محنة الاضطهاد المتخيل للزيدية

حين تحول شعار المظلومية إلى أيديولوجية للتحشيد المذهبيّ
قادري أحمد حيدر
November 4, 2022

محنة الاضطهاد المتخيل للزيدية

حين تحول شعار المظلومية إلى أيديولوجية للتحشيد المذهبيّ
قادري أحمد حيدر
November 4, 2022

إنّ النظام السياسي الاجتماعي الذي بدأ يتشكّل، ويأخذ ملامحه وقسماته النهائية، من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، (ورثة الإمامة الجدد)، في صورة دولة العصبية، والفردية، والمركز، في صيغة السلطة/ الدولة الرأسمالية المشوهة (الطفيلية)، وشبه الإقطاعية (الإقطاع السياسي)، كان عنوانها البارز الاستبداد السافر، والعنف والقمع للمعارضين، بل ولجميع قوى المجتمع المدني، والسياسي والأهلي في البلاد، وهو النظام الذي كانت غايته السياسية توسيع نطاق تمدده المكاني، إلى كل الجغرافية والديمغرافية اليمنية، شمالًا وجنوبًا، بعد الانقضاض على الوحدة السلمية، بالوحدة بالدم والحرب، كونه وريث منظومة حكم تاريخية لا تعيش ولا تعيد إنتاج نفسها سوى عبر بوابة الحروب الداخلية، ومن خلال مركزة الحكم/ السلطة في يد جماعة صغيرة، في هذه المرحلة التاريخية، أو تلك، هي فعلًا "دولة مركز" هي أقرب إلى السلطات العابرة في التاريخ، تبني مجدها الخاص، (مجد الجماعة)، ولم تبنِ الدولة في كلِّ تاريخ حكمها، وهي مشكلتنا، مع سلطة ٥ نوفمبر ١٩٦٧م، ومشكلتنا، مع نظام علي عبدالله صالح، ومع السلطات القائمة اليوم، مرة ثانية هي "دولة مركز عصبوي، أقصد أنّها لم تكُ يومًا دولة مركزية، وذات طابع وطني عام، بل مجرد سلطة مركز تستعين بالمذهب والقبيلة والمناطقية، وبكل ما يضمن بقاء السلطة في يد مالكها؛ مركز سياسيّ عصبويّ مذهبيّ قبليّ، توسع وتمدد نفوذه بعد الحرب على الوحدة السلمية 1994م، ليشمل كل الجغرافية الوطنية اليمنية، وتحديدًا جنوب البلاد، وهو ما أنتج "القضية الجنوبية"، دون إنكار أو تجاهل أنّ ذلك النظام مارس سياسة الإهمال والتجاهل والتهميش، في عدم تنمية معظم مناطق الأطراف اليمنية، بما فيها المدينة "صعدة"، بل إنّ هناك مدنًا أساسية ورئيسة وهامّة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا ومدنيًّا، ولها دور حقيقي في تنمية كل البلاد، دخلت دائرة التهميش، أو حوّلها نظام علي عبدالله صالح، إلى دائرة الإفقار المنظم لجميع سكانها، وجعل المدن والمناطق فيها مجرد أحياء فقيرة، ونماذج ذلك: "تعز"، و"الحُديدة"، و"مأرب" (وبعد ذلك المدن، عدن وحضرموت/ وكل الجنوب)، وهي مدن سياسية تاريخية عاملة ومنتجه ومصدرة للثروة، وذات مواقع استراتيجية في العلاقة مع الداخل ومع العالم الخارجي، ومع ذلك تم إهمالها وتهميشها، ووصلت نسبة الفقر في بعضها إلى نسبة كبيرة، وأعلى أحيانًا من مناطق عديدة فقيرة في الموارد من جميع النواحي، فقط دويلة/ سلطة المركز (العاصمة)، أي إنّ النظام كان عادلًا في توزيع ظلمه وقهره على كلّ الجغرافيا، مع بقاء مركزه السياسي وما حوله في دائرة الأمان من الإفقار المنظم، ولا يعني ذلك أنّ سكان العاصمة كانوا في نعمة، فقط قمة المركز السياسي العصبوي وزبانيته.

إنّ نسبة مساهمة محافظة "تعز"، و"عدن"، و"حضرموت"، و"شبوة"، و"الحُديدة"، "مأرب" في التنمية المالية والاقتصادية والإنتاجية، والبشرية (المنتجة) هي الأعلى والأكبر، ومع ذلك على سبيل المثال، فإنّ عدن وحضرموت وكل مدن الجنوب تحوّلت إلى مدن هامشية مفقرة وتابعة، من بعد حرب 1994م، مع أنّها مصدر أساس للثروة تنفيذًا لوعد قطعه علي عبدالله صالح على نفسه، بتحويل مدن الجنوب إلى الخلف مئات السنين، والأمر نفسه تم من زمن سابق في تحويل معظم برجوازية المقاولات والتجارة والصناعة والمال في المدينة "تعز"، على سبيل المثال؛ حيث تم حصارهم وتهميشهم، وتحويلهم جميعًا إلى بطالة وعطالة، فلم يعد من تجار ومقاولي مدينة تعز، تحديدًا، والحُديدة اسم يذكر، وبعضهم جرى تجريدهم بالقوة من أصول أموالهم، وحصارهم عن طريق اللعب بالقوانين، وعن طريق البنوك الرسمية التي صارت تشتغل بالتعليمات، عند أضيق الحدود، حتى إنّ بعضهم لجأ للانتحار، والأسماء في هذا النطاق كثر ومعلومة للبعض، أي إنّ نظام العصبية والفردية والمركز، الرأسمالي الطفيلي (الكولونيالي)، مارس التهميش والحرمان الواعي والمدروس والمنظم لهذه المناطق (كسكان، ومحافظات)، وللرأسمال الوطني فيها، ومع ذلك بقيت تعمل وتعترض تحت سقف السلطة/ النظام (الدولة)، لم تقل بالانفصال والاستقلال، ولم يلجَؤُوا لحمل السلاح، ولم يتحدثوا يومًا عن مساهمتهم في الثورة وفي تنمية المجتمع، وفي دعم دولة الثورة والدفاع عنها، مع أنّ العديد منهم قُمعوا وسُجنوا وسُحلوا في الشوارع، وهم من أبطال فكّ الحصار عن صنعاء، وكلنا ما يزال يتذكر تفاصيل حية لعودة عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش إلى صنعاء؛ عودته مسالمًا ومسلمًا نفسه للجهات الرسمية في السلطة، ولم يذهب إلى منطقته حاملًا للسلاح، والمغالطة السياسية في الافتراء على التاريخ التي وردت في "قناة يمن شباب" المحسوبة على حزب الإصلاح، في قولها إنّ أبطال فك الحصار عن صنعاء، علي مثنى جبران، والعقيد سلطان أمين القرشي، المخفي قسريًّا حتى اليوم، وغيرهما، هم من كانوا وراء تفجير أحداث 23/24 أغسطس، 1968، هي محاولة اغتيال ثانية للمعنى وللأسماء وللتاريخ، كما حاولَت تقديمه وتصويره قناة "يمن شباب".

إنّ البعض يتحدث عن الحركة الحوثية وكأنها الوحيدة الحاملة لراية المظلومية في تلك الفترة، فجميع مناطق البلاد بدرجات متفاوتة لها مظلوميتها الخاصة من النظام، والأخطر أنّ هذا الحديث عن المظلومية يأتي في سياقٍ كأنه تبرير وشرعنة "للخروج" بالسلاح، وكأنه لم تقم ثورة 26 سبتمبر 1962م، وثورة 14 أكتوبر 1963م، ووحدة سلمية تم الانقضاض عليها بالحرب.

إنّ تبرير أنّ الظلم والتهميش السياسي والاقتصادي، والاضطهاد الديني المذهبي، لأبناء صعدة –أو غيرهم- هو سبب لجوئهم لحمل السلاح ومقاومة النظام، مهما كان موقفنا من هذا النظام، أو تلك الدولة، ففي مثل هذا القول يختفي كلام تبريري وكلام غير دقيق، لظاهرة وحالة "الخروج" على الدولة بالسلاح، ذلك أنّ الجماعة الحوثية كانت وما تزال، تتصرف مع فكرة حمل السلاح في "الخروج" على الدولة، في ذلك الحين، بذهنية "شروط الإمامة"، وشرط البطنين، وبهذا المعنى من القول والتحليل الذي نذهب إليه، فإنّ القول إنّ السبب هو الظلم والاضطهاد المذهبي/ الديني، لا أساس له من الصحة، وتفسير البعض في هذا السياق لحمل السلاح تفسير خاطئ يؤدّي إلى الفوضى وإلى شرعنة العنف، وحمل السلاح بيد أي جماعة تدّعي مظلوميتها تجاه السلطة/ الدولة، مع أنّ المعلومات والوثائق تتحدث عن تحركات مذهبية سياسية تقف خلفها شعارات أيديولوجية/ طائفية (سلالية)، تدّعي حقوقًا سياسية لها على أرضية دينية/ مذهبية: "الإمامة" و"الولاية"، والعلاقة مع إيران على خلفية سياسية/ مذهبية، وهو كذلك ما أشار إليه د.عبدالكريم الإرياني في مقابلة مطولة معه، أجرتها صحيفة 26 سبتمبر، دون إنكار أو تجاهل توسع المذهبية الدينية الوهابية في مناطق كرسي الزيدية الأول (صعدة)، وفي كرسي الزيدية الثاني (ذمار)، بل وفي كل اليمن شمالًا وجنوبًا، بعد الوحدة بالحرب 1994م.

إنّ الحديث عن "محنة الزيدية" أو مظلوميتهم، هو دليل حي على أزمة في الفكر السياسي الوطني، أزمة في "الهُوية الوطنية اليمنية"، عند البعض، الهُوية التي نراها تتمزق وتنقسم وتتبعثر أمامنا، في الشمال والجنوب، في صورة الكانتونات المذهبية والطائفية والقبلية والمناطقية والجهوية.

إنّنا حين نرفض الاستبداد والعنف ضد الآخر، وندافع عن قضية العدل الاجتماعي والحرية، نحن نقف ضد الظلم، وحينها تختفي مسميات "ادعاءات المظلومية"، سياسية ومذهبية واجتماعية. 

إنّ المظلومية الفعلية القائمة، هي الواقعة -في الأمس، واليوم- على الطائفة الإسماعيلية الكريمة، التي تتعرض للاضطهاد من جميع الأطراف، والاضطهاد الاجتماعي والثقافي على خلفية عنصرية، ضد فئة "المهمشين/ السود" الذين تمعن الجماعة الحوثية في تكريس اضطهادهم من خلال تسميتهم "أحفاد بلال"! لتأكيد استمرار تهميشهم و"عبوديتهم"، أمّا حديث البعض عن مظلومية الزيدية كطائفة، أو كـ"هاشمية سياسية"، فهو مبالغ فيه، هي مظلومية متخيلة.

اتضح بالوقائع الملموسة اليوم، أنّ الإمامة في تاريخنا السياسي المعاصر، لم تكن "أشباحًا، يخاف منها النظام الجمهوري"، كما كتب، د. أبوبكر السقاف، في مقالته، (ملحوظات في الشرعية وإمارة الاستيلاء)، في كتابه (دفاعًا عن الإنسان والحرية)، ص٨٦-٨٧، بل هي منظومة أفكار ومفاهيم وقيم، ما تزال حاضرة ومعشعشة، وراسخة في البناء الفوقي للنظام الجمهوري، وفي بنية الوعي الاجتماعي، عند قطاع معين من ناس المجتمع، لأسباب موضوعية، وذاتية وتاريخية، يحافظ على استمرارها، (ورثة الإمامة الجدد/ شيوخ القبائل/ والعكفة الجدد)، لأنه لم يتم تغيير النظام القديم، بنظام سياسي/ اجتماعي/ اقتصادي جديد، وجاء انقلاب، ٥ نوفمبر ١٩٦٧م، لاستكمال الحفاظ على منظومة "الدولة العميقة القديمة"، باستبدال بيت حميد الدين بالمشايخ، وهنا تكمن أزمة النظام الجمهوري، بعد إفراغه من مضمونه الوطني والاجتماعي والديمقراطي، وهنا تصدق مقولة أو تعبير د. محمد علي الشهاري، عن انتكاسة الثورة في الشمال، وانتصارها في الجنوب، وخاصة، أنّها انتكاسة تأتي بعد الانتصار العظيم في السبعين يومًا، وكان قمة التعبير، عن الانتكاسة، تتويجها في عقد اتفاقية الذل، والهوان، في جدة، مارس ١٩٧٠م.

لقد تحوّل شعار المظلومية إلى مجرد أيديولوجية للتحشيد المذهبي/ القبلي، ولكسب الأعوان للوثوب على السلطة، وحديث المظلومية ذلك، فيه استعلاء مبطن من خلال التركيز على مظالم فئة أو أسرة، والمبالغة عمدًا في إهمال معاناة الآخرين، (شعب كامل)، التي هي أشد وأعنف، وأطول في تاريخ العنف السياسي والاضطهاد في اليمن.

إنّ حديث المظلومية، و"المقتلة" أو كما يسمّيها، أبو الفرج الأصفهاني "مقاتل الطالبيين"، أو كما هو حديث بعض فرق الشيعة المغالية، فهي عندهم، مظلومية لها جذر أيديولوجي/ سياسي(مذهبي)، تاريخي، يعود إلى "السقيفة/ سقيفة بني ساعدة"، وإلى "كربلاء"، ونحن كيمنيين، لا صلة لنا بهذه "المقتلة"، والمظلومية، إن لم نكن كيمنيين الأقرب للدفاع عن آل البيت، وفي نصرتهم، هذا ما يقوله التاريخ، فاليمنيون من المحبين، للإمام علي بن أبي طالب، ولولديه، يتفق في ذلك، الشافعية، والزيدية، ويحتفل شوافع اليمن، بجميع الطقوس المذهبية الشيعية، ولكن على طريقتهم الخاصة، دون خلفية أيديولوجية مذهبية متعصبة.

لقد شُنّتَ حرب عدوانية سياسية ودينية/ مذهبية "تكفيرية"، على الحزب الاشتراكي، وعلى كل الجنوب الذي تلقى أعنف وأقسى أنواع الاضطهادات السياسية والمذهبية والمناطقية، طالت كل شيء في الجنوب من الأرض إلى الاقتصاد إلى الإنسان، ومع ذلك لم يحملوا السلاح، وعبروا عن حقّهم السياسي بالانفصال سلميًّا.

إنّ البعض يتحدث عن الحركة الحوثية وكأنها الوحيدة الحاملة لراية المظلومية في تلك الفترة، فجميع مناطق البلاد بدرجات متفاوتة لها مظلوميتها الخاصة من النظام، والأخطر أنّ هذا الحديث عن المظلومية يأتي في سياق كأنه تبرير وشرعنة "للخروج" بالسلاح، وكأنه لم تقم ثورة 26 سبتمبر 1962م، وثورة 14 أكتوبر 1963م، ووحدة سلمية تم الانقضاض عليها بالحرب، ولم تكن هناك ثورة شبابية شعبية سلمية واسعة، كانت الحركة الحوثية حاضرة فيها بعد قيامها، أيّ إنّ الانقلاب لم يكن على نظام علي عبدالله صالح، بل تم بالاتفاق والتحالف معه، وهو ما يقفز عليه البعض ممن يتحدثون عن المظلومية، والاضطهاد الديني للزيدية، ويمكن في هذا السياق أن تكون الزيدية هي الأقل اضطهادًا على المستوى المذهبي/ الديني، في اليمن، وهو قطعًا اضطهاد مدان، على أي مستوى أو درجة عبر عن نفسه، وضد أي جماعة، أو مكون.

وفي تقديري، لم تكن قبل حروب صعدة الستة ٢٠٠٤-٢٠١٠م، أيّ حديث سياسي أمني جدي عن "محنة للزيدية"، أو اضطهاد مذهبي، فالوهابية السعودية غريبة على كل اليمن، وفي هذه الحدود ما زلت أتذكر أنّ كل القوى السياسية والمنظمات المدنية والحقوقية وقفت قبل حروب صعدة الستة، وبعدها، ضدّ عدوان وتعديات وقهر النظام للرموز السياسية والمذهبية الدينية للزيدية، ولمساجدهم، وكانت هناك حركة تضامن مدنية وحقوقية واسعة ضدَّ ذلك القمع والسجن والمحاكمات غير القانونية، خلال فترة حروب صعدة الست، وكنّا في قلب تلك المحاكمات كأفراد وأحزاب، ولم تتوقف الزيارات منّا جميعًا لهم في السجون، وفي دعمهم من كل النواحي، وأتذكر أنّني تواصلت تلفونيًّا مع ممثّل الجماعة الحوثية "أنصار الله" محمد عبدالسلام بواسطة محمد المقالح، ومن تلفونه، للاستفسار عن بعض الوقائع، والأرقام، ليؤكدها أو ينفيها، حتى استخدمتها في بحث كنت أكتبه عن حرب صعدة، وبسبب هذا الاتصال تعرّضت للكثير من المتاعب والأذى، اليوم أغلبية شرائح وفئات وطبقات المجتمع تتعرض للاضطهاد من كل الأنواع ومن قبل تلك الجماعة، وممنوع الكلام.

مع أنّ أقذر وأبشع اضطهاد ديني هو ما كانت وما تزال تتعرض له الطائفة "الإسماعيلية" تاريخيًّا، وهو اضطهاد مزدوج من بعض فئات المجتمع المتعصبة مذهبيًّا، ومن الجهات الرسمية، وكذا الاضطهاد الديني للجماعة "البهائية"، فضلًا عن التهميش السياسي التاريخي "للشافعية الاجتماعية"، أكرّر دون التهوين أو التقليل من خطورة الغزو للمذهب السياسي الوهابي لمعظم المناطق الزيدية، واليمنية عمومًا، وهو مذهب –الوهابية- لا صلة له ليس باليمن، بل وبالمذاهب الدينية المعترف بها إسلاميًّا.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English