صحا اليمنيّون، كعادتهم منذ ست سنوات، على خبر آخر مفزع، لكن هذه المرة لم يكن يتعلق بالحرب والصراع الدائر في البلاد وما يخلفه من تبعات ومآسٍ وأوجاع بشكل يوميّ، بل كان خبر وفاة القاضي العلّامة الجليل محمد إسماعيل العمرانيّ، وهو خبر نزل كالصاعقة على جميع اليمنيين في داخل البلاد وخارجها.
كان الشيخ العلّامة الجليل بمثابة أيقونة أمل لكثير من اليمنيين، ومصدر سكينة واطمئنان وإلهام، في زمن مظلم تنزف فيه اليمن خيرة أبنائها في كافة المجالات، من علماء وأكاديميّين وشخصيات سياسية وطنية وأدبية وثقافية ونماذج في كافة علوم الحياة.
لذا مثّل رحيله صدمة انعكست بشكل كبير في جنازته، التي احتشدت خلفها صنعاء ، بينما طغت رسائل ومنشورات الحزن والرثاء على كافة الوسائل الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، في مشهد عبّر عن مدى حب وتقدير وإجلال اليمنيين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم لهذه الشخصية المحترمة والعلّامة الذي اشتُهر بالوسطيّة والاعتدال.
أحد المواطنين الذين حضروا تشييع القاضي العلّامة إلى مثواه الأخير في مقبرة الدفعة بمنطقة السبعين بصنعاء، بعد رفض وزارة الأوقاف والإرشاد دفنه في مقبرة خزيمة التي كانت أسرته تفضّل دفنه فيها، يعبر عن هذا المشهد أكثر بالقول، إن اليمن تودّع اليوم آخر الرجال الطيبين في البلاد.
كان هناك نور ساطع يشع بهجة وأُلفة واعتدالًا ووسطيّة يتصدى لهذه الكتل المظلمة من التطرف الديني والمذهبي التي تشكلت، يمنح السلام والأمان لليمنيين في الوقت الذي يعمل فيه الجميع من الأطراف المتخندقة خلف الحرب على تأجيجها ونشر الشقاق والتشظي وإطالة أمد الصراع ونشر أفكارها الظلامية
ويضيف المواطن علي مصلح، وهو من سكان العاصمة اليمنية صنعاء، أن كل مناطق اليمن حاضرة اليوم هنا خلف جنازة محمد إسماعيل العمرانيّ، تبكي آخر الأنقياء في البلاد.
ويُعرف القاضي محمد إسماعيل العمرانيّ كنموذج ينتمي لأسرة عريقة في العلم والصلاح، الذين كانوا بين أقوامهم وفي مجتمعاتهم كالنجوم بين معاصريهم من العلماء، وكمصابيح الهدى في العلم والفضل والصلاح.
احتشاد واسع
لم تعرف صباحات صنعاء، المشِعّة بالحياة والتفاؤل، كل هذا الحزن الذي خيّم عليها، كانت الشوارع شبه فارغة في ظهيرتها التي اعتادت الغرق في الزحام، الكثير شاردون هائمون في الشوارع يبحثون عن أماكن الصلاة والدفن.
كان بين جموع المشيعين من يذرف الدموع، ومن يتلو آيات قرآنية ومن يرفع صوته بالاستغفار والدعاء، بينما تمتم الغالبية بطلب الرحمة والمغفرة لمن رأوا فيه صورة نموذجية للعالِم الجليل الملهم باليسر في زمن الاحتشاد والاستقطاب والتطرف، لمن قال لهم إن "من يريد الجنة، عليه أن لا يغثي أحد".
عبدالواسع الطويلي، وهو من محافظة المحويت، يترحم على القاضي العمرانيّ ويقول لـ"خيوط"، إن اليمن لن تجد مثله، بينما يتحدث محمد غيلان من محافظة تعز بأن القاضي العمرانيّ كان امتدادًا لجيل العمالقة في التاريخ اليمني، مؤكدًا أن الحرب أذته كثيرًا؛ فهناك من حاول جره إليها دون احترام لمقامه وعلمه وسنه كشيخ جليل.
ويضيف عباس أحمد من محافظة عمران لـ"خيوط"، أن القاضي العمرانيّ حظِي بمحبة اليمنيين الذين اختلفوا في كل شخصية دينية ووطنية وسياسية في البلاد، واجتمعوا على محبة القاضي العمرانيّ؛ لذا الجميع يرثيه ويبكي عليه، وهناك رجال، كما أشار إليهم، يمشون خلف الجنازة يذرفون الدموع عليه بشكل لا إرادي، رغم عدم معرفتهم الشخصية به.
من جانبه، يقول حسين دهمان، وهو من محافظة البيضاء لـ"خيوط"، إنه التقى القاضي العلّامة محمد إسماعيل العمرانيّ في رمضان الماضي، وكانت صحته متدهورة، لكنه يشع بالإيمان والثبات، كان حزينًا -وَفق حديث دهمان- على وضع البلاد وتردي حال العباد بسبب هذه الحرب الدائرة.
ضوء في زمن مظلم
في زمن تفقد فيه اليمن خيرة رجالها في ظل حرب طاحنة مزّقت البلاد ونشرت الفوضى والشتات في كل مكان، كان لا بد من مصدر إلهام يبعث الأمل بالحياة وبنور ساطع في آخر النفق الذي وصلت البلاد إلى حافته، في مرحلة صعبة على كل المستويات يتسلل فيها التطرف الديني والتمذهب الذي تغذيه جماعات قذفت بها الحرب، وما تعيشه اليمن من مرحلة حرجة منذ سنوات ما قبل الحرب.
وسط ذلك، كان هناك نور ساطع يشع بهجة وأُلفة واعتدالًا ووسطية يتصدى لهذه الكتل المظلمة من التطرف الديني والمذهبي التي تشكلت، يمنح السلام والأمان لليمنيين، في الوقت الذي يعمل فيه الجميع من الأطراف المتخندقة خلف الحرب على تأجيجها ونشر الشقاق والتشظي وإطالة أمد الصراع ونشر أفكارها الظلامية وثقافتها المستوردة والتي لم يعتَد عليها اليمنيون، الذين برغم اختلافاتهم كان التعايش السمة التي انتهجوها طوال العقود الماضية.
ونعاه الدكتور حمود العودي بالقول: "العارف بالله، والعالم الفقيه القاضي محمد إسماعيل العمرانيّ تجاوز المذاهب والانتماءات، وانتمى للإسلام وحده".
وكتب الصحفي عبدالله الصعفاني، على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: "مات أعلم علماء اليمن بأصول الفقه، ترجّل الفقيه الوسطيّ المعتدل عن جواد رحلة الـ100 عامّ من العمر".
وأضاف: "غادرنا القاضي العلّامة الذي طالما حذّر اليمنيين من التعصب والفرقة، وعندما لم يسمعوه آثر الصمت كأعلى مراتب احتجاج الخائف من الله".
وكتب الشاعر فتحي أبو النصر على صفحته بموقع فيسبوك: "سيزداد التطرف والتطييف في اليمن؛ شيخها وحاميها الوسطي المعتدل مات وانطفأت نجمة نادرة برحيل فضيلة القاضي العمرانيّ".
أبو النصر كتب أيضًا: "لم تستفزني لحظة كتلك التي حاولوا فيها استعراض الإثم الترهيبي ضد العمرانيّ في محاولة بائسة لقهر قاضي الشعب وتلجيمه وهم في عز القوة الواهية".
بدوره، قال الصحفي فتحي بن لزرق: "رحل العمرانيّ آخر "الكبار" وآخر ذكريات الزمن الجميل"، وتحدث عن العمرانيّ الإنسان اليمني الذي لم يكن إلا لليمن، إذ حارت اليمن في هذا الرجل لعقود فكل محافظة ومديرية تظنه منها.
قليلة هي الأشياء التي ظلت واحدة متماسكة بدواخلنا، كان العمرانيّ أبرزها، فلا فلحت حرب ولا انقسام في المساس بمحبة الناس له أو في اختلافهم حوله، ولا يكبر الإنسان إلا بأهله ووطنه، والعمرانيّ اختار أن يكون لكل اليمن فكانت اليمن كلها معه، بحسب بن لزرق، والذي أضاف: "كان اليمن حزبه وكيانه الكبير، وكان اليمنيون بكل اختلافهم، وعاءه الجامع".
ونعته الحكومة المعترف بها دوليًّا في بيان لوزارة الأوقاف ومجلس القضاء الأعلى، والذي أشار إلى دور الفقيد ومناقبه ومكانته الفقهية والعلمية الكبيرة على المستويين المحلي والعربي، وما تركه من مآثر طيبة وإسهام غني في خدمة تمتين قيم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف، لافتًا إلى أن الفقيد العمرانيّ عُرف عنه بالاعتدال والوسطية، فكان خير مدرسٍ وعالمٍ ومفتٍ وناشرٍ للمحبة والسلام والأخوّة والتسامح.
وأوضح ما جسّده الفقيد من خلال نشاطه التدريسي والدعوي للعلوم الفقهية والشرعية، مما أكسبه حب وتقدير مجتمعه وطلابه وكل من جالسه، حيث تخرج على يديه كبار العلماء والقضاة والوعاظ ، مؤكدًا أنه برحيله خسر اليمن أحد أبرز علمائه المحققين بالعلوم الإسلامية.
وقال مجلس القضاء الأعلى في صنعاء، إن رحيل القاضي العمرانيّ يمثل خسارة للوطن والأمة الإسلامية، حيث كان مثالًا للعالِم المتواضع المعتدل، النّشِط في عطائه في مجال التدريس والوعظ، وتخرّج على يديه الكثير من العلماء والقضاة.
ويعتبر العلّامة العمرانيّ أشهر علماء اليمن المعاصرين فيما يتعلق بالعلوم الشرعية والفقهية والدينية، وكذلك هو مفتي الديار اليمنية، ووصلت شهرته لبلدان عربية كثيرة، ويتوافد إليه العلماء ومحبو العلماء من كل بلد لزيارته، ويعتبر مفتي اليمن الأول، وينشط في الإفتاء عبر الصحف والإذاعة في السنوات الماضية لنحو ثلاثة عقود من إذاعة صنعاء في برنامج "فتاوى"، الذي لم يَعُد يذاع منذ بضع سنوات، وكذا مقابلات وبرامج في قنوات تلفزيونية، واللافت بأن العلّامة العمرانيّ لا يميل للسياسة، ولهذا احتفظ بمحبة كل اليمنيين ومريديه، العلّامة (العمرانيّ) عُرف بالإسلام المعتدل في كل مسيرته العلمية والعلمية.