الربادي

عن تراجيديا رحيل قلب اليمن الأخضر
د. نجيب الورافي
July 30, 2021

الربادي

عن تراجيديا رحيل قلب اليمن الأخضر
د. نجيب الورافي
July 30, 2021

اعتادت إب أن ترتدي ثوبها الأخضر جُلّ فصول عمرها المعتق بالخضرة والينابيع وحقول الذرة وطيبة إنسانها الأخضر الودود، وبطرافة الظرفاء من سكان حاراتها وأزقتها المفعمة بالقهقهات والحميمية والسلام. كملكة أسطورية اعتادت هذه المدينة، القلب من اليمن، أن تقعد يوميًّا على كرسي من مطر ومن تلال عطر "السعتر" و"الزابود" والنعناع والريحان، أن تمارس حياتها بأمان الفصول الأربعة وأن تخرج لذهابها وإيابها اليومي "مشقّرة" ببهجتها، محاطة بجبال صباحاتها البازغة بالندى، ومتوجة بشمس "مَهايِد" (أهازيج) فلاحها الحالم بكبرياء، ومواويل نسائها المشرقة من شفاه رُباها كأزهار "عَلّان" (موسم زراعي).

كان لإب عبر تاريخها أن تواجه كل صنوف أوجاعها وقهرها، كغيرها من مدن اليمن. عانت الأمرّين استبدادًا ومكوسًا وجبايات، لكنها لم تركع ولم تدمع، بل بصبر أبنائها وتسامحهم، تحدت كل عوادي الزمان وصروف الطغيان. حربها كانت الأريحية في عناق الأرض وسَعة الصدر ورقة الاحتفاء بالغرباء، ولا سلاح لها سوى الغيول و"محاجين" السبول، وفي كل معترك محنة كانت تخرج ظافرة منتصرة. أجل اعتادت إب كل هذا الزهو على مدار حضرتها، فماذا لو كان الوقت هو يوليو، قلب عرسها الأخضر البديع؟ وماذا لو تراجعت المدينة إلى شر هزائمها الوجدانية في هذا التوقيت؟

في اليوم الخامس من يوليو 1993، تنازلت هذه المدينة عن عرشها الحالم وخلعت قلبها الضاحك الأخضر، لتغيب وتتشح بمطلق السواد، تسقط في هاوية البكاء والنحيب. انتفضت كأم "مسبوعة" ترى وليدها قد نهشته السباع وهي واقفة وقوف العاجز المذهول لهول الصدمة والمفاجأة، ولم يكن بمقدورها غير أن تتوجس وتظن الظنون أن في الأمر مكيدة وخيط مؤامرة دبرت بليل.

لعل إب هي أم محمد الربادي بمعيار قانون جينات الجغرافية الخبيثة المتسببة بأمراضنا الوراثية الراهنة، التي استطاع الربادي منذ نعومة أحلامه تجاوزها، ليكون ابنًا لليمن الواحد الكبير وليكون صوت الأمة اليمنية المعبر عن هُويتها الجامعة، بل وليصيغ قناعاته الوحدوية القومية وفكره الإنساني المفتوح والشاسع، ويوازن ما بين هُويته الثقافية اليمنية والعربية والإسلامية، وبين الانفتاح على الفكر التقدمي التحرري للإنسان أينما كان. فهو السياسي غير المؤطر بجماعة أو تنظيم، وهو رائد فقه المصالح المجدد، وهو صوت الثورة والحرية المنحاز إلى الناس وعاشق البسطاء.

يبدو هذا الربط الخائب بين داعية الإصلاح التقدمي الفذ في اليمن، وبين مدينته، هو من قبيل شهادة الحال لكاتب المقال لإثبات كيف يمكن لأصوات الحق والعدل أن تتوطن أعماق الناس، وتصبح سلطة عميقة مطلقة بلا سلاح ولا مال ولا جيوش كتلك التي تمتلكها سلطات النفوذ! تحول يوم تشييع محمد علي الربادي إلى نهار أسود لمدينته ولسائر مدن اليمن التي ألفت صوته من البر إلى البحر.

نكّست إب أشجارها وأوقفت غيولها ومراسيم عرسها الصيفي البهيج، لتسيل هي خلف جنازته المكتظة سوادًا ودموعًا وشهقات. اكتسى وجه (المدينة القديمة) بالسواد، من (بين "السماسر"؛ حارة ابن بائع الحبوب البسيط والسوق الأعلى) والجامع الكبير الذي أصبح خطيب جمعته المستنير والاستثنائي والإنسان الكبير في عيون الناس.

أصبح الربادي في نظر الصغير والكبير داعية إصلاح وقائدًا شعبيًّا تلقائيًّا، لصيقًا بهموم الفئات الشعبية، وهو المكان الذي لم يصله قادة الأحزاب والسياسيون أيًّا ما بلغوه من الحضور الكارزمي الفاعل! استعان الربادي بثقافته الموسوعية الجامعة بين علوم السلف من فقه ولغة وأصول دين، وبين الفكر العصري، ومزج بين ذلك لصياغة مساره التنويري، ليقدم الدين في سياق ما يبصّر أهله بشؤون دنياهم، وليعتلي منبر الجامع ليمضي الخطبة تلو الخطبة وهو يفسر كيف يكون "الناس شركاء في ثلاث؛ الماء والنار والكلأ"، لتكون خطبته رسالة في العدالة الاجتماعية .

حفر نهار تموز الأسود ذاك في أعماق المدينة حزن الفاجعة المهولة في موكب جنازة لم يستثنِ البكاء أحدًا من أعيانها الوجهاء والتجار ومشايخ العلم والبسطاء. لم تكن جنازة لراحل، بل تظاهرة شعبية حضرها الشعب البسيط وغابت عنها المراسيم الرسمية

ولم يقف عند حدود منابر الدين فقط، بل تجاوزها إلى منابر السياسة في سقفها الأعلى ليقف ويصرخ أمام رئيس الجمهورية، ناقلًا صوت المواطن اليمني البسيط: "أريد دولة وأقطع من نصفي"، منبّهًا إلى الحلقات المفقودة كالدولة والمواطنة والعدل والمساواة، وتجاوز المنابر إلى واقع الناس؛ أسواقهم ومجامعهم، يشرح أسباب معاناتهم وضياع حقوقهم، بَدءًا بقضايا الوحدة والسيادة والعدل والحرية، وانتهاءً بالحقوق والاستحقاقات الخاصة بالمواطنة.

بالتلقائية ذاتها تألق الرجل ليصبح البرلماني الصاعد من شهور قليلة لأول برلمان لليمن الموحد. اليمن الموحد الذي لم تغب قضية وحدته عن فكره ووجدانه لحظة، وفي سبيل تحقيقها نازع قادتي الشطرين. صرخ بأعلى صوته بمطلب اليمنيين للوحدة حد التهكم عليه والصراخ في وجهه في محفل عام: "ما تشتي يا ربادي؟ وحدة وقد احنا بالطريق"، لتكون عبارة رئيس الدولة هذه التي نقلتها شاشات التلفزة مصدر تندر "يناجمه" (يناكفه) بها مقربو الربادي الودودون: "بس انت قا كَسَعَك الرئيس" (نهَرك). وعلى زخم التنافس الحزبي في انتخابات 1993، وحدتها ومطامع الفوز فيها، اكتسح الربادي سطوة الجاه والسلطة والمال بتلقائية وسلاسة لتكون استفتاء على قائد شعبي كل رأسماله حب الناس أكثر مما كانت مجرد فعالية سياسية عابرة!

نادرًا ما تناول التاريخ أحلام الناس، أو أشار إلى صناع تلك الأحلام بإنصاف. كتب التاريخ لا تُعنى سوى بمن يديرون عجلته بعوامل الهلاك والاستهلاك؛ أي بالجزء المستنفد منه. فمن بوسعه أن يؤرخ لفاجعة رحيل الربادي بأنه ملحمة تراجيدية وجدانية شعبية تشبه تلك التي في نصوص الأدب الملحمي عبر التاريخ، وتتنافى مع نظرية أبطال التاريخ المصنوعة وشبه الزائفة. لقد بنى الناس حول أنموذج الربادي آمالهم وأحلامهم وفجأة سقط بطل تلك الآلام والأحلام، فكان هول الكارثة.

حفر نهار تموز الأسود ذاك في أعماق المدينة حزن الفاجعة المهولة في موكب جنازة لم يستثنِ البكاء أحدًا من أعيانها الوجهاء والتجار ومشايخ العلم والبسطاء. لم تكن جنازة لراحل، بل تظاهرة شعبية حضرها الشعب البسيط وغابت عنها المراسيم الرسمية، على النقيض من مواكب رؤساء الدول والملوك الذين تشيعهم المراسيم وتغيب شعوبهم، شيع الربادي الشعب وغابت المراسيم؛ جنازة في مقدمتها "أصحاب الموترات" (الدراجات النارية) الذين اعتاد الربادي الركوب معهم مثله مثل الطلبة والباعة أو "شُقاة الحراج" (عمّال اليومية)، الذين ألِف الجلوس إلى جانبهم لتناول صبوح (الكدَم والبرْعِي) في أسواق إب. وبقدر ما حمل ذلك اليوم المهيب لرحيله من تراجيديا هول وذهول، فقد كان رسالة مفادها: أحبوا شعبكم ليحبكم ويحزن عليكم بهذه الغزارة، فقد ترحلون بغموض فلا تجدون من يشيعكم في النهاية ويواريكم الثرى!


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English