الزراعة.. القطاع التائه بين الأوهام والحقائق

هل يستطيع سدّ فجوة الأمن الغذائي في اليمن؟
د. مطهر العباسي
October 27, 2022

الزراعة.. القطاع التائه بين الأوهام والحقائق

هل يستطيع سدّ فجوة الأمن الغذائي في اليمن؟
د. مطهر العباسي
October 27, 2022
Photo by: Ali Jameel - © Khuyut

في ظل الحرب القائمة وتداعياتها الكارثية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تدور نقاشات وتساؤلات حول مدى إمكانية إنعاش الزراعة في اليمن لتحقيق الاكتفاء الذاتي أو بمعنى أصح لسد فجوة الأمن الغذائي، وهذا التساؤل ينم إما عن عدم معرفة بواقع القطاع الزراعي وتحدياته، أو عن أوهام منسوجة في خيال البعض حول الإمكانات الواعدة للزراعة في سهول اليمن ووديانها وجبالها، واحتمال تحقيق الاكتفاء الذاتي من الإنتاج الزراعي، ومن القمح تحديدًا! 

واضح أنّ الزراعة تحتل مساحة واسعة في المخيال الشعبي اليمني بحكم التأريخ والطبوغرافيا، لكن التغيرات عبر القرون وحقائق الوضع الراهن، تحتم على الجميع خفض سقف التوقعات والبعد عن الشعارات الرنانة، وتناول الزراعة بشيء من العقلانية والموضوعية.

وكما هو معلوم، فإنّ إنعاش القطاع الزراعي يتطلب مكونات رئيسية، تشمل: توفر الأرض الصالحة للزراعة، والموارد المائية الكافية للري، ورأس المال اللازم للاستثمار في استصلاح الأراضي، وتطوير نظم الري والميكنة وتكنولوجيا الإنتاج الزراعي، وتوفر الخدمات الزراعية الداعمة، مثل: البذور، الأسمدة، الطاقة، التخزين، التغليف، التسويق، وغيرها، فضلًا عن توفر العنصر البشري المؤهل والمدرب القادر على تطوير المنشأة الزراعية، إداريًّا وفنيًّا.

تحديات القطاع الزراعي

صحيح أنّ معظم سكان اليمن (73%) يعيشون في الريف ويعتمدون على الزراعة كمصدر دخل رئيسي لهم، ولكن بالمقابل وبسبب الحرب، انخفضت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي إلى حوالي 12%، وتقلص حجم العاملين في القطاع الزراعي إلى 25% من إجمالي القوة العاملة، ومن الحقائق الصادمة أنّ القطاع الزراعي يواجه تحديات هيكلية لا يمكن تجاوزها، منها: أنّ المساحة الصالحة للزراعة لا تتجاوز 1.5 مليون هكتار، ما يعادل 3% فقط من إجمالي مساحة اليمن، وتبلغ المساحة المستغلة فعلًا 1.1 مليون هكتار، وهذا يعني أنّ إمكانية التوسع في الزراعة محدود جدًّا.

أضف إلى ذلك، أنّ اليمن يقع في نطاق المناخ الجاف، وتعد الأمطار المصدر الرئيسي للمياه، والتي تتفاوت من عام إلى آخر، وتختلف كثيرًا بين المناطق الساحلية والجبلية والصحراوية، ولذلك تصنف اليمن ضمن البلدان التي تعاني من الفقر المائي، فلا يتجاوز نصيب الفرد الواحد من المياه 150 مترًا مكعبًا في السنة، مقارنة بحوالي 1000 متر مكعب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و2500 متر مكعب كمتوسط عالمي، وهذا يمثّل تحدّيًا كبيرًا ليس على الزراعة فحسب، بل على حياة الإنساني اليمني عامّة.

بعد ثماني سنوات من الحرب المدمرة، تعاني اليمن من مخاطر انعدام الأمن الغذائي، فالبيانات المستجدة عن أوضاع الغذاء في اليمن خطيرة ومقلقة إلى حدٍّ كبير، وبحسب مؤشرات "التصنيف المرحلي المتكامل"، الذي تعده منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" بالشراكة مع وزارة التخطيط والتعاون الدولي، تبيّنَ أن 23.4 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي.

كما أنّ إنعاش القطاع الزراعي يحتاج إلى استثمارات مالية كبيرة في البنية التحتية الزراعية وفي العملية الإنتاجية، وللأسف يعاني القطاع من تدنّي استثمارات القطاع الخاص، وتشتّت وصغر حجم الحيازات الزراعية، والتي تبلغ بالمتوسط 0.9 هكتارات فقط للحائز الواحد، ممّا يؤدي إلى انخفاض الإنتاج والإنتاجية، وعدم الاستفادة من اقتصادات الحجم، "أي توفر مساحات زراعية واسعة وغلة عالية، وبالتالي انخفاض تكلفة المنتج"، إضافة إلى أنّ المنتجات الزراعية تواجه صعوبات وتحديات متعلقة بالتخزين والتغليف والتسويق، وغيرها من الخدمات الزراعية.

الأمن الغذائي أم الاكتفاء الذاتي

دارت نقاشات وحوارات خلال العقود الماضية، على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، حول جدوى وفاعلية برامج وسياسات الاكتفاء الذاتي لبعض المحاصيل الزراعية في ظل عدم توفر ظروف مواتية لإنتاجها، وأثبتت تجارب العديد من الدول أنّ مثل هذا الهدف يعتبر سرابًا أو وهمًا، قد تستخدمه السلطات الحاكمة كشعار براق سرعان ما تثبت الوقائع عدم إمكانية تحقيقه، خاصة إذا كانت متطلبات إنجازه غير متوفرة. 

وفي حالة اليمن، استطاع القطاع الخاص تحقيق نسب عالية من الاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات الزراعية، مثل الخضروات وبعض الفواكه (الموز، سنويّا، والعنب والرمان موسميًّا)، والدواجن والبيض، والوصول إلى نسب متوسطة من الاكتفاء في البن والعسل، ونسب منخفضة جدًّا للاكتفاء الذاتي من القمح والبقوليات والألبان وغيرها.

وبشكل عام فإنّ هدف الاكتفاء الذاتي لمعظم المنتجات الزراعية (النباتية والحيوانية) يظل بعيد المنال، خاصة إذا عرفنا أنّ أكثر من 90% من استهلاك اليمن من المواد الغذائية تستورد من الخارج.

وبالمقابل، توافق الإجماع الدولي في مؤتمر قمة الغذاء، عام 1996، على أنّ خطط وبرامج التنمية يجب أن تعطي أولوية لضمان الأمن الغذائي، والذي "يعتبر متوفرًا عندما يحصل جميع المواطنين على مصدر كافٍ وآمنٍ للغذاء وبكمية تسد احتياجاتهم الغذائية، ليتمكنوا من القيام بأنشطة الحياة بشكل حيويّ ومنتج". 

وبعد ثماني سنوات من الحرب المدمرة، تعاني اليمن من مخاطر انعدام الأمن الغذائي، فالبيانات المستجدة عن أوضاع الغذاء في اليمن خطيرة ومقلقة إلى حدٍّ كبير، وبحسب مؤشرات "التصنيف المرحلي المتكامل"، الذي تعده منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" بالشراكة مع وزارة التخطيط والتعاون الدولي، تبيّنَ أنّ 23.4 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، إضافة إلى أنّ 1.6 مليون شخص يقعون في المستويات الطارئة لخطر الجوع، كما أنّ التصنيف المرحلي يوضح أنّ 2.2 مليون طفل و1.6 مليون امرأة يعانون من سوء التغذية الحادّ، ولأول مرة، يبيّن التصنيف المرحلي أنّ قرابة 160 ألف شخص في اليمن يواجهون خطر "المجاعة"، ما لم تُقدَّم لهم مساعدات طارئة وعاجلة. 

أضف إلى ذلك، أنّ تداعيات الحرب أدّت إلى قفزات قياسية لأسعار السلع والخدمات (ارتفاع معدل التضخم)، وتدهور القوة الشرائية للريال اليمني، بسبب تزايد سعر صرف الريال مقابل العملات الأجنبية، كما تضاعفت معدلات البطالة والفقر، ونتج عن كل هذا صعوبات حادّة للحصول على الغذاء، وخاصة لدى الشرائح الأقل دخلًا، والتي اتسع نطاقها خلال فترة الحرب، ممّا جعل المنظمات الدولية تصنف أزمة الغذاء في اليمن كأسوأ أزمة على مستوى العالمي.

القات وما أدراك ما القات!

يمثل القات الكابوس المخيف للتنمية الزراعية وللأمن الغذائي ولصناع القرار، فخلال العقود الخمسة الماضية تزايدت مساحة زراعة القات حوالي 25 ضعفًا، وأصبحت تشكِّل قرابة 15-20% من إجمالي الأراضي الزراعية، وتتضاعف تلك النسبة في الأراضي المروية، كما أنّ الإنتاج تضاعف بالمقدار نفسه أو أكثر، ومن جانب آخر، يستهلك القات أكثر من 35% من الاستخدامات الزراعية للمياه، وتواجه الأحواض المائية خطر نضوب المياه الجوفية، بسبب الحفر العشوائي والضخ المستمر للمياه لزراعة القات، ممّا يُنذر بكوارث بيئية، حاضرًا ومستقبلًا.

وتتباين المواقف ووجهات النظر حول زراعة القات وتأثيرها السلبي على الإنتاج الزراعي، إلّا أنّ البعض يرى أنّ القات يساهم في تعزيز الاقتصاد الريفي، وفي إعادة توزيع الدخل بين الحضر والريف، وبالتالي تحسين مستوى المعيشة في مناطق زراعته، وفي الفئات العاملة في تسويقه وبيعه.

ومن سخريات الزمن، يمكن القول إنّ اليمن يحقق "الاكتفاء الذاتي" من إنتاج القات! الذي أصبح صناعة متكاملة؛ بدءًا من المزارع والحقول، مرورًا بشبكات التوزيع والنقل والتسويق، وصولًا إلى الأسواق المنتشرة في ربوع اليمن قاطبة، ريفًا وحضرًا، فثقافة استهلاك القات أصبحت متأصّلة في المخيال والمزاج الشعبي والمجتمعي بين الذكور والإناث ومعظم الفئات العمرية، كما أنّ مناقشة مخاطره وتداعياته أصبحت من التابوهات التي يخشاها الجميع، الرسمي وغير الرسمي، وهنا أتذكر الحوارات والنقاشات التي دارت أثناء التحضير والإعداد لمؤتمر "القات" في عام 2002، حيث لم يجرؤ أحد من الجانب الحكومي على إدخال أي توصيف للعنوان، فلم توضع كلمة "مشكلة" أو "مخاطر" أو "تحديات"، وذلك خوفًا من ردود الفعل المحتملة وعدم اتخاذ أي موقف تجاه القات وما أدراك ما القات!

ما العمل...؟

تكمن أهمية تنمية القطاع الزراعي في دوره في الحدّ من انعدام الأمن الغذائي، والذي وصل إلى مستويات خطيرة خلال فترة الحرب والصراع، ولذلك فإنّ واجب المسؤولية التاريخية على أطراف الصراع الجلوسُ إلى طاولة الحوار لإنهاء هذه الحرب العبثية، ووضع الأسس السليمة لمرحلة السلام والاستقرار، والعمل على تدشين برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية الهادفة لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وإنعاش الاقتصاد الوطني، بما في ذلك تنمية القطاع الزراعي ووضع السياسات والبرامج لمعالجة التحديات التي تواجهه، بعيدًا عن العناوين البراقة ومصارعة طواحين الهواء، فالتنمية الزراعية تبدأ بالمياه وتنتهي بها، كما أنّ تحقيق هدف الأمن الغذائي يحتاج إلى العمل على عدد من المسارات، تشمل:

* على المستوى الكلي 

- تعزيز فرص ومرحلة السلام والاستقرار، وهذا يعني التوسع في الاستثمارات التنموية، الحكومية والخاصة، والذي سيوفّر بيئة مواتية لتوليد فرص العمل والحدّ من البطالة والفقر، وبالمحصلة يتحسّن وضع الأمن الغذائي، وتتراجع مخاطر الجوع والمجاعة القائمة حاليًّا.

- مرحلة السلام والاستقرار تعني انتهاج سياسات اقتصادية سليمة (مالية ونقدية وتجارية)، تستهدف السيطرة على التضخم، واستقرار سعر الصرف، وتحسن القوة الشرائية للريال، وتوجيه الإنفاق العام نحو التنمية والإعمار، والوفاء بدفع مرتبات موظفي الدولة، وتعظيم موارد الدولة من عوائد تصدير النفط والغاز، وتعزيز التعاون الدولي لحشد موارد إضافية للاستثمار التنموي، وكلّ ذلك سيصبّ في تعزيز مستوى الأمن الغذائي وتقليل مخاطر انعدامه.

*على المستوى القطاعي

- تنمية الموارد المائية من خلال إقامة الحواجز والسدود، ووضع حدٍّ للاستنزاف الجائر للمياه الجوفية.

- تمكين المزارعين من الوصول إلى مؤسسات التمويل لضمان الحصول على الموارد المالية ذات التكلفة المنخفضة لاقتناء البذور المحسنة وتقنيات الري الحديثة والميكنة المتطورة.

- تشجيع المبادرات المجتمعية لإنتاج محاصيل بديلة للقات وذات مردود اقتصادي مجدٍ، البن في حراز؛ مثالًا، ووضع حدٍّ للحفر العشوائي للآبار بالأحواض المائية في البلاد.

- تشجيع المبادرات والمؤسسات الخاصة للاستثمار في تطوير وتوسيع الخدمات الزراعية المتعلقة بالبذور المحسنة والأسمدة الناجعة والميكنة الحديثة والطاقة البديلة، إضافة إلى خدمات التخزين والنقل والتوزيع والتغليف والتسويق وغيرها.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English