"مستطرف البردّوني المعاصر"

تسويات هادئة لخصومات المثقفين العرب
عبدالوهاب الحراسي
October 18, 2022

"مستطرف البردّوني المعاصر"

تسويات هادئة لخصومات المثقفين العرب
عبدالوهاب الحراسي
October 18, 2022

"مستطرف معاصر" هو، على نحو خاص، كتاب يلم بوقائع ومواقف تدل على أنّ أسوأ الناس خصومة في المجتمعات العربية هم مثقّفوها؛ وعلى هشاشتهم وعمقهم، وبؤس معظمهم برغم عظمتهم.

إنّ الكلمات هذه: "التزيد، الاستحداث، الاختراع، الافتعال"؛ كلّها كلمات منافقة للكذب. لم يقم بها البردّوني في مستطرفه. ولعلّ هذا هو الفرق الحاسم بين مستطرفه، وباقي المستطرفات التي شخصها بأنها كتابة معزولة، بلا قضايا، "توارى عنها طيف الماضي، غام خيال المستقبل، فصارت كفترة استثنائية تشبه عصر المستطرف، الذي لا يشي بغدٍ ولا يحمل عبق الأمس. من هذا المنظور تطل هذه السطور على غرار المستطرفات القديمة"، (ص 20). وأنّ "ذلك الأدب عقيم" (ص 143).

يعيد البردّوني سرد وقائع وأحداث ومواقف، كانت معروفة ومعلنة ومتداولة؛ معظم أصحابها كانوا عربًا، بل منابر أدبية وثقافية وفنية رائدة ورفيعة؛ منذ عشرينيات القرن العشرين.

فكتابه يزخر بالأسماء الكوكبية، منها: (عبدالحميد الديب، حافظ إبراهيم، طه حسين، عباس العقاد، محمد إمام العبد، الرافعي، الزيات، زكي مبارك، أمين الريحاني، بشارة الخوري، معروف الرصافي، نعيمة، خليل جبران، البياتي، الجواهريّ، معروف الرصافي، مي زيادة، محمد عبدالوهاب، أم كلثوم،... إلخ). 

معظم تلك الأسماء، وأكثر، في كتاب البردّوني، يتنفّسون مجالًا واحدًا، شيّده لهم البردّوني باسم الطرافة. وسيجد القارئ أنّهم، جميعًا، في مواقفهم ووقائعهم وأفعالهم لا ينفكّون عن ذواتهم ولا يغادرونها إلى غيريتهم. إنّهم ليسوا نرجسيين وحسب، بل يستشهدون في النيل ممّن يقتربون من ذواتهم أو مسّ مكانتهم؛ مستخدمين أفتك الأسلحة -وهم جميعًا يمتلكونها- أَلَا وهي اللغة (كلامًا وكتابة).

لقد شيّد البردّوني لهم مستطرفه، باعتباره ذلك الغير (إّنه يمتلك أسلحتهم نفسها، ويجيد التصويب بها وإطلاقها؛ لكنه لم يستخدمها، يومًا، في النيل الشخصيّ من شخصٍ ما، ولم يطلق كلمة واحدة في سبيل ذاته ومكانته)، لكنه ليس ذلك الغير المنفصل الحدّي، بل نراه معهم كأنه بينهم؛ يبرر أفعالهم ويؤكّد مكانتهم ويرجح فيهم سموّهم. لكنه، في الوقت ذاته يعتنق الكشف؛ وينحاز إلى الحقيقة والتواضع والبساطة والقيم.

لذلك نجده مع كلِّ من يسخر من نفسه ويتندر عليها وينزلها من برجها، لتستوي مع الناس في الشارع.

وقد خصص الطرفة رقم (32)، لتحقيق تلك القيمة؛ حيث يبدأ طرفته بما ورد في كتاب مروج الذهب عن عجوز تقف في مدخل بغداد لتعيد، شعرًا، منزلة كلّ قوم درجوا على الاستعلاء والفخر، وهل ثمّة فخر وفضل على العرب أكثر من فخر بني هاشم بفضلهم؟! حتى قالت فيهم ما كان متداولًا من رفض لتمييزهم:

"بني هاشم، عودوا إلى نخلاتكم

فقد صار هذا التمر صاعًا بدرهم

فإن كنتم رهط النبي محمد

فإنّ النصارى رهط عيسى بن مريم"

إنّ ما يجمع تلك الأسماء، هو تصنيم ذواتهم، والذود عن حياض (الأنا) بفجور الخصام وقسوة المواقف، وأسوأ السقطات مع خصومهم، بالاستطالة والاستعلاء والمراء أو المماراة والجدل والتي تجد سبيلها في آفات اللسان الجارحة التي لا باعث لها إلا إظهار التميز، واحتقار المردود عليه. إنّنا نقرأ ذلك في معظم طرفات الكتاب -البالغة ستة وثلاثين طرفة- وستستوقفنا تسويات البردّوني مع كل شخصية وكل فكرة؛ كما سنشهد البردّوني، كعادته، منحازًا إلى الحقيقة والكشف والتعرية، وأنّ سخرية الشخص من نفسه وإبداء سوئها ومساواتها مع بسطاء المجتمع، لا تحط من قيمة الإنسان وكرامته.

الغريب أنّ محرري الكتاب قد فاتهم، أنّ الاسم، كاملًا (مستطرف معاصر)، قد ورد في (ص 149)، كمنحة أو تشبيه -من قبل البردّوني- لكتاب زكي مبارك (ليلى المريضة في العراق)، بـ"مستظرف معاصر"!

لماذا زكي مبارك؟

لأنه الوحيد الذي تخلى عن مقامه ومكانته في الحديث عن نفسه، وأسقط عنها تيجانها ووقارها، بالرغم من أنه الدكاترة زكي مبارك، كما كان يحب أن يشير هو إلى نفسه. 

وقد وجد البردّوني فيه ذروة التعافي من أمراض الذات، في قوله عن نفسه: "لو أنصفني أهل زماني لرفعوني على العذريين، على كثرة الفجور، بحمد الله". وقد علق البردّوني: "وكان منه هذا غير لائق بأستاذ جامعي، وكان يعرف هذا، فيطعن في وقار أولئك الأساتذة، ويظنهم يتمظهرون".

وهو من أوائل من تنبهوا إلى قسوة وخطورة سقوط المثقف العربي. في كتابه "التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق"(**)، يقول زكي مبارك:

"بأن حملة الأقلام في عصرنا هذا قلَّ أن يبقى لهم صديق، فباسم حرية الرأي، وحرية النقد، وحرية النشر، وحرية القول، تقع كلمات وعبارات تأتي على المودة من الأساس". (ص 185).

"وقد هدَتْنا التجارب [... أنّ] كل ما نجترحه باسم النقد الأدبي هو ضلال في ضلال، وهو يخلق من العداوات والحزازات ما نعجز عن دفعه في أكثر الأوقات" (ص 280).

ويختم موعظته قائلًا:

"ما قيمة الحياة الأدبية والعلمية، إذا خرجنا من خدمتها مجرحين بأظافر الأوباش؟" (ص 281).

لكن ثمة تحيزات ملفتة وأفكار فريدة للبردّوني، في الطرفات التالية:

 - "أمّا الظاهرة الثانية فهي اتهام الجواهري أمين الريحاني بالعمالة، على صدر جريدة الجواهري (الرأي العام)، فهرب أمين الريحاني من بغداد صبيحة ليلة وصوله بفعل كشف الجواهري تلك الحقيقة".

البردّوني، هنا، يصدر حكمًا، هو في غنى عنه. والطرفة، أيضًا، في غنى عنه.

- "كان ساطع، مدير وزارة المعارف في العراق، في آخر عشرينات هذا القرن. (....) وصادف أن وصلت ورقة الجواهري بين أعضاء التدريس، فبلّغ ساطع الجواهري بالتعيين، وطلب حضوره في اليوم الثاني مصطحبًا هُويته، فثارت ثائرة الشاعر الجواهري؛ لأنّ طلب هُويته تشكيكٌ في عراقيّته، وبعد أن توارثت عائلته الحياة الثقافية في العراق خمس مئة سنة. فكتب الجواهري إلى الحصري مذكرًا إياه عراقيته بعد خمس مئة سنة، ولفت انتباهه إلى أنّ العراق يعطي الجنسية للأجنبي بعد عشر سنوات من إقامته".

هل يسكت الجواهري؟ لا، بل "تتبع أي غميزة في الحصري، ولاقى ضالته حين أعثره البحث على كتاب بالإنجليزية، عنوانه "مكانة العائلة الحصرية في المجتمع العثماني"، فكان الكتاب دليلًا على أنّ الحصري كان تركيًّا منذ خمسين عامًا في ذلك الحين. فسعى الجواهري لترجمة ذلك الكتاب إلى العربية".

بعد ذلك، ينحاز البردّوني إلى الجواهري بتثمينه عدم الردّ على ساطع الحصري، معلِّلًا ذلك برسالية هجاء الجواهري، كما لم يذكر البردّوني هل تم ترجمة وطباعة ذلك الكتاب أم لا، بالرغم أنّ مجرد ترجمة ذلك الكتاب وطبعة هو ردّ وافٍ على الحصري.

___________

* المؤلف: عبدالله البردّوني.

الناشر: الهيئة العامة للكتاب - صنعاء.

الطبعة الأولى 2022م.

** د. زكي مبارك، التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، (ص، على التوالي: 185-280-281).

•••
عبدالوهاب الحراسي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English