من "الأحمدية" إلى "الفلاح"

قصة مدرسة تختزل شغف اليمنيين بالتعليم وتعاونهم لتجويده
أسامة الفقيه
February 1, 2021

من "الأحمدية" إلى "الفلاح"

قصة مدرسة تختزل شغف اليمنيين بالتعليم وتعاونهم لتجويده
أسامة الفقيه
February 1, 2021
أعضاء فرقة الكشافة والمرشدات بمدرسة الفلاح للعام الدراسي 1975/1976م - أرشيف: إسماعيل الفقيه

يحتفل العالم باليوم العالمي للتعليم، الذي يصادف 24 يناير/ كانون الثاني من كل عام، من أجل التذكير بدوره المهم ورسالته السامية في تعليم الأجيال. وهذه فرصة أيضاً للفت الانتباه إلى ما تعانيه العملية التعليمية كما هو الحال في اليمن. فعلى الرغم من الظروف الصعبة الراهنة التي تواجه قطاع التعليم والعاملين والعاملات فيه جراء النزاع المسلح الدائر في اليمن وتبعاته الكارثية، إلا أن هذه المناسبة العالمية فرصة للتذكير برغبة اليمنيين واليمنيات منذ عقود طويلة في التوجه نحو التعليم والاستثمار فيه.

بغرض توثيق تجارب مدرسية فريدة من نوعها في مجال التعليم، أردت تسليط الضوء في السطور التالية على نموذج واحد عن تكاتف المجتمع المحلي في تأسيس "مدرسة"، وعلى تجربة قرية "الغلبية" بعزلة الأعبوس في مديرية حيفان بتعز، في تأسيس مدرسة القرية المعروفة حاليًّا باسم مدرسة "الفلاح"، امتداداً لمدرسة الأحمدية التي تأسست في خمسينيات القرن العشرين الماضي، والتي تعد من بين أقدم المدارس في اليمن الشمالي آنذاك.

إن أكثر ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة هو استثمار زياراتي المنتظمة لوالدي الأستاذ التربوي إسماعيل محمد غالب الفقيه، في توثيق نزر يسير من الكم الهائل للمعلومات والتفاصيل في ذاكرته ونشر بعض ما جمعه قبل سنوات مضت. فقد قضى الوالد 37 سنة في مجال التعليم، كانت بدايتها كمدرس في مدرسة "الفلاح" بين العامين الدراسيين 1974 و1975.

يشير أحمد محمد الحربي في كتابه "المسألة التعاونية: الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي والتطوير" بأن المشروع الخيري الغلاّبي- "أعبوس" قد أنشَأ في مطلع الخمسينيات مدرسةً في قرية الغَلّيبة، وكانت المدرسة تدار بواسطة لجنة أهلية. ولكن في الواقع، بين حوالي 1948 -1951، أرسل حمود عبد الرب الذي كان مغترباً ومتزوجاً من بريطانية رسالة إلى الإمام احمد حميد الدين يطلب فيها بناء مدرسة في القرية. فأمر الإمام أحمد عامله في "المفاليس" (قبل انتقاله إلى حيفان) باستكشاف المنطقة وبناء المدرسة في المكان المناسب.

كانت تسلم تكاليف البناء على دفعات بواسطة الشيخ ثابت حميد. وكان آخر قسط استلمه محمد علي إسماعيل من عامل حيفان مبلغًا قدره 25 ريال فرنسي (أو "فرنصي" كما يقال في الدارجة أو ماريا تريزا)، مقابل قيمة 50 خشبة (فِرْوِش) لسقف المدرسة، أما النوافذ والباب فقد أكملها طاهر إسماعيل سعيد بمبلغ 17 ريال فرنسي. كانت المدرسة عبارة عن غرفة كبيرة ومستطيلة ويوجد فيها رصيف بمحاذاة الجدران يجلس عليه الطلاب، وفي طرفها "دكة" خاصة بالمعلم.

وقد سُميت المدرسة بـ"المدرسة الأحمدية"، واعتمدت وزارة المعارف الفقيه عبدالله أحمد غالب معلّمًا بالمدرسة عام 1951، وكان أول موظف حكومي تربوي من أهالي قرية الغليبة، ويتقاضى راتبًا شهريًّا قدره 8 ريال فرنسي وقدح حَبّ (غَرِب)- الذرة الحمراء.

كان المعلم يكتب نماذج رسائل على السبورة تتضمن أحوال القرية وما يفيد باحتياج الأسرة، وكان الطلاب ينقلون نص الرسالة حرفيًّا، ويقومون بكتابتها يوميًّا حتى يتمكنوا من كتابتها عن ظهر قلب ليتمكنوا من كتابة رسائل مماثلة إلى آبائهم في عدن. 

  وفي موضوع لم ينشر عن المدرسة ومعلميها، أورد والدي الأستاذ إسماعيل نبذة عن الفقيه عبدالله أحمد غالب جاء في سياق موضوعه بأن الفقيه عبدالله قد ولد حوالي عام 1915، في قرية الغليبة أعبوس، حيث نشأ فيها، ودرس في القرية على يد غالب الفقيه لفترة قصيرة، ثم انتقل إلى مدينة عدن. وقد تفرغ للدراسة في مسجد "أبان" لدى إمام المسجد، حيث انتظم في الدراسة لمدة سنتين حتى أكمل دراسته، ودرس هناك أيضًا الإسعافات الأولية وضرب الحقن وإجراء التطعيم. وبعد أن أكمل دراسته، عُيّن إمامًا ومدرّسًا وقيّمًا لمسجد "الصهاريج"، وعمل فيه لمدة ستة أشهر، ثم انتقل إلى مسجد "الطويلة"، حيث عمل فيه إمامًا ومدرسًا وقيّمًا لمدة ثلاث سنوات، ثم عاد إلى القرية.

صورة لطلاب وطالبات الصف السادس الابتدائي في العام الدراسي 1974/1975م - أرشيف: إسماعيل الفقيه

وذكر بأن المدرسة الأحمدية كانت مختلطة (بنين وبنات)، ولا يوجد فيها فصول دراسية، كما هو متعارف عليه الآن. كان نظام التعليم لا يختلف عمّا يعرف آنذاك بـ"الكتاتيب والمِعْلامات"، فقد كان الفقيه يقسم الطلاب والطالبات إلى حلقات دراسية بحسب المستوى (مبتدئ – متوسط – متقدم)، وقد يقسمون إلى أكثر من ثلاث مستويات، وقد تُشكل أكثر من حلقة في المستوى الواحد. 

كانت أهم المواد التي تدرس آنذاك تتضمن الهجاء "القاعدة البغدادية"، والقرآن والتجويد، وكتاب الزبد في الفقه الشافعي للمستويات العليا، والحساب بطرق مبسطة. أما دروس اللغة العربية فقد كانت تقتصر على الخط والإملاء وكتابة الرسائل. كان نص رسالة موجهة من القرية إلى المدينة مكتوبٌ على السبورة بشكل دائم، وكانت تتضمن التحية والسلام، وطلب المصروف الشهري أو تأكيد استلامه، وكذلك تفاصيل عن مصاريف العمال (في حالة النقوى أو الحصاد). وقد يشير نص الرسالة إلى الملابس إن كانت المناسبة عيدًا، وشرح أحوال الزراعة والمواشي، وتختتم الرسالة بالدعاء لرب الأسرة بطول العمر. كان ينقل الطلاب نص الرسالة حرفيًّا، ويقومون بكتابتها يوميًّا حتى يتمكنوا من كتابتها عن ظهر قلب ليتمكنوا من كتابة رسائل مماثلة إلى آبائهم في عدن. 

وبعد قيام ثورة 26 سبتمبر/ أيلول في 1962، قام أهالي القرية ببناء مدرسة "الفلاح" التي افتتحت عام 1967، للتدريس حتى الصف الرابع الابتدائي. وقد عين مكتب التربية والتعليم في لواء تعز الأستاذ محمد محمد الغفاري والأستاذ عبدالدائم السادة، لافتتاح المدرسة إلى جانب الفقيه عبد الله، وبنيت (الفلاح) على أنقاض (الأحمدية). وعمل الفقيه عبدالله في هيئة التدريس بالمدرسة الجديدة مدرساً لمادة القرآن الكريم والتربية الإسلامية.

وقد درس على يد الفقيه عبدالله الكثير من البنين والبنات، ومن بينهم مؤسسون لعجلة التطوير في اليمن، وشخصيات أسهمت في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في اليمن. 

وتولى إدارة المدرسة عدد من الآباء الأجلاء في تلك المرحلة، منهم على سبيل الذكر الأستاذ عبدالباقي عبدالله المرشدي (قاضي القرية) حتى عام 1972. وفي ذات العام تولى إدارة المدرسة الأستاذ عبد الباقي محمد أحمد قاسم الذي تركها في نهاية العام 1974.   

تخرج والدي الأستاذ إسماعيل من معهد المعلمين العام بصنعاء في العام 1973/ 1974، وأرسلته وزارة التربية والتعليم إلى مدرسة الفلاح في العام الدراسي 1974/ 1975 للعمل كمدرس، وأصبح مديرها للعامين الدراسيين 1975/ 1976 و1976/ 1977. وفي العام الدراسي 1976/ 1977، حصلت مدرسة الفلاح على الترتيب الأول في تقييم الأداء على مستوى الجمهورية (المعروفة آنذاك بالجمهورية العربية اليمنية).

  يقول والدي: "كان مدير المدرسة الأستاذ الفاضل عبدالصمد هزاع مقبل رحمه الله، وكانت مدرسة الفلاح شعلة من النشاط العلمي والتربوي والثقافي. ولا يعود الفضل فحسب لإدارة المدرسة والعاملين فيها، بل إلى جهد مجلس الآباء وشباب القرية والأمهات. كان العمل في التدريس يوضع في كفة، وفي كفة أخرى الأنشطة المصاحبة للعملية التعليمية والمشاركة في الأعمال الإدارية، مثل الأرشفة وإعداد السجلات. كان دوامنا يبدأ في الساعة 7:30 صباحًا وينتهي عند غروب الشمس مع أذان صلاة المغرب، وقد نستمر في العمل إلى وقت متأخر من الليل، وكنا ننام في المدرسة في بعض الأحيان". 

قال لي والدي بأنه في بعض الأيام، كان هو ومعظم هيئة التدريس يجتمعون ويمضغون القات بعد الظهر في منزل مدير المدرسة عبدالصمد هزاع مقبل، لمناقشة الأنشطة الثقافية والعلمية أو مناقشة مستوى إنجاز الأعمال الإدارية. وفي معظم تلك الأيام، كانوا ينامون في منزله، وفي الصباح يذهبون إلى المدرسة. 

كان النشاط المسرحي من بين الأنشطة التي كانت تعمل عليها مدرسة الفلاح، ومن بين المسرحيات التي مثلها الطلاب مسرحية "تاجر البندقية" لوليم شكسبير، وقد أشار المخرج المسرحي الفلسطيني حسين أسمر في كتابه "المسرح في اليمن؛ تجربة وطموح" إلى المسرح المدرسي في قرى عزلة الأعبوس

كان التكاتف المجتمعي في القرية من أجل الاستثمار في التعليم جليًّا، كما قال والدي. فعلى سبيل المثال، كان شباب القرية -خاصة أولئك الذين يدرسون في المستوى الجامعي- يحضرون إلى المدرسة ويشاركون في مختلف الأنشطة. وفي إجازة نصف العام الدراسي، كانوا يحضرون اجتماعات هيئة التدريس لمناقشة المسائل التعليمية والثقافية والاجتماعية التي تهم القرية. وكانوا يفتتحون المدرسة في الإجازة الصيفية ويقيمون حصصاً دراسية كمراجعة لما تم تدريسه في العام الدراسي الماضي، إلى جانب إعطاء دروس جديدة من المنهج قبل بداية العام الدراسي التالي.

مدير وأعضاء هيئة التدريس في مدرسة الفلاح للعام الدراسي 1974/1975م - أرشيف: إسماعيل الفقيه

يشير والدي إلى أنه في إحدى المرات شُكّلت لجنة من الشباب لوضع منهج مبسط لبدء تدريس اللغة الإنجليزية من الصف الرابع الابتدائي (حاليًّا تدرس اللغة الإنجليزية من الصف السابع الأساسي) للمساهمة في القضاء على عقدة الكثيرين في تعلم اللغة الإنجليزية. يقول بأن النتائج كانت مذهلة وكان طلاب الصف الرابع الابتدائي الذين درسوا اللغة الإنجليزية في ذلك المستوى من أكثر الطلاب تميزًا. 

ومن بين القضايا التعليمية، نوقشت في مرة ثانية فكرة افتتاح صف روضة تمهيدي (قبل الصف الأول الابتدائي). وبالفعل تم فتح صف جُمع فيه الأطفال الذين لم يتجاوزوا سن الالتحاق بالمدرسة، ولديهم رغبة في التعلم، وكان أول معلم لهذا الصف السيد علي محمد ناجي صالح. 

يقول والدي: "كان التلاميذ الذين درسوا في الصف التمهيدي من أفضل الطلاب في التحصيل الدراسي. كنا نصمم لهم شهادات من ورق التصوير الفوتوغرافي، وكنا نعمل على زخرفة الشهادات ونزينها بالورود". 

ذكر والدي أيضاً بأن العديد من الأنشطة كانت تعقد في المدرسة من بينها الأنشطة الكشفية والرياضية والصحية والاجتماعية. وقد وجد والدي، كما ذكر، ثمرة من سبقوه في العمل في المدرسة كالأستاذ عبد الحليم سيف محمد الذي كان له الفضل في تأسيس النشاط الرياضي لأول مرة في تاريخ المدرسة، حيث عمل على تشكيل فريق لكرة القدم، وكان فريقاً متميزاً. وذكر والدي أيضاً الأستاذ مصطفى باشا ناجي كان له بصمات واضحة على بعض التلاميذ في تعلم الخط العربي. وكان ذلك عند تأديتهما لخدمة التدريس الإلزامية في العامين الدراسيين 1972/1973 و1973/ 1974.

كان النشاط المسرحي من بين الأنشطة التي كانت تعمل عليها مدرسة الفلاح في تلك الفترة، وذكر والدي بأن من بين المسرحيات التي أقيمت مسرحية "تاجر البندقية" لوليم شكسبير، حيث كان والدي يساعد في إعداد هذه المسرحيات. وقد أشار المخرج المسرحي الفلسطيني حسين أسمر في كتابه "المسرح في اليمن؛ تجربة وطموح" إلى المسرح المدرسي في قرى عزلة الأعبوس. 

أشار والدي أيضًا إلى واقعة طريفة حدثت معه في عام 1999، إذ يقول: "كنت أبحث عن كتاب "المسرح في اليمن"، لحسين أسمر. وفي إحدى المرات وأثناء وجودي في دكان لبيع السمك وقليه، شد انتباهي ورقة من كتاب حسين أسمر الذي أبحث عنه! وجدت أن بائع السمك يغلف السمك المقلي بأوراق يمزقها من الكتاب، ولم يبق من الكتاب سوى النصف. ولكن لحسن الحظ، وجدت بجانبه نسخة أخرى لذات الكتاب لم يمزق منه شيء، فطلبت من بائع السمك الكتابَ مقابل أن أعطيه كمية كبيرة من الأوراق والكتب المدرسية القديمة، وقد فرح بائع السمك بذلك كثيرًا. كنت قد بحثت عن هذا الكتاب كثيرًا، ولكن لم أجده إلا عند صاحب السمك بالصدفة! وما أغرب الصدف!".


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English