجين على العالم.

إنّ المثقفَ اليمنيّ سجينُ حالة حصار مريضة ونرجسية وشيزوفرينيّة يفرضها عليه المتحاربون بكل صلف المحاصِر العصابيّ الذي يتلذّذ بسجينه.

إنّ منع وصول الكتاب والمجلة والدورية إلى بلد تم طحنه وسحق إنسانه على مدى سبع من السنوات العجاف، لَأمرٌ يدعو إلى وضع جملة من التساؤلات عن كيفية تفكير المحاصِر وعن كيفية البناء النفسي لكلِّ من يتسبّب في هذا المنع؛ لأنّه منعٌ له تبعاته التي تفرض العزلة وترسخ أركانها، وتقوّض البنية الثقافية لبلد برمته، إنّه منعٌ أثقل الكاهل وطمس الهُوية ودفع العقل إلى كثيرٍ من التعب والخفوت والتلاشي، إذ لم يعد كل ما يتوفر من معرفة قديمة داخل البلد كافيًا لتقليديته أو لعدم مواكبته لما يحدث في العالم، فالمثقف بحاجة إلى الكتاب الجديد والمجلات الثقافية والفكرية التي تصدر بشكل متتابع.

ترى ما مدى تبعات العزلة التي يعاني منها المثقف والمفكر اليمني جراء منع وصول المطبوعات من العالم إليه؟ وجراء منع إقامة معارض الكتاب في بلده؟ ترى ما مدى الفقدان الذي تعرّض له؟ وهل يعوّضه معوّض ما؟ هل يدرك المحاصرون قسريًّا فداحةَ ما يقترفونه؟

بات اليمني يتوق إلى الكتاب أكثر من توقه إلى الخبز والماء والدواء والأمن والسلم.

لقد خلق الحصار واقعًا مؤلمًا، وجعل المثقف اليمني حبيسًا له، فجرّاء الحرب وتبعاتها، انهارت العملة المحلية، وبعد انهيار العملة المحلية أمام العملات الخارجية، يمكن وضع تساؤل هو: هل باستطاعة اليمني اقتناء أيّ مطبوعة تأتي إليه من الخارج؟ إنّها الحرب وما استتبعها من الحصار والانغلاق الحادّ، الذي أدّى إلى انهيار القدرة الشرائية، وجعلها شبه منعدمة، ومع ذلك ما يزال هذا المثقف ينتظر "عالم الفكر"، و"علامات" و"العربي" و"عالم المعرفة"... إلخ، ما يزال ينتظر معرض صنعاء للكتاب، ما يزال ينتظر إعادة فتح منافذ بيع الكتاب واستئناف دور النشر لنشاطها المعهود قبل جائحة الحصار التي كسرت في الروح أشياء كثيرة لم يعُد بالإمكان ترميمها أو إصلاحها.

فقبل جائحة الحصار كان يُقام في اليمن أكثر من معرض كتاب محلي ودولي، وفي أكثر من محافظة يمنية، في صنعاء وتعز والمكلا... إلخ. وكان المثقف قادرًا على الشراء وبكميات كبيرة، وكانت مكتبات المؤسسات التعليمية عامرة بالمطبوعات الجديدة، لقد توقّف الجديد عن هذه المكتبات، وصار طالب العلم يعاني معاناة كبيرة لعدم وصول الجديد إلى مكتباته، فقد توقّفت مكتبات الجامعات والكليات عند إصدارات ما قبل 2011م، وبعدها لم يتم تزويدها بأي جديد، وبات الباحث عاجزًا عن الوصول إلى المعلومة المتوفرة في الكتب والدوريات غير المتاحة على شبكة الإنترنت. وهذا ضرب آخر من جنايات الحصار الظالم وغير العادل، إنّها مأساة مركبة تكشف سوْءَة المتصارعين، وتفضح النفاق الدولي الذي يقف متفرِّجًا، رغم وعيه التام أنّ ما يحدث مجرد عبثٍ مطلق وغير منطقي وغير مبرر، إنّه عالم منافق ومبتزّ.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، فقد بتنا نقرأ عن نتاجات المؤلف اليمني التي ينشرها خارج اليمن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكننا عاجزون عن الوصول إليها أو اقتنائها، إذ لا يمكن إيصالها إلى اليمن، فاليمن ــــكما أسلفناــــ مغلق ومحاصَر ومنهَك، والمؤلف ذاته لا تصله نسخ من نتاجه الفكري الذي نشره.

لقد بتنا نعيش عزلة مركّبة ومربكة، وبات المتصارعون يتلذّذون بما نعانيه، وبما اقترفه حصارهم، الذي طال كل شيء، وكسر كل شيءٍ جميل كنّا نمتلكه، ولم يعُد بالإمكان ترميمُه بسهولة، ولا إعادة الوضع إلى ما كان عليه بكل سلاسة، لقد تمّ تدمير كل ما يمكن تدميره، وتم استهداف كل ما يمكن تصوره وما لا يمكن تصوره.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English