عن التزامات السلطات تجاه الناس في الأزمات القاهرة

العدل والتضامن والتناسبية والمسؤولية والتشاركية والمُحاسبة
عبدالرشيد الفقيه
April 13, 2024

عن التزامات السلطات تجاه الناس في الأزمات القاهرة

العدل والتضامن والتناسبية والمسؤولية والتشاركية والمُحاسبة
عبدالرشيد الفقيه
April 13, 2024
الصورة لـ: حمزة مصطفى

حينما يمرّ أيُّ بلدٍ ومجتمع بظروف استثنائية قاهرة، بصورة تؤثر سلبًا على قدرة السُّلطات الحاكمة للدولة فيها عن الإيفاء بأيٍّ من واجباتها والتزاماتها الأصيلة لضمان العيش الكريم واللائق، لكامل فئات الشعب، فثمة مبادئ ومحددات والتزامات، يتوجب أن تحكم إدارة تلك الأزمة العارضة، غاياتُها ضمانُ تحقيق العدل والتضامن والتناسبية والمسؤولية والتشاركية، بين كافة فئات وقطاعات الأمّة، أفقيًّا وعموديًّا، من أعلى مسؤول فيها، وحتى أصغر مولود وفد للتو إليها، من أجل توزيع حمولة أعباء تلك الظروف على جميع الناس، طبقًا لمعايير واضحة، ويكون من أوجب واجبات السلطات القائمة فيها، خلق وتطوير آليات إدارة تلك الأزمة، والتعامل معها، وبناء تدابير تُقلِّص زمنها وآثارها إلى أضيق الحدود، وإيجاد البدائل اللازمة لجبر ضرر الناس، ومعالجة كافة آثارها، ووضع سُبل التعافي منها.

كما يتوجب على سلطات البلد وأجهزته ومؤسساته وقياداته، كذلك، الالتزام ببرامج وخطط وتدابير تقشف صارمة، مُعلَنة، ووقف الأغلب الأعم من الإنفاق المتبع في الظروف الاعتيادية، وحصره في أضيق الحدود الضرورية، في إطار المصلحة العامة، مع الالتزام بأعلى درجات الشفافية والحوكمة والإدارة الرشيدة والنزاهة والمُحاسبة في كل عمليات الصرف في تلك الحالات الضرورية والمُلحّة، ووقف الأنشطة والفعاليات والمهرجانات، ووقف نفقات الدعاية بكافة أشكالها، وتفعيل آليات مكافحة الفساد ومنع الإثراء غير المشروع، وضبط آليات وإجراءات الأوعية الإرادية، مع فتح النوافذ أمام الناس لممارسة أدوار الرقابة والتدقيق والإبلاغ والمحاسبة، ووقف الجبايات عن الأغلب الأعمّ من الفئات والقطاعات، وتشجيع أنشطة المسؤولية المجتمعية للقطاع الخاص، وضمان حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وحرية عمل مؤسسات المجتمع المدني، وتعزيز سلطة القضاء وسيادة القانون.وبدون مبادرة السلطات، أولًا وقبل كل شيء، لفتح مسار حقيقي وفعّال، ممتثل لجُملة المبادئ والمحددات والشروط الضامنة لتحقيق العدل والتضامن والتناسبية والمسؤولية والتشاركية والمُحاسبة، فلا قيمة عندئذٍ، لأيِّ ذرائع تطرحها تلك السلطات، لتبرير عدم إيفائها بكل واجباتها والتزاماتها القانونية والأخلاقية والإنسانية، الكفيلة بضمان تحقيق غايات العيش الكريم واللائق، لكامل فئات الشعب، مهما صوّرَ لها جوقةٌ من أتباعها صدقية ووجاهة تلك الذرائع وحُجيتها، ومهما صوّروا لها تفهم الناس لها ورضاهم عنها ومباركتهم لها، ومهما تفنّنوا في نصب الشماعات المُصمَّمة لتعليق مسؤوليات الحيلولة دون قيامها بواجبها في الإيفاء بها تجاه الناس على غيرها، ومهما راهن قادة تلك السلطات على واقع رضوخ الناس وإذعانهم الجبري لمفاعيلها، وتسليمهم بسياساتها وإجراءاتها ومآلاتها.

لقد صار من الماضي، ذلك الشكلُ الكهنوتي البائد من السلطة، المؤبدة، مُطلقة الصلاحيات، المتحللة من الالتزامات والواجبات، تجاه مواطناتها ومواطنيها، وغير الخاضعة للرقابة والتدقيق والمحاسبة عن مآلات الأوضاع التي يكابدها الناس تحت سلطتها.

وإذا ما استمرت خلال الأزمات الإستثنائية للمجتمعات والدول، مظاهر الفساد والإثراء غير المشروع، وهدر وتبديد الأموال والموارد العامة، وإقامة أنشطة ومهرجانات الدعاية وإحياء المناسبات الضخمة، ومظاهر البذخ والإسراف، وتسيد العشوائية والارتجالية والفوضى المؤسسية، وانعدام الشفافية والتدقيق والمحاسبة، وازدهار اقتصاد الحرب، وفَتْحت قنوات انتقائية فئوية وجماعاتية وشللية، والتي تُؤمِّن دوائر خاصة للإنفاق والتنافع، مع تزايد حملات القمع والترهيب والتخوين والترويع ضدّ منتقديها، بموازاة حملات المديح والتبجيل لها، فإن تلك السلطات قد اختارت وقتئذٍ، أن تكون محض سلطة قمعية فاسدة، ليس بينها وبين المواطنات والمواطنين في مجال سُلطتها من رابطٍ، غير الخوف، حيث يخافون منها، وتخاف منهم، كسلطة فاقدة للشرعية والمشروعية، وللأخلاقية والقانونية والأهلية والنفعية، وفاقدة حتى لأيِّ إمكانية مُستقبلية لقبول الناس الطوعي لحكمها، يتحيّن الأغلبُ الأعم منهم أوان سقوطها، كمآلٍ حتميٍّ، لا يمكن تفاديه والحماية منه، أطال الزمن أم قصر، مهما بلغت وتعدّدت سطوة وجبروت أدوات الإكراه والتصميت والإذعان المُرتهنة لها، ومهما بلغ قوام زبانية التخوين والترهيب والترويع ، وحشود حَمَلة المباخر والمدائح، المُتفرغين لمهمات الذود عن حياضها.

إنّ السلطة في عالمنا اليومَ، من أعلى إلى أدنى موقع فيها، وظيفةُ عملٍ تعاقدية، واجباتها والتزاماتها مُحددة بتشريعات وقوانين ولوائح، توزّع الأدوار والمسؤوليات، وتحدّد المُباحات والمحظورات، وأوجه وبنود تحصيل وتخصيص وإدارة الإيرادات والنفقات، بدقة، مع خضوع كافة مسائل الموارد العامة، بقياداتها وأجهزتها ومؤسساتها وأنشطتها وعملياتها، لآليات الرقابة والتدقيق والمحاسبة والحوكمة، في إطار منظومة العقد الاجتماعي وسيادة القانون، كأساس لشرعية ومشروعية وجود تلك السلطات، ولأعمالها، حيث صار من الماضي، ذلك الشكل الكهنوتي البائد من السلطة، المؤبدة، مُطلقة الصلاحيات، والمتحللة من الالتزامات والواجبات، تجاه مواطناتها ومواطنيها، وغير الخاضعة للرقابة والتدقيق والمحاسبة عن مآلات الأوضاع التي يكابدها الناس تحت سلطتها.

إنّ إيفاء السلطات بكامل واجباتها ومسؤولياتها، لتأمين الحياة الكريمة لجميع مواطناتها ومواطنيها، دون تمييز، ليس مُجرد مُتطلب أخلاقي، توجبه المُثل والقيم الإنسانية الحضارية، كالعدل والمساواة والمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان والتعايش، وحسب، بل إنه قبل ذلك وبعده، مُتطلب براجماتي ونفعي ومصلحي، لناحية وجود السلطات ذاتها، ولناحية شرعية ومشروعية ومبررات بقائها، ولناحية حيازة قبول الناس الطوعي والإختياري بها، ولناحية استقرار المجتمعات والدول وسلامها ونمائها وازدهارها، ولناحية وضع حدٍّ لدورات الصراع السياسي والحروب الداخلية والخارجية المُدمرة، ولجهة حفظ السلم الاجتماعي الداخلي، ولناحية ضمان قوة المجتمعات والدول والشعوب، ولجهة ضمان الإدارة السلسة لحركة المصالح المشروعة بين الأفراد والكيانات والمجموعات والدول.

وتتكثّف إحدى تعبيرات نظام الدولة الحديثة، في عبارة قصيرة موجزة، بالغة الدلالة، كثيرًا ما يُردّدها المسؤولون في الدول الحديثة، في مناسبات عِدّة، تحت عنوان التواصي حول واجبات تخصيص وإدارة "أموال دافعي الضرائب"، بنزاهة ودقة، وعدم السماح بإهدارها وتبديدها، كالتزام أصيل على كلِّ موظفٍ عام يعمل على إدارة تلك الموارد العامة، كمقابل شرطي لالتزام المواطنات والمواطنون بدفع الضرائب العامة، للجهات المخولة قانونًا، مع كفالة حقهم الأصيل في الرقابة على سلطات إدارتها، وفقًا للبنود التي تُفصّلها القوانين واللوائح والخُطط والموازنات، في إطار من الضمانات أعم، يتأسس على العقد الاجتماعي والقوانين، ومنظومة سيادة القانون، الضامنة للحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لجميع الناس، يعززها التزام مؤسسات الدولة بصون حياتهم وكرامتهم وحريتهم وأمنهم وحقوقهم الأساسية.

وفي دولة المواطنة وسيادة القانون، دولة الحق والخير والعدل، فإنّ كل ما له صلة بالسلطة العامة، وبمسائل المال العام، من مؤسسات وبُنى وهياكل، ومن إيرادات، ونفقات، وعمليات، وقرارات وإجراءات وسياسات، بما في ذلك، كلُّ ما يتعلق بما على السلطات الوطنية من واجبات ومسؤوليات بناء وتطوير آليات الرقابة والتدقيق والمحاسبة، السابقة والمصاحبة واللاحقة، لكافة أعمالها، ومستويات الحوكمة والإدارة الجيدة، ومعايير ضمان الفصل بين السلطات، وقانونية وشرعية ومشروعية وجودها وأعمالها، في جميع الظروف، هي شؤون تخص عموم الناس، بصفتهم أصحاب مصلحة، ومصدرًا لشرعية ومشروعية تلك السلطات؛ لذلك، فعلمهم الدقيق بكل التفاصيل المُتعلقة بها وبأعمالها، هو من صميم حقوقهم، والالتزام بكل ما يكفل ذلك الحق وضمانه، هو من صميم واجبات أيّ سلطة، في جميع الظروف، دون أيّ استثناء، ويكون كل ذلك، أوجب وأدعى وأكثر إلحاحًا، خلال الأزمات والظروف الاستثنائية والقهرية.

وما عمدت سلطة إلى التملص من تلك المقتضيات والمتطلبات والالتزامات، إلا وكان تملصها دليلًا يثبت أنها قد غرقت بالكامل في أوحال وأوكار الفساد وحِيَله ومتاهاته وثقوبه وشبكاته الأخطبوطية، وأنّ الفساد بلوثاته قد تسيد على كامل كيانها وسائر شؤونها، وعلى كامل سياساتها وتوجهاتها، وأنّ هوامير الإفساد قد استحكموا بدفة قيادتها، وصادروا قرارها، ووظّفوا متاحاتها ومؤسساتها وآلياتها لخدمة الفساد وغايات الفاسدين، وعملوا كل ما يلزم لضمان استحالة أيِّ إمكانية لإصلاح وتأهيل بُناها وهياكلها، وأيِّ إمكانية لاستعادتها للقيام بأيٍّ من مسؤولياتها لضمان الحياة الكريمة لعموم الناس، وإدارة شؤونهم ومصالحهم بكفاءة وجدارة ونزاهة، ولتكون كسلطة، وضداً على وظيفتها الأساسية، قد استنفذت طاقتها القصوى في خدمة مراكز النفوذ والهيمنة والفساد، ومستوفية لشروط وأسباب وسُنن السقوط والزوال.

•••
عبدالرشيد الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English