منذ أكثر من خمسة أعوام؛ فتحت أذرع الحرب شبابيك الموت على مصراعيه في اليمن، لكنها مؤخرًا لم تكتفِ بذلك فقط، بل تفننت في صنع النهايات المأساوية لكل محاولات الفرح.
من يعرف الحديدة (226 كم غرب صنعاء) قبل العام 2015، لا يكاد يصدق أنها نفس المدينة الساحلية؛ فقد طمست الحرب ملامحها تمامًا. وبوضوح أكبر فإن بحرها الممتد لم يعد ممتدًا، ولم يعد في وسع تلك المدينة الساهرة دومًا سوى أن تنام -رغمًا عنها- باكرًا.
فكيف يعيش الناس في الحديدة؟
لا تستطيع وسائل الإعلام التابعة لطرفي الحرب الإجابة عن هذا السؤال المعقد، فمنذ يونيو/ حزيران 2018، شن التحالف بقيادة السعودية والإمارات هجومه على المدينة الساحلية، ضمن عملية أراد منها إنهاء سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) عليها.
اختلف الأمر على ساكني المدينة المسالمة، الذين اعتادوا على القصف المتفاوت والجرائم المُنفذة بتوقيت متباعد؛ إذ تشتد الغارات الجوية وتقصف البوارجُ والطائرات الحربية قرى صغيرة واقعة على الساحل الغربي، ويستمر التحليق بشكل يومي لمدة تتجاوز العشر الساعات متواصلة يوميًّا.
يبدو الأمر صعبًا جدًّا، لكن لو تم استبدال كلمة واحدة سيصبح السؤال أكثر بساطة: كيف يموت الناس في الحديدة؟
يموتون بالأمراض والأوبئة، وبشظايا الاشتباكات اليومية، وجوعًا، وحتى وهم يهربون من الموت، وهذه الأخيرة هي أقسى ما يمكن أن تتحمله العاطفة السوية.
رجاء علي (25 سنة)، قابلتها مصادفة في هيئة مستشفى الثورة العام، وهو الأكبر في المدينة؛ فتاة نحيلة بإفراط، لا يمكن أن يخمن من يراها أنها شابة، بسبب التجاعيد الملتحمة بعظامها والناتجة عن إصابتها بفشل كلوي.
أصيبت رجاء بشظية في فخذها الأيسر في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، في الخط العام الرابط بين مدينة الحديدة ومديرية بيت الفقيه (66 كم جنوب شرق مدينة الحديدة) أثناء رحلة عودتها إلى قريتها من إحدى جلسات الغسيل الكلوي في الحديدة على متن دراجة نارية هي ووالدتها.
الموقف الصادم، هو أن سائق الدراجة النارية نجا بنفسه وتركهما بمفردهما في الطريق المؤدي بهما إلى قريتهما، لكن القصة لم تنتهِ هنا؛ فرجاء استطاعت تجاوز هذا الموقف بمساعدة أحد المسافرين المتجهين إلى مدينة الحديدة، الذي أقلها بسيارته إلى المستشفى، وحين قابلتُها السبت 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، كانت المدينة تشهد اشتباكات عنيفة.
في اليوم التالي الموافق 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، طالت الشظايا والاشتباكات المستشفى. وحسب شهود عيان، فإن منظر الهروب والهلع الذي حل بالمرضى ومرافقيهم لا يمكن وصفه. ففي الساعة 12:30 مساء الأحد، تدافع الجميع في منفذ البوابة الوحيد هروبًا من القصف المتبادل في الجوار.
هناك دومًا دقائق للتبرير في كل انتهاك، حيث يشحذ كل فريق أسلحته بعد التأكد من الهوية المدنية للضحايا والطبيعة الصماء لضمائر المتقاتلين
مرضى من كبار السن وأطفال ونساء ورجال، خرجوا مستندين على مرافقيهم في محاولة للنجاة من حمى القصف العنيف الذي أرعب وأربك الجميع.
حاول الطاقم الطبي والعاملون في المستشفى تهدئة المرضى، إلا أن الهلع كان قد مس الجميع بلا استثناء، بل وانتقلت عدواه إلى الممرضين. ورغم توقف القصف وهدوء الاشتباكات إلا أن أحدًا لم يعد، وأصبح المكان خاليًا وموحشًا لأيام.
فكرت كثيرًا في رجاء، التي كانت بين الفارين من جحيم موت متلاحق. تخيلت منظرها وهي تركض بفخذ مصاب وجسد نحيل لا يحتمل التدافع والزحام.
أين ذهبت وكيف تشعر؟ لا أعرف. لكنها تشبه تمامًا هذه المدينة المسالمة، التي يطل الموت عليها من كل منافذ الضوء والأمل. أُفكر أنه لو قدّر لها النجاة والنفاذ بجلدها، لكن لسوء الحظ، فهذه المدينة المنكوبة لا يمكنها ذلك.
الخطر الأبرز، والذي لا يقل سوءًا عن هجوم "التحالف العربي"، إدخال طرفي النزاع مدافع الهاون في المعركة واستخدامها في الأحياء الطرفية للمدينة، ما رفع معدلات الخطر على المدنيين؛ إذ لا ضوابط أو حدود، وفقط المزيد من القذائف والكثير من الضحايا الأبرياء.
قبل أيام من كتابة هذه المدونة؛ أي يوم الجمعة 24 يناير/ كانون الثاني 2020، مات عبدالرحمن محمد هربي (12 سنة) أثناء مغادرته باب منزلهم. قتلته شظية طائشة، إثر وقوع قذيفة في حي 7 يوليو أطلقها مجهولون. لكن ما ليس مجهولاً، هو أن مطلقيها بلا ضمير، لا يلقون للمدنيين بالًا، ولا ترتجف قلوبهم للشراكة الوطيدة التي عمّقوها مع الموت والخراب.
ثم يأتي دور إعلامهم الموجه الذي لا يأبه للضحايا، لكنه يفكر في كيفية استغلالهم. هناك دومًا دقائق للتبرير في كل انتهاك، حيث يشحذ كل فريق أسلحته بعد التأكد من الهوية المدنية للضحايا والطبيعة الصماء لضمائر المتقاتلين.
والمدنيون الذين لم تمسهم الحرب بشكل مباشر، أبدلت أحوالهم وحوّلت حياتهم إلى جحيم من القلق والخوف. فالأطفال المصابون بسوء التغذية، غالبًا ما يكتشف الأطباء أنهم يعانون أيضًا من اضطراب ما بعد الصدمة؛ كحال خديجة محمد (10 سنوات)، التي يبلغ وزنها 10 كيلوجرامات فقط، تتناول أدوية مضادة للاكتئاب أثناء تلقيها العلاج في قسم سوء التغذية، في مستشفى الثورة العام.
ومع تحول الانتهاكات إلى روتين يومي، يتعمد الإعلام النأي عن مواكبتها، ويدخل بوتقة الملل والضجر، وكأنه لا شيء باعث على الإثارة، في أخبار مدينة تحتضر.