الحُديدة مدينة كل الغربان

قضت على كلّ الطيور، وأبقت للناس البعوض يفتك بهم!
محيي الدين سعيد
February 20, 2023

الحُديدة مدينة كل الغربان

قضت على كلّ الطيور، وأبقت للناس البعوض يفتك بهم!
محيي الدين سعيد
February 20, 2023

منذ سنوات طويلة، كانت مدينة الحديدة وادعة وفيها من الدعة والراحة والهدوء ما فيها، ولا نسمع فيها سوى هدير الأمواج وهي ترتطم بالشاطئ، فتصدر صوتًا محبّبًا إلى النفس، قريبًا من الخيال، ولكن مثل كل المدن الساحلية التي تقع على شواطئ البحر الأحمر وبحر العرب، وصلت إليها في سنوات معينة غربان تنتقل عبر السفن المحملة بالبضائع وتحط في الموانئ وتستقر في المدن وتتكاثر بشكل جنوني.

قبل سنوات طويلة أيضًا، قام الباحث نبيل عبادي -صاحب مركز عبادي للطباعة والنشر- بعمل دراسة بيئية حول الكثير من الطيور وعلى رأسها الغربان، وصدرت هذه الدراسة عن دار نشر عبادي نفسه لاحقًا في صنعاء، وقد وقع الكتاب في يدي ولفت نظري الكثير من الأمور الغريبة حول الغربان.

ومن هذي الأمور، أنّ الغربان ليست كلّها على نمط واحد، وإنّما تختلف باختلاف المكان، فغربان المناطق الجبلية تتميز بالحجم الكبير، وهي غير عدوانية، ونسبة ذكائها أقل من نسبة ذكاء غربان المناطق المنخفضة وغربان المناطق الساحلية.

إذن، لدينا ثلاثة أنواع من الغربان الجبلية؛ غربان المناطق المنخفضة وهي متوسطة الحجم، وغربان المناطق الساحلية وهي الأصغر حجمًا والأكثر ذكاءً وعدوانية وتكاثرًا، ولديها قوانين ونظم حازمة تحكمها أعراف وتقاليد ما تسمى الغربان الساحلية، ولديهم محاكم يتمّ فيها إصدار الأحكام بمختلف أنواعها، ومنها حكم الإعدام قتلًا بالمناقير حتى الموت، إذا خالف بعض الغربان القوانين، وعلى سبيل المثال: غراب يحاول أخذ أنثى من صاحبها، والمعروف أنّ الغربان ملتزمون ببناء أسرة تتكوّن من ذكر وأنثى وأفراخ حتى يصبحوا أقوياء وقادرين على الاعتماد على أنفسهم وتبقى بينهم روابط أسرية وتكاتف كأسرة صغيرة، وكذلك تكاتف وتعاون بين أسرة الغربان الكبيرة، ولذلك يشبِّهون أصحاب الموتورات في مدينة الحُديدة بالغربان حينما يتعرّض أحدهم لاصطدام أو حادثة، ومن غير المهمّ أن يكون هو الغلطان أو هو الضحية، فالغربان ينصرون ويتناصرون مع بعضهم بالحق والباطل.

وبعد نزولنا الميدانيّ إلى مدينة الحُديدة وبحكم أنّي عشت في الحُديدة زمنًا، فقد ذهبت إلى جهات كثيرة لاستطلاع الآراء، وخاصة أنّ القادمين لقضاء إجازاتهم في هذي المدينة لا شكوى لهم غير نعيق الغربان من مطلع الفجر حتى ما بعد الغروب، ولا يخلوا الليل من أصواتهم ونعيقهم، وإن بشكلٍ أقلّ تقريبًا، وهذا أقل الأضرار. ونأتي هنا لنوضح ما تفعله الغربان من تدمير ممنهج للبيئة، فقد قضت الغربان على جميع أنواع الطيور، وأخلّت بالتوازن البيئي الى أبعد الحدود، فلم نعد نرى أو نسمع الطيور والعصافير بأشكالها وألوانها؛ لأنّ الغربان اعتبرتها فريسة سهلة لها، ولقد خلت السواحل من النوارس والبط وطيور البحر. أضف إلى ذلك الإخلال بالبيئة نفسها من حشرات وغيرها، فقد قضت الغربان على كلّ الكائنات الحية الصغيرة التي تعمل على التوازن البيئي، وتركت للناس البعوض وما ينقله من أمراض فتّاكة، والغربان نفسها تحمل الكثير من الأمراض المتنقلة، بحكم قذارتها الطبيعية؛ فهي تعتمد في غذائها على أبشع أنواع البقايا والمزابل، وتتنقل في المدينة بكل حرية فوق رؤوس الناس؛ ولذلك لا تتفاجأ إذا لقيت فوق رأسك بعض القذارات وقد سقطت من السماء. وأودّ أن أزيدكم من الشعر بيتًا، بحكم أنّ غرفة نومي كانت بجوار عمود كهرباء يستخدمه غرابان للتعشيش، وكنت أُبعِد العشّ محاولًا منعهما من ذلك، ولقد تفاجأت أكثر من مرة بالاعتداء عليّ بالمنقار والمخالب في الرأس إلى درجة السقوط من قوة الارتطام، حتى إذا بدر منك تحرّش عن غير قصد بالغربان، فأبشر بالعدوانية عاجلًا أو آجلًا، وقد تجد مثلًا الغراب يُلقي فوق رأسك ببرازه. طبعًا، مشاكل الغربان هذي ليست فردية، ولكنها جماعية، وأنا هنا أسرد قصتي معها، وهناك قصص يشيب لها الرأس، ولذلك أصبحت قضية الغربان ليست قضية مدينة، بل قضية دولة. ولا شك أنّ هناك كثيرين سيقولون نحن اليوم في غنى عن هذي المشاكل، والحقيقة أنّ مشكلة الغربان البيئية قضية وطنية مهمة في مدينة كالحُديدة التي تعاني من مشاكل كثيرة، ليس الغربان أولها والكهرباء آخرها، وهذي القضية كتبت عنها موضوعات مختصرة ولم يلتفت لها أحد، وحان الوقت للالتفات إليها، سواء من الدولة أو المنظمات الدولية.

وكانت الأستاذة رحمة علي أول من دلّتنا إلى زيارة مدرسة بلقيس، حيث يتكاثر الغربان في فصل الصيف، وأرتنا رفوفَ المدرسة التي تقع فوق أبواب الفصول وفوق الشبابيك على كثرتها، وكلُّها أعشاش لتكاثر الغربان على مدى سنوات طويلة، دون عمل أيّ حلّ، وطبعًا أشارت إلى أنّ الغربان يقاومون أيّ تصرفات ضدّ تكاثرهم وبيئتهم بعدوانية وشراسة، ويعرفون الناس بأشخاصهم، ولا تدري إلّا وقد انقضّ عليك بمنقاره ومخالبه ليبطش بك من خلال الضرب فوق الرأس، وهو اعتداء مميتٌ أحيانًا. طبعًا، هذا التكاثر تخيّله في كل مدارس المدينة وأشجارها وأعشاشها.
وقالت عائشة: "إنّ الغربان متكاتفون أسريًّا؛ فالذكر والأنثى يبنون العش بالمشاركة بين الاثنين، ويتناوبون حمايةَ العش وتوفير الطعام للأفراخ أو أفراد الأسرة، والتي تتكون من 3 إلى 4 أفراخ تقريبًا".

وتضيف عائشة: "إنّ تمتُّع الغربان الساحلية بالذكاء والعدوانية والتكاتف، يجعلها قادرة على التكاثر وحماية نفسها وأفراخها، وعدوانها على الأفراد والجماعات البشرية أمر واضح، وكلنا نشكو منها".

أمّا الأخ عفان الذبحاني، فيقول إنّ "هدية الغرابي دودة" حسب المثل الدارج، وإنّ "ليس كل ما يلمع ذهبًا"، ولكن الغربان الساحلية سبق لها أن قد جمعت ذهبًا حقيقيًّا من أقراط نساء وسلوس وغيرها، ووضعتها في أعشاشها من أجل تقويته وأكثر مكان مهيأ لذلك هو "الكمبات" والأعمدة الكهربائية، والجميع يعلم أنّ مهندسي الكهرباء أول ما يصعدون للبحث عن خللٍ فنّي، يقومون بتفتيش أعشاش الغربان عن الذهب، وقد حالف الحظ الكثيرين منهم، وهذا معناه أيضًا أنّ شبكة الكهرباء مكانٌ مثاليّ للغربان للتكاثر وممارسة العدوان على الناس الذاهبين في حالهم والراجعين، فهنا الناس جميعًا يصبحون أعداء شخصيين للغربان.

الغربان قد فرضوا هيبتهم على جميع سكان المدينة ووضعونا أمام خيارين لا ثالث لها، وهي إما نحن أو أنتم في الحديدة، ولقد رضينا بكل أذاهم وعدوانيتهم؛ ولذلك نحاول أن نكون مسالمين معهم إلى درجة أنّنا لا نرفع رؤوسنا إليهم أو إصدار أيّ إشارة أو عمل يوحي بأنّه سلوك عدواني عليهم. وتضحك مغادرةً بكل دلال، أنثى الغراب.


أمّا مهندس الكهرباء وليد القديمي، فيقول أنّهم لطالما تعرّضوا للاعتداء من الغربان بعد إزالة الأعشاش من فوق كمبات الكهرباء، لما تسبّبه أعشاشها من مشاكل وتماسّ كهربائي.

وطرحنا الكثير من التساؤلات على جهات مختصة دون مجيب.

وكان هناك محاولات فردية قام بها مواطنون لقتل الغربان من خلال تسميم أماكن القمامة، فتموت أول دفعة من الغربان ثم تدرك الغربان الأخرى الأمر، فتتوقف عن الأكل من ذلك المكبّ تحديدًا.

وهناك نكتة مشهورة عن الشخصية الوطنية الفكِهة علي عنتر، وهو عائد بالطائرة، والغراب يقف على النافذة ولم يستجب لكلّ المحاولات في إبعاده من بعد ما تملكهم الخوف من اقترابه من المحرك وهم خائفون من حدوث كارثة، فهمس علي عنتر للغراب فطار، فقالوا له: بالله، ماذا قلت للغراب؟ قال: قلت له إنّنا الآن على وشك الدخول الى أراضي جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية.

وهناك تحديدًا جهود جيش الجنوب سابقًا للقضاء على الغربان في عدن والمدن الأخرى، مثل: الشيخ عثمان، والتواهي، وخور مكسر، بالقنص، ولكنّها تجربة لم تنجح ولم تكتمل وكانت فاشلة، وهناك من أشار إلى أنّ الصين ابتكرت حبوبًا تشبه القمح، فأول ما يقوم الغراب بالتقاطها بمنقره وبلعها لها، تنفجر في داخله، ولكننا لم نرَ ذلك أو نتحقّق منه.

بالنسبة لصندوق التحسين في المدينة فهذا آخر اهتماماتهم، وهناك جهات حكومية في المدينة، يعتبرون الموضوع مثيرًا للسخرية بحدّ ذاته.

وقمنا بعملية بحثٍ واسعة عن منظمات تدعم حلّ الحفاظ على البيئة قبل الحرب وبعدها، والجميع يقولون: ليس وقت هذا الموضوع تحديدًا.

وعندما سألنا مراكز الأمومة والطفولة حول الغربان، أكّدوا بأنّ الكثير من الأطفال تعرّضوا لاعتداءات جسيمة من الغربان، قد تصل إلى إحداث ثقوب بالجمجمة وفَقْء العيون لبعض الأطفال وهم يلعبون بأمان في بيوتهم أو شققهم، وخاصة أنّ المدينة تمتاز بالطقس الحارّ والجميع يفتحون الشبابيك لدخول بعض الهواء، وهنا تحدث مشاكل كثيرة ليس أقلّها رؤية الغربان لكلّ ما يلمع داخل المنزل، وقد يصادف أنّ الذي يلمع هو قرط أو خاتم من الذهب أو غيره، وبذلك يتحوّل الغراب إلى لص مع سبق الإصرار، وتكون خسارة الأسرة مضاعفة.

وتجوّلنا بحديقة الشعب التي تقع وسط مدينة الحُديدة، والتقينا بعددٍ من الأدباء والمثقّفين، وناقشنا معهم موضوع الغربان وتحوّل المدينة الساحلية الدافئة الجميلة إلى جوقة من النعيق طوال اليوم؛ ممّا أقلق راحة الناس وسكينتهم العامة، وعكر صفو المرضى وكبار السنّ، ولا ندري إذا كان الناس في الحديدة بمختلف أعمارهم قد اعتبروها سيمفونيتهم الخالدة قبل الموت.

حيث يقول الأستاذ رشدي العاقل، أنّه يفكر جدّيًّا بالرحيل من الحُديدة، ليس بسبب الكهرباء والحرّ، بل بسبب الغربان ونعيقهم اللعين، وتدميرهم للبيئة الجميلة التي كانت في الحُديدة. وأجاب الأستاذ وجيه الوجيه بأنّه ينتظر قدوم الليل كل يوم ليعيش لحظات من الهدوء والسكينة مع أطفاله.
وتعتبر الأشجار في المدينة، كما قال محمد فتيني، الملاذَ الآمن والبيئة الخصبة للغربان، مضيفًا: "والمشكلة أنّه من الصعب إزالة كل ذلك، إذن، يكون الغربان قد نجحوا من تجريدنا حتى من الشجر".

وناقشت الزميلة إبتسام، موضوع قدرة الغربان على تحمل درجة القيظ المرتفعة في الصيف طوال سبعة شهور كاملة، دون أن تؤثر على حياتهم أو تكاثرهم أو عدوانيتهم المخيفة، وتقول بأن الغربان قد فرضوا هيبتهم على جميع سكان المدينة ووضعونا أمام خيارين لا ثالث لها؛ وهي إما نحن أو أنتم في الحديدة، ولقد رضينا بكل أذاهم وعدوانيتهم، ولذلك نحاول أن نكون مسالمين معهم إلى درجة أنّنا لا نرفع رؤوسنا إليهم أو نصدر أيّ إشارة أو عمل يوحي بأنّه سلوك عدواني عليهم. وتضحك مغادرة بكل دلال، أنثى الغراب.

نحن هنا نودّ أن نضيف أنّني عاصرت عدة زيجات للغربان جوار العشّ الذي بجوار غرفة نومي، ولاحظت الوفاء بحذافيره والتعاون المشترك والوقوف بجوار بعض والدفاع عن بعض، بمعنى أنّها سلوكيات لا يلتزم بها الكثير من البشر، وأتذكر غرابًا ذكرًا كان يعيش وحيدًا فوق سقف العمارة ويتمتّع بالرشاقة والخفّة، ولم يحاول يومًا التواصل مع أنثى صاحبه أو الاستيلاء على مشاعرها أو الدخول معها في علاقة جنسية وأولاد، ولم يدخل بعلاقة عاطفية غرابية إلّا بعد أن مات الزوج المسكين بطريقة غريبة، حيث وجدته ميتًا في أحد الصباحات الصيفية. أيضًا، شاهدت أحكام إعدام حضوريًّا لغربان خانوا العهد، وهي محكمة جزائية أسرع وأدقّ تنفيذًا من بعض المحاكم الجزائية في بلادنا، وشاهدت ثورة عارمة مرارًا للغربان ضدّ قتل زميل أو زميلة لهم من أحد البشر، فتمتلئ السماء بالنعيق والحزن والغضب العارم.

لقد فقدت مدينة الحُديدة السكينةَ والهدوء، وفقدت الطيورَ بكلّ أنواعها من الحمام والعصافير والجوالب والنوارس والبط وطيور البحر التي ترافق مراكب الصيادين وأشرعتم وهي عائدة إلى المرافئ بعد رحلات بحرية شاقة، البحر لم يعد ذلك البحر، والسواحل فقدت طيورها وأنسها وشجنها، الناس لم تعد ترى سوى نوعٍ واحدٍ من الطيور المزعجة للعين والأذن والعقل، وهي الغربان.
لم تبقَ الحديدة للغربان من الطيور فقط، بل أيضًا للغربان من البشر الذين دمّروا شوارعها بمشروعات فاشلة وكهرباء مفقودة، ممّا أتاح للغربان الاستيلاء على كل البنية التحتية للكهرباء من أعمدة وأسلاك لبناء أعشاشها وفنادقها وشركاتها الخاصة. وهنا، لا ننسى أنّ الغراب هو الذي علّم قابيل مواراة جثة هابيل.

الغراب الساحلي خاصّة يتمتّع بذكاء خارق تكاد تقرّبه من درجة ذكاء الإنسان.

•••
محيي الدين سعيد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English