حين بخسْنَا الصينَ أشياءَها

لم يكن تاريخًا سهلًا وسورًا بلا مشاقّ
د. أحمد سنان
April 29, 2024

حين بخسْنَا الصينَ أشياءَها

لم يكن تاريخًا سهلًا وسورًا بلا مشاقّ
د. أحمد سنان
April 29, 2024
.

ونحن تلاميذ في مطلع سبعينيات القرن الماضي، بدأنا نسمع حكايات عن عجائب الدنيا السبع. ومن المصادفات أنه لم يعلق حينها في أذهاننا غير سور الصين العظيم. ترافقت تلك المعلومة المعجزة بالنسبة لنا مع بدء تنفيذ مكتب الكويت والخليج في عدن، مشروعَ تسوير مدرستنا في الخساف. وكان امتداد السور كبيرًا جدًّا وفقًا لقياساتنا، ذلك قبل أن نتعرف على الأسوار الحقيقية للنهابة.

اكتشافنا معلومةَ سور الصين العظيم تلك، شكّلت لنا فتحًا مبينًا، فبدأنا بمقارنته بسور مدرستنا القادم، ونضع استنتاجاتنا وتحليلاتنا وآراءَنا وتقديراتنا العلمية المختلفة، كيف لا ونحن نرى سور مدرستنا يتنامى يومًا بعد يوم، ويزيد ارتفاعًا حتى لم يعُد بمقدورنا لا نحن ولا أكبر كبير فينا أن يتسلق الدرب نحو الخارج بدون أن يتواطَأ معنا (البطاولة) من الداخل، ويحضر لنا (السيري)، حتى أبواب المدرسة صارت حصينة كأنها أبواب قلعة (الحشاشين)، وبعد تسلق السور لا معين من الخارج غيرَ القفز ونحن وحظنا. 

تجويف بهيم

ومثل كثيرين غيرنا، ثبتت مفردة الصين في أذهاننا، ولكأن أحدهم قام بغرسها عنوة في ذلك التجويف البهيم. ولا أعرف بالضبط كيف كان لزميلنا وجارنا النحيل حسن اليافعي-أو الخلاقي، كما يقول والده (رحمة الله عليهما الاثنين)- أن ينحت منها لازمة لكلامه، فكان كلما رأى شيئًا أو شخصًا لم يستحسنه أو لم ينال اعجابه أطلق عليه صفة صيني. حينها كانت السوق المحلية بالكاد، بدأت استقبال بعض المنتجات الصينية.

وقد ترافق ذلك مع انحسار المنتجات الأوروبية عن الأسواق، وشحة المواد المختلفة، وكان على الناس أن يتعودوا على منتجات الأصدقاء الجدد. قام زميلنا بعمليات مقارنة لكل ما هو صيني أو من دول المعسكر الاشتراكي بما هو غربي وإنجليزي على وجه التحديد، وغالبًا ما كانت المقارنة تميل لصالح الأخيرة، ولكن الصين والمعسكر الشرقي هم أصدقاؤنا، وعلينا أن نتفهم الموضوع. 

هذا التبرير لم يرضِ زميلنا حسن، بل زاده تمسكًا بتقديره أن هذا "كلام صيني"؛ أي لا يساوي شيئًا. طبعًا صديقنا حسن اليافعي هذا، ليس له من يافعيته غير اللقب، فوالده عبدالله الخلاقي سكن عدن ضمن الموجات الأولى التي قدمت إلى عدن من مختلف الأرجاء بحثًا عن لقمة العيش والحياة الكريمة، ومع مرور الزمن افتتح لنفسه مع شريكه بقالة في الخساف، لا تزال قائمة هناك حتى اليوم؛ أي إنّه لا يرتبط بصلة، بالموجات اللاحقة من القبائل التي قدمت بعوامل السياسة والحصول على نصيب من السلطة، وهو لا يجتمع مع القادمين الجدد إلا بمفهوم الأصل اليافعي لا بمفهوم الصراع السياسي، وهو مثله مثل كثيرين من المندمجين في المدينة لا يمكن التفريق بينه وبين العدني، لا من حيث اللهجة ولا من حيث طقوس الحياة اليومية وعاداتها وتقاليدها، على عكس الكتل البشرية الجديدة الوافدة من كل صوب، التي لا تتمكن أي مدينة من هضمها وإعادة صياغتها. 

ومِن حسن أخذنا هذا التندر على الأشياء، فصار كلُّ شخص لا يروقنا صينيًّا بالضرورة، وكل الأشياء التي لا تجد عندنا هوى صينيةٌ كذلك، ولو كانت من أجود ما تكون الجودة.

لقد ساعدتنا المنشورات والمواد الإعلامية الصينية الكثيفة التي هطلت علينا كالمطر في تلك الفترة، في التعرف على هذا (السور العظيم)، وصرنا كغيرنا الذين سمعوا به أو قرَؤُوا عنه أو حتى رأوه بأمّ أعينهم. ولكن لا يعرف الكل أنّ هذا الصرح الإنساني هو الوحيد الذي يمكن رؤيته من القمر، وأنّه واحد من عجائب الدنيا السبع، مثله مثل أهرامات مصر، وتاج محل بالهند، وحدائق بابل المعلقة. 

الحياة تغيّرت واندثرت كثيرٌ من المفاهيم، وبرزت غيرها، وزالت دول وظهرت أخرى، صار العالم كله يتنفس الهواء الصيني. وقد يتزحلق أي شخص في أي قرية في الكون ثم يلاحظ أن سبب ذلك قطعةٌ صينية من أي منتج قد يتخيله أو لا يتخيله.

وهذا السور العظيم يرتفع وينخفض، يتلوى وينعطف على طول حروف سلاسل جبال يانشان وينشان الممتدة شمالي الصين من الشرق إلى الغرب. يعرف في الصين باسم "سور العشرة آلاف لي"، ويمتد مسافة 12000 "لي"؛ أي حوالي 6000 كم، ويقطع خمس مقاطعات صينية. 

ولم يبنَ السور دفعة واحدة، ولم تكن الصين دولة موحدة حينها، كما لم يكن بناؤه من باب الترف الإمبراطوري. وقد شرع بناء السور في عهد الممالك المتحاربة في القرن الخامس قبل الميلاد، حين شُيدت مدن كثيرة كبيرة نسبيًّا على سهل الصين الأوسط. وكانت هذه المدن عرضة للنهب على أيدي البدو العائشين في شمال سلاسل جبال ينشان ویانشان، الذين كانوا ماهرين في ركوب الخيل والرماية، يضربون ويختفون كالريح، يشنون الهجمات المفاجئة ويبدّدون شمل صفوف قوات المشاة المقاومة، فشادت ممالك يان وتشاو ووي وتشين أسوارًا على طول السلاسل الجبلية لصدّ أمثال تلك الغزوات. وفي القرن الثالث قبل الميلاد، أمر الإمبراطور تشين شي هوانغ، الذي غلب الممالك الست الأخرى على أمرها وأصبح الإمبراطور الأول للصين الموحدة، أمر جنراله منغ تيان بربط هذه الأسوار وتمديدها، وقام بهذا العمل جنود وفلاحون يُعدّون بثلاث مئة ألف، إلى أن اتخذ السور شكله الدائم. وجرت عليه أعمال التعزيز والترميم في عهود الممالك المتعاقبة. وفي عهد أسرة مينغ (القرن الـ١٤ - القرن الـ۱۷)، جرت على السور أعمال إصلاحات كبرى في ١٨ مناسبة. 

مفاهيم مندثرة

إنّ بناء سور بمثل هذا الطول والفخامة، فوق قمم الجبال والأجراف والوديان، لَعَملٌ مذهل عجيب، ومثله مثل الأعمال الجبارة والعظيمة في التاريخ الإنساني لم يكن بدون تضحيات وآلام جسام، وارتبطت به كما بغيرة حكايات وأساطير. فقد ظهرت مع السور حكايات مؤثرة عديدة تعكس البؤس الذي حاق بالناس أثناء انجازه. ولربما كانت حكاية منغ جيانغ نيوى هي الأشهر من بينها، وهذه الحكاية حكاية ما لا يحصى من النساء اللائي سُخر أزواجهن على يد الإمبراطور تشين شي هوانغ في بناء السور. كانت منغ جيانغ نيوى قد انطلقت، بعد سنين طويلة لا تطاق من البعاد عن زوجها، تبحث عنه. ولكن أين يمكن أن يكون في سور بهذا الطول؟ وقادتها قدماها في الأخير إلى ممر شانهايقوان وعلمت بمفارقة زوجها للحياة، فأخذت في النواح والعويل، فتصدّع قسم من السور كان يرقد تحته الجثمان، جثمان حبيبها. فتكسر قلبها وألقت بنفسها في اليم. وقد كانت هناك صخرة عليها نصب تذكاري بين الأمواج الهادرة، ويعتقد أنه مقبرة منغ جيانغ نيوى. وقد بُنِيَ معبدٌ تخليدًا لذكراها، لا يزال إلى اليوم في شانهايقوان. 

مذ ذلك الحين، وعلى الرغم من أنّ حبيبنا حسن قد فارق هذه الفانية في عدن، بعد رحلة اغتراب طويلة من دون أن تتغير وجهة نظره عن الصين، فقد جرت مياه كثيرة في حياتنا. شهدت البلاد ما شهدت من حروب السلطة وعليها، ومن نكوص وتراجع في كل شيء.

الحياة السياسية والاقتصادية العالمية تغيّرت بدورها، واندثرت كثيرٌ من المفاهيم، وبرزت غيرها، وزالت دول وظهرت أخرى، واستمرت الصين قُدمًا ولم يعُد أحد يصف أيّ شيء بأنه (صيني)، صار العالم كله يتنفس الهواء الصيني، وقد يتزحلق أي شخص في أي قرية في الكون، ثم يلاحظ أنّ سبب ذلك قطعةٌ صينية من أي منتجٍ قد يتخيله أو لا يتخيله.

بين قيام الصين الشعبية وثورة 26 سبتمبر 13 عامًا، وبينها وبين استقلال عدن عن بريطانيا 18 عامًا؛ بدأت الصين بالمنجل اليدوي، واستمر اليمن على الثور والقطران والبندقية، وتوقفت عدن عند لحظة السقوط والرحيل. 

نجحت الصين في غزو العالم اقتصادًا وثقافة، وبلغت الفضاء قوة وعلمًا، وتعلمت الفصاحة السياسية وإملاء الشروط وصارت ندا للجميع. ونجحنا نحن في المحافظة على هُويتنا الدموية، حتى بلغنا بها الآفاق، وحوّلنا كل مدينة إلى قرية، وكل قرية إلى مقبرة! إزاء كل هذا، أراني وزملائي مدينين بالاعتذار للصين، فقد بخسناها أشياءها. 

•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English