نهر الجوف - حضرموت

هل تعيد التغيرات المناخية أعظم أنهار اليمن المفقودة؟
شهاب الاهدل
November 6, 2020

نهر الجوف - حضرموت

هل تعيد التغيرات المناخية أعظم أنهار اليمن المفقودة؟
شهاب الاهدل
November 6, 2020

 قبل خمسة آلاف عام قبل الميلاد، تعرضت اليمن لكارثة بيئية، بدلت حياة السكان وغيرت طبيعة أرضهم. وبحثًا عن الماء والمرعى هاجر الكثير منهم نحو المرتفعات1، التي لم تمكث طويلًا حتى اجتاحها الجفاف هي أيضًا2. وبذلك انتهى عصر الرطوبة في اليمن، واستحوذ عليها المناخ الجاف المستمر حتى وقتنا الحالي. 

     كانت هذه الكارثة انقلابًا مناخيًّا، حوّل اليمن من أرض رطبة، تغطيها الغابات وتملؤها البحيرات والأنهار إلى أرض جافة وقاحلة. وخلال عصر الرطوبة كان هناك نهر عظيم يشق اليمن من أقصى شمالها الغربي إلى أقصى جنوبها، مجتازًا بذلك مسافة تزيد عن 1300 كلم. سمي النهر باسم نهر الجوف – حضرموت، على الرغم من أن مساره ضم عدة مناطق متباعدة في مرتفعات السروات أهمها صنعاء وصعدة3

     إحدى بدايات النهر كانت في جنوب صنعاء، فيتجه بعد ذلك باتجاه الشمال مكوّنًا سهل صنعاء (حيث تقع مدينة صنعاء حاليًّا)، ثم يهبط أكثر باتجاه الشمال عبر المرور بمنطقة أرحب حتى يصل إلى وادي الجوف. فرع آخر لهذا النهر كان يأتي من شمال صعدة متجهًا نحو الجنوب ومكوّنًا سهل صعدة، قبل أن يهبط بعد ذلك إلى وادي الجوف3. وهناك تتلاقى هذه الفروع فيتشكل نهر كبير يخترق الصحراء نحو المنطقة المعروفة اليوم باسم صافر، حيث ينضم إلى النهر فرع آخر غزير قادم من المرتفعات بعد أن شق طريقه هابطًا من خولان إلى مأرب عبر اختراق جبل الفلج4. وهكذا كان النهر يزداد حجمًا وقوة، فيعبر مندفعًا المنطقة التي باتت اليوم تعرف بصحراء الربع الخالي، ثم يصطدم بهضبة حضرموت، فيشقها مكوّنًا ما نعرفه اليوم بوادي حضرموت، قبل أن يصل في الأخير إلى نهايته في ساحل سيحوت في محافظة المهرة حاليًّا، ويصب أخيرًا في بحر العرب. 

بيئة قديمة مختلفة

     تمتعت كل المناطق التي عبرها النهر ببيئة طبيعية مختلفة عن بيئتها الحالية، وكان الغطاء النباتي في المنخفضات الوسطى من النوع السهبي المكون من حشائش السافانا5، مع وجود أشجار مدارية وأحراج غابية كثيفة على أطراف البحيرات6. أما المرتفعات التي لم يصلها الجفاف إلا متأخرًا، فقد حافظت على رطوبتها حتى العام 2000 قبل الميلاد7، وكان المحيط البيئي فيها يحتوي على بحيرات كبرى وأشجار مدارية واستوائية تغطي الجبال والقيعان والأودية. ويبدو أن الاستيطان البشري كان أكثر كثافة في المنخفضات، حيث اكتُشفت مستوطنات بشرية عديدة بالقرب من البحيرات والسهوب المدفونة حاليًّا تحت الرمال على طول وعرض صحاري الربع الخالي، والرويك، ورملة السبعتين8

هل يعيد الاحتباس الحراري أنهار اليمن القديمة؟

     الاحتباس الحراري هو مناخ حار يسود كوكب الأرض بشكل دوري كل مدى طويلة من الزمن. فالمناخ العالمي بطبيعته يسخن ويبرد كل عدة آلاف من السنوات وفق دورة مناخية تدوم أكثر من مئة ألف عام بقليل، وتسمى بدورة ميلانكوفيتش9. خلال هذه الدورة يتغير المناخ العالمي ما بين ثلاثة مناخات، وهي: العصور الجليدية، والفترات الدافئة التي يحدث فيها الاحتباس الحراري، ومحطة ثالثة تتوسطهما تسمى الفترات المعتدلة.

    كشفت الأبحاث التي أُجريت على صواعد الكهوف، أن المناخ الرطب كان يحل على اليمن بالتزامن مع الفترات الدافئة. وإذا عدنا لنعيد النظر في آخر فترة دافئة شهدها العالم، (حدثت ما بين 11 إلى 6 ألف عام مضى10) فإننا سنجدها احتباسًا حراريًّا هو الأشد منذ مئة ألف سنة مضت 11.  ونجد أيضًا أن اليمن في هذه الفترة عاشت اخضرارًا كثيفًا ورطوبة غير مسبوقة، مع انتشار عشرات الأنهار والبحيرات الكبرى10. ولكن بعد ذلك بدأ الاحترار العالمي بالانخفاض تدريجيًّا، وكان أيضًا بالتزامن مع فقدان اليمن لرطوبتها. منذ ذلك الحين ساد العالم مناخ معتدل، انخفضت فيه سخونة الهواء، وهي العامل الطبيعي المساعد في رفع الرياح الموسمية الهندية المحملة بالأمطار عاليًّا لتستطيع تجاوز العوائق الطبيعية والوصول إلى اليمن. ومع غياب هذا العامل المساعد وتوقف هبوب الرياح الموسمية الهندية، باتت اليمن منذ ذلك التوقيت تكتفي فقط بالأمطار القليلة التي تجلبها الرياح الموسمية الأفريقية12.

عامٌ بعد آخر واليمن تتعرض لمزيدٍ من الأعاصير والفيضانات، حتى حل العام 2020، وتعرضت البلاد بكلها لأمطار غزيرة غير مسبوقة، تسببت بفيضان بحيرة سد مأرب الحديثة، لأول مرة في تاريخها

    في خضم ما نعيشه اليوم من تغيرات مناخية تجر الكوكب بكله نحو احترار عالمي شامل، وخلال فترة قياسية لا تتجاوز خمسة أعوام، تعرضت اليمن منذ العام 2015، لستة أعاصير نادرة الحدوث. أولها كان إعصار تشابالا، رابع أقوى إعصار مسجل طوال تاريخ بحر العرب وشمال المحيط الهندي13، وهي المرة الأولى في التاريخ المسجل التي تستطيع فيها أعاصير المحيط الهندي تجاوز المحيط والوصول إلى اليمن14

     عامٌ بعد عام واليمن تتعرض لمزيدٍ من الأعاصير والفيضانات، حتى حل العام 2020، وتعرضت البلاد بكلها لأمطار غزيرة غير مسبوقة، تسببت بفيضان بحيرة سد مأرب الحديثة، لأول مرة في تاريخها. وظهرت أصوات تتحدث عن دخول اليمن في تحولات مناخية قد تعيدها من جديد إلى مناخها القديم15. فهل يمكن اعتبار ما يحدث مؤشرًا على بدء عودة الرياح الموسمية الهندية، وأن اليمن تعيش بالفعل تغيرات مناخية ستعيد لها خضرتها ورطوبتها القديمة، وبالتالي يعود نهر الجوف حضرموت ليتدفق من جديد؟  هذا ما ستكشفه لنا العقود القليلة القادمة. 

مصادر:

  1. Bronze Age Magazine. The Archaeology Fund: http://arabian-archaeology.com/arch4bronze.htm\

  2. ماري لويز اينيزان (2007) فن الرسوم الصخرية واستيطان اليمن في عصور ما قبل التاريخ: المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية - صنعاء. انظر الخريطة: ص 65.
  1. المصدر نفسه (رقم 2)، صفحة 57.
  2. Anne-Marie Lézine and other (2010) Climate change and human occupation in the Southern Arabian lowlands during the last deglaciation and the Holocene: page 423. Global and Planetary Change 72 (2010) 412–428
  3. Adrian G. Parker & others (2006). Volume 66، Issue، pp. 465-476. Published online by Cambridge University Press: 20 January 2017: DOI: https://doi.org/10.1016/j.yqres.2006.07.001
  4. نفس المصدر (رقم 2)، صفحة 65.
  5. نفس المصدر (رقم 2)، صفحة 18.
  6. نفس المصدر (رقم 2)، صفحة 68.
  1. David Archer (2005) How long will global warming last? Real climate logo: http://www.realclimate.org/index.php/archives/2005/03/how-long-will-global-warming-last/ 
  1. Samuel L.Nicholsona. February (February 2020) Pluvial periods in Southern Arabia over the last 1.1 million-years.   2020، 106112 https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0277379119304883
  1. Global warming natural cycle. open source system foundation: http://ossfoundation.us/projects/environment/global-warming/natural-cycle
  1. MD Best track data 1982-2020 (xls). India Meteorological Department. regional specialized meteorological center for tropical cyclones over north indian ocean. with guide on how to read the database is available: http://www.rsmcnewdelhi.imd.gov.in/index.php?option=com_content&view=article&id=48&Itemid=194&lang=en
  1. Yehouda Enzel & others. (2014) Early Holocene northward shift of the ITCZ and the Indian summer monsoon rains over Arabia: An alternative view. Geophysical Research Abstracts: Vol. 16، EGU2014-29، 2014
  1. NASA. Earth Observatory: Chapala Drenches the Desert. Published Nov 6، 2015: https://earthobservatory.nasa.gov/images/86940/chapala-drenches-the-desert
  1. أنور العنسي، بي بي سي العربية: فيضانات اليمن: كيف "تنبأ" رئيس فرنسا السابق فرانسوا ميتران بالأمطار الغزيرة. 21 أغسطس/ آب 2020. https://www.bbc.com/arabic/middleeast-53850402
•••
شهاب الاهدل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English