احمل بطيخة على رأسك وامضِ

(التربة) مدينة مفتوحة على زمنين واتجاهين
جميل حاجب
October 6, 2022

احمل بطيخة على رأسك وامضِ

(التربة) مدينة مفتوحة على زمنين واتجاهين
جميل حاجب
October 6, 2022
Photo by: Ahmed Al-Shargabi - © Khuyut

التربة نافذة مفتوحة على اتجاهين، تقف متحيرة في رأس دار منهار من الماضي، دُور عتيقة مقضّضة –مطلية بالكلس الأبيض المحروق المقاوم- بعناية تقاوم النسيان وتحكي قصة استراحة الأتراك في القرن التاسع عشر، مثوى وليٍّ صالح (عمر الطيار) بمسجده الأثري وضريحه المتفرد، برك ماء حفرت في الصخر ومقضّضة لاحتواء الماء، تتعرض حاليًّا للبسط وما بقيَ منها مليئة بالنفايات.

حينما أطلق النعمان والأستاذ حيدرة مدرستهما الأهلية أواسط الثلاثينيات على قاعدة التعليم الحديث، جنَّ جنون الإمام يحيى وأمير اللواء علي الوزير، ورأوا فيها شرًّا مستطيرًا يهدّد عرش الخرافة، فأُغلِقت المدرسة وتشرّد الأستاذان بين تعز وعدن والقاهرة، لكنها كانت قد وضعت البذرة الأولى في مدماك التنوير وإن بدا ناقصًا لظرفه. 

في التربة بثّت السينما أول أفلامها وأبهرت الجمهور مطلع السبعينيات، وأُسدِل الستار عليها في عهد التخلف الذي ابتلع كل شيء. مقاهٍ وجلبة الأسواق (سوق الأربعاء) المميز ما زال يعمل ولكن بطاقةٍ أقل، التربة ارتبطت بقضاة مشاهير أنفذوا أحكامهم وعساكرهم على الرعية بلين وقسوة (الجنداري، ابن الوزير، الحلالي...)، تحضر هنا رائعة سعيد شيباني "يا نجم يا سامر":

هجرتني والقلب غير سالي

كل السبب عساكر الحلالي

بكّر من التربة غبش يلالي

بيده سبيل، بجيبه أمر عالي التربة بريفها المتحضر آمال جمة حملها طليعة من الشباب النادرين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كـ:عبدالرقيب عبدالوهاب، وعبدالله عبدالعالم... والكثير، وشعراء انزرعت أغانيهم في الوجدان وشرفات الدور مثل "المشاقر"، كـ:عبدالله عبدالوهاب نعمان، وعبدالله سلام ناجي، والقرشي عبدالرحيم سلام، وعبده علي ياقوت. التربة عُرفَتْ تأخذ من الشاكي والمشكو به في آنٍ واحد.

إنّها مدينة مميزة، باستطاعتك أن تحمل فوق رأسك بطيخة وتمشي في شوارعها دون أن يشير إليك أحد أو يسخر، مدينة تعني التسامح والوعي والبساطة. مدينة تتعثر دومًا وتنهض؛ ففي عهد النظام السابق عانت الإهمال التامّ، ولكنها صمدت واستطاعت أن تتوسع عمرانيًّا، فتحت الفنادق، والمولات بأحدث منتجات العصر من الملابس والأقمشة، والمقاهي وأجملها مقهى للنساء، وكأن التاريخ يبدأ من التربة ثانية. صحيح هناك حرب بينية مدمرة، وهناك تداعيات جمّة وفقر بسبب تدهور الاقتصاد، والتربة تعاني مثلها مثل بقية مناطق اليمن، ولكن شحة المياه وتفشي الفساد وانتشار القمامة والحفر في الأرصفة، يشوه هذه المدينة ويتطلب من السلطة المحلية معالجات سريعة.

التربة أيضًا احتضنت الكثير من الأسر النازحة من مختلف مناطق الصراع، كما تشكّل نقطة ارتكاز لعمل الكثير من المنظمات الإنسانية، ومقرًّا لها، وتمثّل محطة للمسافرين من وإلى مدينة عدن، والزوّار الذي يأتون للتنزه فيها ورؤية منتزه السكون الذي يعد من أبرز معالمها السياحية الحديثة، وهو مبنيّ بطريقةٍ هندسية وفنّية مبهرة في منحدر صخري مهيمن على وادي المقاطرة العميق، غير الرموز المكانية التاريخية الأخرى المحيطة بمدينة التربة، كقلعة المقاطرة الشهيرة، التي استعملت كنقطة حربية متحكمة من قبل الأتراك العثمانيين والأئمة، وتحصن بها المقاطرة إبّان ثورتهم الاجتماعية بزعامة أحد الرموز الطموحين في عهد المملكة المتوكلية، وحضيت بإشادة من رائي اليمن الكبير عبدالله البردّوني في كتاب الجمهورية، وتواصلَ استغلالها في الصراعات الشطرية، لتجد نفسها أخيرًا تتحرر من كل تلك التمركزات، وتبدأ رحلة التأمل في الفضاء الشاسع وتوجد معالم أخرى، مثل: جبل بيحان التاريخي، وجبل منيف، ووادي أديم، وتتميز بمناخها المعتدل صيفًا، والممطر والبارد شتاء. 

مبنى المحكمة القديم بالتربة بالطراز التركي

مدينة التربة هي عاصمة الحجرية، وهي من المدن الأكثر حضورًا في وجدان المجتمع المحليّ، ومقصد للتسوق من مختلف المناطق، كما تُقصد لمختلف النشاطات الجماهيرية. وبدون استثمار مخزونها الثقافي والتاريخي تظل اليمن متعثرة؛ فهي دائمًا، والحجرية عمومًا، فنار الحداثة والعلم والوطنية.

•••
جميل حاجب
شاعر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English