"المركز" فسيفساء الألوان

المهرّبون يمرّون نهارًا
جميل حاجب
December 3, 2022

"المركز" فسيفساء الألوان

المهرّبون يمرّون نهارًا
جميل حاجب
December 3, 2022

يمرّ قارعو الطبول من باب إلى باب ويجود عليهم البعض من أصحاب المحلات ببعض المال، والبعض الآخر لا يكترث، يضيفون إلى المحصول بعض ابتسامات ورقصة مجانية ويختفون، ثم تغرق ثانية في مشاهداتك المعتادة مع فنجان الشاي. هذا هو الصباح في مدينة المركز الصغيرة.

تتشكّل فسيفساء من الألوان والوجوه ممزوجة بمزمار سيارة متعجلة، في هذا المكان لا أحد كان يجرؤ أن يمشي وحيدًا، بسبب الأشجار الشوكية المتشابكة وأشجار الحصم (نوع من أشجار الصبار)، كان هناك فقط دار شامخ ووحيد بناه الشيخ حاجب بن صالح قبل مئة وخمسين عامًا أو أكثر يسمى بدار المركز، ولكن المركز موغل في القدم، إنّه أسطورة قطنها قوم في أزمنة غابرة وشيّدوا حضارة، ثم بطروا النعمة، فدعوا على أنفسهم بـ"حرب أو حراب أو رجمة من الرب"، وسرعان ما استُجيبت الدعوة بأسراب من الحراب (الدبابير القاتلة) كما تقول المرويات الأسطورية، لكنّهم تركوا لغزًا لم يحل بعد مرّ الزمن، وما زالت طلاسم الأسطورة باقية.

ظهرت أقوام أخرى وأسواق حتّى عهدٍ قريب (سوق زبد، وسوق السبت في بني شيبة، وأسواق متعددة وصغيرة في عدة مناطق مجاورة، وغربت الشمس عنها، ونشأ المركز مجدّدًا، ونشأت بضع دكاكين على جانبي طريق شق في مطلع الستينيات.

تتموضع الشمس قريبًا من المنتصف، وتهرع الأقدام نحو سوق القات (قات قدسي وصبري، وقات يأتي من نواحي صنعاء أيضًا)، ذلك ضروري للتحليق في فضاءات كاذبة لعدة ساعات إنّها من لوازم القيلولة... يحزم المراهق الأسمر بجسده الناحل حاجياته من على الأرض، حيث كان يفترش، إنّها بعض أحذية مؤجّلة وفرشاة للتلميع، وبعض التساؤلات التي لا تخلو من الشك، إنّه سعيد مع ذلك.

رُبَّ ضارّةٍ نافعة، ففي عدة عقود من حكم استبدادي مليء بالعنجهية الفارغة والتحوز على ممتلكات الشعب وثرواته، حكمٌ كرس كل شيء في خدمة مركزه المقدس مدعومًا بمشاعر وطنية متطرفة- ترى أنّ ذلك المركز مختلف تمامًا عن مركزنا هذا في القداسة، وتحول اليمن برمته إلى هامش بلا ذكر وبلا خدمات، ثم تحدث الحرب، ويتهاوى ذلك النظام البليد ويتشظى مثل جرة خزف، وتعود المدن والأرياف للظهور مجدّدًا، هي كانت ظاهرة، عدا أنّ عيون النظام لا ترى، ويزدهر المركز؛ أعني مركز الشمايا الشرقية ومدن الحجرية الأخرى كالتربة والنشمة تفوح رائحة الطعام من مطعم إلى جوار مطاعم متعددة، ويعرض أحد الأصدقاء مأدبة جميلة، قائلًا بإلحاح: لنتمرّد اليوم على الزوجات. سمك، فتة موز وسحاوق. 

تتقافز بعض القصص في البال، وأتذكر جورج أمادو ولويس سيبولفيدا صاحب رواية "العجوز الذي يقرأ الروايات الغرامية"، وأقول: لقد مرّ هؤلاء هنا بالتأكيد، واحتسوا الشاي في غروب شمس يوم مع حفنة من السياسيين المنكسرين وصيادي الكنوز الضائعة، واستنشقوا التبغ معًا في ركن مقهى هنا أو هناك. 

الروائيّ الفذّ أو الشاعر يستعين دائمًا بوجوه حقيقية إلى جانب الوجوه المتخيلة، وبمكان ملهم وهذا ما توفره مدن الريف الصغيرة، سواء كانت هذه المدن في ريف تشيلي، بوليفيا، أو اليمن وفي هذه المدينة الريفية الصغيرة والحيوية أيضًا، بوسعك أن تدخّن بكل حرية سجائر غير وطنية وتكتشف مذاقها الحلو دون الحاجة إلى ذلك الشعار الصحي المقلق (التدخين سبب رئيس لأمراض القلب)، المهربون يمرّون هنا كما في مدن الأطراف الأخرى أحيانًا في ضوء النهار. 

ولا مانع أن تستضيف الماضي قليلًا، وتدعه يتحدث عن نضالات أبناء الحجرية وسائلة المصلى وبابور "عنترناش"، وصولًا إلى دكة المعلا، ولكن أخيرًا سوف تفضّل أن تشرب كأس الشاي الإضافيّ بدون ألم وتغادر، فيما المركز يواصل حياته.

•••
جميل حاجب
شاعر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English