من مشير إلى "خادم"

ذاكرة الطفولة الأولى، وللقصة بقية
رضوان فارع
December 7, 2023

من مشير إلى "خادم"

ذاكرة الطفولة الأولى، وللقصة بقية
رضوان فارع
December 7, 2023
.

لم نتوقع يومًا أن نفترق أو أن تتلاشى صداقتنا، ففي الوقت الذي تتغير فيه الحياة تتطور وتتقدم، كان هناك تشظٍّ يضرب المجتمع اليمني، كنت أنا وأصدقائي أحد ضحاياه، واليوم تقف اليمن كلّها ضحية هذا التقسيم والتفرقة التي لم تشهدها من قبل.

تقترب اليمن من عقد متأصل من الصراع الذي نتج عنه فجوة يستحيل ردمها ومعالجة آثارها في المدى المنظور؛ فجوة قسّمت اليمنيين إلى "خادم" وقبيلي، سيد ومزين، وناقص... وهكذا تكثر الأوصاف وتتباعد المشاعر الإنسانية بين الناس. أذكر أنني لم أسمع جُملة: "يا خادم" (التسمية التي يطلقها المجتمع اليمني على المهمشين)، أو "هؤلاء أخدام" في طفولتي التي عشتها في الريف اليمني عندما كان أبناؤه لا يوزعون صكوك الأنساب فيما بينهم.

صديقي مُشير 

في ثمانينيات القرن الماضي ومع بداية التسعينيات، كانت طفولتنا في اليمن تتسم بالسعادة، كنا كأصدقاء نغامر معًا لا نعرف أحدًا إلَّا باسمه، أما اليوم فالناس يتباهون بانتسابهم العرقي وطبقاتهم، بعد أن عبثت نخب الحكم وأدوات الحرب بطرائق تفكير المجتمع.

أتذكر كيف كانت تمر أيامنا شبيهة بتلك التي نُشاهدها في برامج الأطفال، نلعب ونضحك ولم يكن هناك فرق بين ضحكاتنا، ولم يخطر ببالنا أنه سيأتي يوم تتعالى فيه ضحكة (القبيلي) وتنطفئ غيرها.

أتساءل اليوم ونحن نعيش في المدن المكتظة بكل تناقضاتها: هل كانت قُرانا المعزولة تمنحنا السوية الأخلاقية لنرى الجميع بمنظور واحد؟ روحي لم تزل رهينة الطفولة البعيدة التي لم تتربَّ على التمييز العنصري المتعاظم اليوم في المدن والأرياف معًا.

كأطفال في الأرياف كنّا دومًا نذهب نجري نسبق الأمهات، ونركض أمامهن نراقبهن ونلعب في الوادي، كان مفهومنا عن المجتمع مقتصرًا على الجدات وما نسمعه من سمايات منهن، لم تحكِ لنا جدتي يومًا عن أحد المهمشين من ذوي البشرة السمراء، لكنها روت لي عن ذلك الإمام الذي تكبر ظلمًا وتقطر سيفه بدماء اليمنيين.

أمضينا فترة طفولتنا في الوديان، نلعب "القرقر"(1)، أولك شرنق"(2)؛ نلعب الكرة. كان سمير أبرعنا في اللعب وأرشقنا في الحركة، ومشير أثقلنا، بعد أن تتعب أقدامنا وتقرقر بطوننا، نفترش الأرض. يستأذن مشير بعد أن سمع صوت أمه تدعوه للغداء، نقوم جميعًا لتوديعه أو نرافقه إلى بيته، يرفض مشير أن نغادر، نجلس جميعًا القرفصاء على باب البيت، تجلب لنا أمنّا ورد فتوتَ سمن، أو فتوت حقين (شفوت)، كانت الخالة ورد تكرر لنا: "كلوا الحاصل".

كأطفال في الأرياف كنا دومًا نذهب نجري نسبق الأمهات، ونركض أمامهن نراقبهن ونلعب في الوادي، كان مفهومنا عن المجتمع مقتصرًا على الجدات وما نسمعه من سمايات (حكايات) منهن، لم تحكِ لنا جدتي يومًا عن "الخادم"، لكنها روت لي عن ذلك الإمام الذي تكبر ظلمًا وتقطر سيفه بدماء اليمنيين، لم تُزِح مشيرًا عن مجلسنا يومًا، فقد كان يحفظ حكايات الجدة عن ظهر قلب. لم نكن نميز بين الجدات إلَّا بمن روت سماية أفضل من الأُخرى، لا أدري هل وقتها وصلت إلى قريتنا النظرية الاشتراكية، وتنظيم اليسار، أو أننا كنا نعيش في مجتمع النبي محمد؟!

كان مشير محمد محسن صديقي وأخي لا نفترق إلَّا مع قدوم الليل أو سفري أنا إلى تعز المدينة ومنها أعود إلى عُزلتي مُحمّلًا بالدهشة، تتزاحم في عقلي القصص والروايات، أجتهد في تكرارها حتى لا تتملص من ذاكرتي، لأحكيها لمشير وابن خاله سمير عبده سعيد، أحاول أن أكون دقيقًا في الوصف، أصوّر له المشهد، يضحك مشير، وأحيانًا يتهمني بالكذب والتهويل، تتقاطع أصواتنا بين منكر ومصدق، فقد كانت المدينة ببناياتها، وحوانيتها، ومقاهيها، عالمًا سحريًّا خرج من مصباح علاء الدين. 

لم أستطع يومًا وأنا الصحفي أن أُبدع في رسم التفاصيل بذاكرة أنضج من تلك التي تشاركها معي مشير، ذاكرة فسيحة لا تؤرقها خطابات أبناء السيد، والقبيلي والترف المثقل بالعار الذي أورثوه للتابعين لهم. 

 صف أول.. الصدمة الأولى

بدأت رحلتنا الصباحية الممتدة إلى فترة الظهيرة تتقلص، بدخولنا مرحلة الدراسية الابتدائية. دخلت المدرسة بصحبة مشير وسمير، ولكوننا نسكن في قرية من ثلاثة منازل متجاورة في عزلة يسكنها ما يقارب 1500 شخص، فقد كانت حياتنا بمثابة العيش في بيت واحد تقطنه أُسرة كبيرة.

كُنّا أطفالًا لا أحد ينظر إلينا بعين الانتقاء، ولا يُرسم لنا تفاصيل تميزنا عن غيرنا لا لونًا ولا شكلًا. كنت ومشير وسمير نرتص في الصف ثلاثة أطفال بين أربعين طفلًا، نجلس ملتمّين على الأرض مقيدي الحركة، ولكننا في الوقت نفسه نتشوق لمعرفة أشياء جديدة.

دخل لأول مرة المُدرس، عرف عن اسمه مباشرة، قال: "أنا الأستاذ مدحت". مدحت! اسم لم يمر على أذني هنا، أو هناك في أرض العجائب حيث كنت أُسافر مع والدي.

بعد أسبوعين من انتظامنا في المدرسة اعتدنا أسلوب أ. مدحت المنضبط، كان يُحضّرنا كل صباح يسأل عن المتغيبين من الطلاب، كنا نحبه ولكننا نهابه أيضًا، نخاف تلك اللحظة التي نقف فيها أمام السبورة كما حدث مع عبده محمد علي الذي حضر المدرسة بدون حقيبته التي نسيها بالقرب من البقرة التي تربيها أمه، جلس ليشرب الحليب. 

وفي يوم الاستماع، الحصة التي نكرهها كُلّنا، رمى مشير قلمه تجاهي، ضحك عندما رآني أكظم ضحكتي، أشار لي أن ألتفت إلى علي أمامي الذي استسلم للنوم، فالتفت أ. مدحت تجاهنا بعد أن ارتفع صوت مشير وتجاوز الهمس: "من اللي بيتكلم؟ إيه الفوضى دي في الصف؟!"، صاح أحد الطلاب: "يا أُستاذ هذا (الخادم)".

تجمدت الملامح في وجه مشير عندما نظر الطلاب جميعًا إليه، كانت عيناه تدور تبحث عن ذلك الصوت المغمور الذي قال: "خادم"؛ صوت لم نألفه بيننا. يبدو أنه الطالب الجديد القادم من القرية التي تقع أسفل الوادي، أذكر أنه جاء ليسلّم علينا صباحًا في أول يوم له في المدرسة، لكن والده صرخ فيه وهو يُشير إلينا كان أشبه بالطاهش الذي نسمع عنه. صوّب عينيه الجاحظتين باتجاه مشير، بدا مختلفًا عن آبائنا، يرتدي الجنبية مثلهم، لكنه يميلها على جانبه الأيمن، من أجل التمييز الطبقي. منعه أبوه من اللعب معنا، هكذا استنتجنا، فكلما كان يمر من أمامنا يشيح بنظره، لم نعبأ به، لكنه في ذلك اليوم وعندما قال: "خادم"، عرفناه جميعًا، عُرفت القصة في المدرسة كلّها.

نحن (أخدام) لازم نشتغل من أجل أن نعيش، لازم نشقى، ونمشي في الطريق الذي رسمته لنا قبائلكم؛ كل واحد في طريقه، وأنت أيضًا سافر واجلس لك مع عيال القبائل، أنت قبيلي معك أرض، معكم تجارة ما يصلحش تُماشي (خادم)".

بدا الأُستاذ مدحت مستغربًا من سكوتنا وتحديقنا للطلاب ولمشير، فقال:

- يعني إيه خادم؟!

لم يرد أحد منا، بقينا صامتين، كنا نسمع عن (الخادم) لكننا لا نعلم من هو، اعتقدنا أنها مهنة، أنها اسم أو كُنية ما، لم نعرف مقدار الثقل الذي تحويه هذه الكلمة ووبال وقعها إلَّا عندما تساقطت الدموع من عيني مُشير ونكس رأسه. 

أحس الأستاذ مدحت أنّ ما قاله ابن السيد نور كبيرًا، فحاول تدارك الأمر، فنادى مُشيرًا وقال بصوت دافئ وبلكنته المصرية: 

- إيه الفوضى دي يا مشير يا واد، دا انت اسمك مشير، تعرف إيه يعني مشير يا مشير؟ دا أكبر قائد عسكري في مصر.

لم يوبخه، لكنه صرفنا من الفصل، وأخذ مشيرًا معه إلى غرفة المُدرسين المصريين، ومنه خرج مشير فرحًا، لعله خرج بحلوى أو طباشير. 

اليوم الثاني تأخرنا أنا ومشير عن دخول الصف، والأستاذ المصري كان بيده عصا، صاح علينا:

  • أنتم يا ولاد خشوا الصف. 

ثم لحق بعدنا، وضرب ظهر مشير ضربة خفيفة، الذي دخل الصف يبكي.

الأسبوع الثاني وما زال مُشير "خادمًا" 

مررت ببيت مشير، ناديته، لم يرد، كررت، فجاء صوت أمه من الحوش: 

- مُشير مريض ما شيجيش المدرسة اليوم. 

ذهبت إلى المدرسة أنا وسمير وحدنا، كان يومًا مملًّا، مرّ اليوم الثاني، مرّ أسبوعٌ كامل على غياب مشير، عاد في الأسبوع الثاني برفقتنا، لكنه لم يكن مشيرًا الذي نعرفه، جلس في الصف هادئًا، خرجنا في الفسحة، تجمهرنا أمام بائع السكريات عندما قام أحد الأولاد برمي مشير على الأرض، وقال له:

- لَمُو (لماذا)، تزاحمنا يا "خادم"؟!

حينها لم أدرِ بنفسي إلَّا وأنا أنقضّ على الولد؛ تعاركت معه وشججت رأسه، بكى الولد فسحبوني واستدعوا ولي أمري، لم أهتم كثيرًا بنهر توبيخ أخي الأكبر لي طوال الطريق، أردت حقًّا أن أذهب للاطمئنان على رفيقي مشير وسمير.

في ذلك اليوم بالذات، انتهت علاقة مشير بالمدرسة، ولا أُنكر أنني كنت أختلق أعذارًا لأتغيب عن المدرسة، لكن لم أتمكن من ذلك، فأمي أفشلت كل خُططي. 

حافظت أنا ومشير على صداقتنا، كنت أعود من المدرسة لأتغدى في البيت، وبعدها أغادر مسرعًا لألتقي بصديقي، ونذهب للعب.

كبرنا وحافظنا على صداقتنا معًا، حاولنا أن نجد أوقاتًا نجتمع فيها، لكن مشير كان يعمل، وكان كثير النزول إلى مركز المديرية، حيث انضمّ للعمل مع أخيه الكبير في العِتالة (حمّال أشياء ثقيلة).

غاب مشير كثيرًا عن القرية، حتّى أنني عاتبته:

- أين أنت يا صاحبي؟ كلما أمرّ للبيت أدورك يقولوا نزلت السوق.

 ضحك مشير، قائلًا:

- قدنا أشتغل مع أخي محمد الورداني. نحن (أخدام)، لازم نشتغل من أجل أن نعيش، لازم نشقى، ونمشي في الطريق الذي رسمته لنا قبائلكم؛ كل واحد في طريقه، وأنت أيضًا سافر وأجلس لك مع عيال القبائل، أنت قبيلي معك أرض، معكم تجارة ما يصلحش تماشي (خادم).

بدا مشير غريبًا لا يشبه ذلك الفتى الذي أعرفه. 

- أيش تقول؟! نحن أصحاب وإخوة. 

- يا أخي أنا (خادم) وسأبقى خادمًا، وهذا الأمر ما يزعلني، قد تجاوزت مرحلة الزعل. ما معنا إلَّا نتقبل هذا الواقع، ولنا مجتمعنا ولكم مجتمعكم، والجميع في مجتمع واحد، ونحن أصحاب وإخوة وحبايب، لكن يجب أن تعذرنا؛ أنا وضعي مختلف عن وضعك، وضعي أجبرني على الابتعاد؛ أهلي محتاجين للقمة العيش، المدرسة ما تنفعش لمن هم من أمثالي، مهما درست أنا (خادم) بنظرهم، نحن أخدام في الهامش يا صاحبي، ونبقى أصحاب وإخوة أنا وأنت.

 للقصة بقية.

هوامش: 

1) لعبة شعبية مسائية تعتمد على رمي حجر أو "عَظْمة" أو "لفة قماش" من قبل أحد الأطفال قبل أن يختفي، ومن ثم يجري الآخرون للبحث عنه.

2) لعبة شعبية كان يلعبها الأطفال قديمًا في بعض المناطق الريفية اليمنية.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English