اليوم العالمي للمدن

ثلاث مدن تأسرني
عبدالرحمن بجاش
October 31, 2022

اليوم العالمي للمدن

ثلاث مدن تأسرني
عبدالرحمن بجاش
October 31, 2022
Photo by: Ali Al-Sunaidar - © Khuyut

البداية من هناك، حيث توزّعت مفردات وجزئيات أيام بدايات الحلم الذي لم يزل حلمًا، هناك "تعز" حيث أودع الله أجمل صباحاته مشاقر وأشعة شمس تنسكب بعد غبش الفجر، قادمةً من ظلمة الليل تنير الدروب والنفوس.

زرت مدنًا كثيرة، فلم أجد صبحًا كصبح تعز. وأنا أحتفظ بكل مفرداتها وجزئياتها وعمومياتها.

يبدأ غبش الفجر، يتململ لحظة أن يرسل عبدالرحمن قحطان صوته في الأنحاء داعيًا الناس إلى رب العالمين، يهبّون تلبية للنداء، وأهب أنا وراء آثاري هناك بجانب العمود السابع من أعمدة جامع الغفران.

يتدفق سيل المؤمنين، وتتدفّق روحي قبلهم، تستكشف في أعماقهم مدينة في وسط القلب كله تستقبل وتحتضن الذاهبين والقادمين، لا تسألُ أحدًا: من أنت؟ ولا من أين أتيت؟ بل ترحب بالجميع إلى مدينة الجميع.

عند لحظات الفجر الأولى تدبّ الحياة كما تبدو عشوائية، لكن العين القادرة على تفحص التفاصيل تدري كيف تشاهد الصورة كنهر الليل الرقراق، تنبع من على كتف صبر، هاطلة من صالة فتشرب كأس قهوتها، وفي مقهاية "مخسو" وتتذوق أول فنجان بُن، وعند الأبي وعلى أول كرسي ترشف أولى رشفات الشاي الملبن.

تنزل من عقبة العرضي تتدحرج رويدًا حتى إذا وصلت الباب الكبير، أضاءت طريق الطيبين والفقراء وباعة الكدم والكدر، وكلما شعّ ضوءُها أكثر تدفّقت أقراص الخبز وفتح علي مدرة مدرته، وذهب عامل المخبز بأول أقراص الخمير إلى عمق النار.

بعد أن تنسكب إلى روحك الطمأنينة، تخرج طفلًا يذهب إلى أبواب الدكاكين التي تتثاءب للصحو، تتحسّس بأناملك الجدران، فتسمع صدى صوتك حبًّا وعشقًا لغصن السلام وسلال "البلس" النازلة من حضن الجبل على رؤوس الصبايا فوق بير الماء والدنيا "غباشش".

ليس مثل صبح تعز صباح، حينما تتدفق الحياة إلى شرايين المدينة فترى رجال الله يذهبون بحثًا عن أرزاقهم في كل اتجاه. صباحات مدينة تتنفس حبًّا وعشقًا للحياة، مدينة تسبّح بحمد ربها من على منارة لا تزال تسكن في الخيال "المظفر" وتاريخ ممتد إلى الأشرفية توزعها الأمكنة المليئة بالحكايات الجميلة.

وإذا ما صعدت على خيلك النار باتجاه الجبال فيسحط رحالك في صنعاء، حيث الحسن أسّس له مقامًا. أجمل ما في صنعاء لياليها، خاصة ليل الخميس، حيث الجدران تنطق، وحمرة الستائر الشفافة يهفهفها النسيم، ما عليك سوى أن تتحسس بيدك جدران مررت بجانبها لتسمع قصة حياة هي مدينة، وعلى جدرانها وفي منحنيات قديمها يجلس التاريخ والتراث يحدثونك عن مدينة هي أصل المدن.

وإذا ما عنَّ لك أن تشرب من نهر مدينة، فاذهب إلى قاهرة المعز، لتشرب من نيلها لتعود إليها ألف مرة، حيث أودع الله مدينة مقدرةً باذخة على الضحك.

مدينة تستطيع أن تضحك، مدينة لا يعرف الألم إليها طريقًا. كل ما فيها يضحك حتى جدرانها.

يبدو أنّ من كتب أول نكتة في الكون كان مصريًّا. مدينة لن نظيف لها شيئًا إذا تحدثنا عن تفاصيلها. يكفي أن نشير هنا إلى قدرتها على الضحك في أسوأ الأحوال.

تأسرني المدن الثلاث صبحًا وليلًا وضحكة.

 

•••
عبدالرحمن بجاش

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English