فتيات عدن في مواجهة الاستعمار

الحضور في طليعة كل أشكال النضال والبناء
عيبان السامعي
October 14, 2020

فتيات عدن في مواجهة الاستعمار

الحضور في طليعة كل أشكال النضال والبناء
عيبان السامعي
October 14, 2020

  إن المتتبع لمسار النضال التحرري ضد الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن (1839 – 1967) سيلحظ تعدد الأدوار البطولية التي اضطلعت بها الحركة النسائية اليمنية بمختلف تياراتها منذ مطلع خمسينيات القرن الفارط. فمن ممارسة دور التنوير والتثوير في أوساط النساء من خلال الأندية والجمعيات النسوية، إلى الاشتراك في تنظيم الإضرابات وقيادة المظاهرات، إلى المشاركة الفاعلة في النقابات العمالية وقيادة العمل الطلابي، إلى الانخراط في الخلايا السرية للعمل المسلح، إلى المشاركة العلنية في المعارك المسلحة ضد الاستعمار وأعوانه. 

    وعلى الرغم من هذه الأدوار البطولية المشهودة، إلا أنها لم تحظَ بالتوثيق والدراسة من قِبل المؤرخين والباحثين، ناهيك عن مؤسسات البحث العلمي، وهو ما يعكس الهيمنة الذكورية في الكتابة التاريخية اليمنية المعاصرة. 

    تسلط هذه المادة الضوءَ على أدوار الحركة النسائية في مجرى النضال الوطني ضد الاستعمار البريطاني، واستهلت بشيء من التوصيف والتحليل للعوامل السوسيولوجية التي لعبت دورًا مركزيًّا في نشوء الحركة النسائية اليمنية وتطورها، وذلك على النحو الآتي:

أولًا: العوامل الاجتماعية والتاريخية لنشوء الحركة النسائية:

    بدأت الحركة النسائية اليمنية بالنشوء في مستهل النصف الثاني من القرن العشرين، وارتبط نشوؤها بعدة عوامل، أهمها: 

  1. انتشار التعليم الحديث:

    شرع الاستعمار البريطاني بإنشاء مدارس خاصة بالبنين وأخرى خاصة بالبنات، قائمة على النظام التعليمي الحديث، ابتداءً من نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، وكان الهدف الأساسي من وراء ذلك يتمثل بإعداد جيل من الموظفين والسياسيين الذين يعملون في الجهاز الإداري والحكومي الاستعماري، لا سيما بعد أن تم فصل عدن عن حكومة بومباي، وأصبحت تابعة مباشرة لوزارة المستعمرات في لندن عام 1937. 

    كان التعليم من الأدوات الهامة التي ارتكز عليها الاستعمار البريطاني في محاولةٍ منه لإدامة سلطته على الشعب اليمني وتحقيق أغراضه الإمبريالية، ولضمان ذلك عمد الاستعمار إلى تعيين كادر بريطاني يتولى إدارة المعارف في مستعمرة عدن والمحميات الشرقية والغربية، ابتداءً من "مدير المعارف" ممثلًا بـ"آتنبرو"، وانتهاءً بالكادر التعليمي من المعلمين والمعلمات، ولم يُسمح لليمنيين بالمشاركة في تولي المناصب القيادية في إدارة المعارف إلا نهاية عام 1960، حيث حصل اليمنيون على 3 وظائف قيادية من أصل 8 وظائف، وكان الأستاذ محمد عبده غانم أول يمني يتولى إدارة معارف عدن[1].

    وفي الوقت الذي كانت مدارس التعليم الأجنبي المخصص للجاليات الأجنبية من: البريطانيين، والأوربيين، والهنود، واليهود، والصوماليين، تشهد نموًّا مطردًا، كانت مدارس التعليم الحكومي محدودة لا تتعدى أصابع اليدين! 

    ليس ذلك وحسب، بل وضعت السلطة الاستعمارية قيودًا مشددةً أمام أبناء اليمنيين للالتحاق بالتعليم من خلال سنّ قانون "حقوق المواطنة في عدن" أو ما عُرف شعبيًّا بقانون "المَخْلِقة"، الذي بموجبه اعتُبر كل من يولد في عدن، سواء من أهالي عدن أو من أبناء أعضاء الجاليات الأجنبية من دول الكومنولث، مواطنين مكتسبين لكامل الحقوق المواطنية، ويتمتعون بحق التعليم في مدارس التعليم الحكومي، بينما حُرم أبناء اليمنيين الذين ينحدرون من بقية المناطق الجنوبية والشمالية من تلك الحقوق.

     وبسبب هذه القيود، لجأ الوطنيون اليمنيون إلى إنشاء مدارس أهلية، من أبرزها:

     كلية بلقيس التي افتتحت في 16 أكتوبر 1961، وذلك لإتاحة فرص التعليم لأبناء اليمنيين من الشمال والجنوب على السواء، الذين حرمتهم منه قوانين الاستعمار. وضمت فصولًا دراسية للبنين وأخرى للبنات، وكانت الهيئة التدريسية في الكلية وطنية خالصة، تتكون من: 

    حسين علي الحبيشي ــ عميد الكلية، عبدالله عبدالرزاق باذيب، وشقيقه أبوبكر عبدالرزاق باذيب، وعلي عوض بامطرف، وعبدالعزيز عبدالغني، وعبدالله عيدروس السقاف، ومحمد أنعم غالب، وأحمد عمر بن سلمان، وعبدالرحيم الأهدل[2]. 

    أما بالنسبة للمدارس الحكومية التابعة للإدارة الاستعمارية، فمن أهمها:

  • مدرسة جبل حديد، وهي أول مدرسة أُنشئت عام 1935، وقد خُصصت لتعليم أبناء الشيوخ والسلاطين والوجهاء، ليكونوا فيما بعد تخرجهم ضمن الجهاز الإداري للسلطة الاستعمارية.

    في نهاية أربعينيات القرن العشرين، أنشئت العديد من المدارس الابتدائية والثانوية للبنين والبنات، أبرزها: كلية البيومي "مدرسة ثانوية للبنين"، وثانوية خور مكسر للبنين، والثانوية الصغرى للبنين. بالإضافة إلى كلية خور مكسر وكلية الطويلة، وهما مدرستان ثانويتان خاصتان بالبنات.

    وما يلفت الانتباه وجود تباين كبير بين تعليم البنين وتعليم البنات، كمًّا وكيفًا، إذ كان عدد مدارس البنات أقل من عدد مدارس البنين، كما أن المقررات الدراسية في مدارس البنات كانت أقل من المقررات التي تدرس في مدارس البنين[3]. 

    لقد كان النظام التعليمي في هذه المدارس يقوم على مضامين التعليم الأجنبي؛ إذ كانت اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس الأساسية، وكان المتخرجون من مرحلة الثانوية يحصلون على شهادة كامبردج المشتركة.

كانت تلك المدارس والكليات بمثابة الحواضن الأولى لتشكُّل الحركة الطلابية اليمنية في عدن، ومنها تخرّج الرعيل الأول من الفتيات اللائي انخرطن في مجرى النضال التحرري الثوري وقُدن باقتدار الحركة النسائية اليمنية نحو ذُرى المجد

    وعلى الرغم من ذلك جوبهت هذه السياسات التعليمية الاستعمارية بالرفض والمقاومة الوطنية، فعلى سبيل المثال: في 1 فبراير 1962، قامت طالبات كلية البنات في خور مكسر بتنفيذ إضراب طلابي عام هو الأول من نوعه في البلاد، وقد شمل الإضراب معظم مدارس البنات والبنين، وسرعان ما تطور الإضراب إلى مظاهرات طلابية حاشدة منددة بالسياسة التعليمية الاستعمارية، وقد استمرت عدة أسابيع. وعلى الرغم من أساليب القمع التي استخدمتها قوات الاحتلال البريطاني ضد المتظاهرين من إطلاق القنابل المسيلة للدموع، وإطلاق النيران، واعتقال العشرات من الطالبات والطلاب والزج بهم في المعتقلات بعد إجراء محاكمات صورية لهم، إلا أن تلك الأساليب القمعية لم تفت من عزيمة الطالبات والطلاب، فقد استمرت المظاهرات تجوب شوارع عدن وتندد بالاحتلال، "مما دفع بالسلطة الاستعمارية إلى إغلاق المدارس والكليات لعدة أشهر، بعدها لم تجد معها السلطة الاستعمارية سوى دفع وزير التربية والتعليم آنذاك لعقد اجتماع مع الطالبات وأولياء أمورهن والرضوخ لمطالبهن"[4].

    لقد كانت تلك المدارس والكليات بمثابة الحواضن الأولى لتشكُّل الحركة الطلابية اليمنية في عدن، ومنها تخرّج الرعيل الأول من الفتيات اللائي انخرطن في مجرى النضال التحرري الثوري وقُدن باقتدار الحركة النسائية اليمنية نحو ذُرى المجد والسؤدد.

  1. ظهور الأحزاب السياسية والنوادي والجمعيات: 

    لعبت هذه التكوينات دورًا تنويريًّا وسياسيًّا مهمًّا كان له تأثير واضح في انبثاق الحركة النسائية اليمنية، ومن أبرزها: 

  1. الجمعية العدنية التي نشأت عام 1949، بقيادة: حسن علي بيومي، وأحمد محمد خليل، وعلي محمد لقمان، وأحمد محمد العلوي، وعبده حسين الأهدل، ومحمد علي الأسودي. 

وعبّرت الجمعية عن مصالح البرجوازية التجارية العدنية التي ارتبطت بالمستعمر، وتبنت اتجاهًا انفصاليًّا ونادت بالحكم الذاتي لأبناء عدن من خلال رفع شعار "عدن للعدنيين"، وقد ارتبطت جمعية المرأة العدنية بهذا المكون، وكانت بمثابة الواجهة النسوية له.

  1. رابطة أبناء الجنوب العربي: 

    تأسست عام 1951، بقيادة: محمد علي الجفري، وشيخان عبدالله الحبيشي، وعبدالله علي الجفري.

وضمت لفيفًا من المثقفين والسياسيين والشباب المثقف وخريجي الجامعات والمدارس الثانوية ذوي التوجهات الليبرالية والقومية والماركسية والإسلامية.

    دعت الرابطة إلى وحدة الجنوب، كما رفعت شعارات ضد الاستعمار البريطاني، لكنها شهدت حالة انشقاقات في صفوفها، لا سيما عام 1955، بعد أن شاركت قيادة الرابطة في الانتخابات المزيفة للمجلس التشريعي، التي تمت تحت إشراف السلطة الاستعمارية.

  1. الجبهة الوطنية المتحدة:

    قام المنشقون عن رابطة أبناء الجنوب العربي بتأسيس الجبهة الوطنية المتحدة في نوفمبر 1955، وكان من أبرز المؤسسين: 

    عبدالله عبدالرزاق باذيب، ومحمد عبده نعمان الحكيمي، وعبدالله الأصنج. وقد تبنت الجبهة حملة مقاطعة الانتخابات المزيفة، وواجهت مشروع الاتحاد الفيدرالي لإمارات الجنوب، وناهضت النزعة الانفصالية، ورفعت شعارات الاستقلال الوطني من الاستعمار والوحدة اليمنية.

  1. اتحاد الشعب الديمقراطي: 

     تشكلت الخلايا الأولى لاتحاد الشعب الديمقراطي عام 1953، غير أنه ولأسباب موضوعية لم يعقد مؤتمره التأسيسي إلا في 22 أكتوبر 1961، وهو أول حزب سياسي على مستوى الجزيرة العربية يتبنى وبوضوح النظرية الماركسية. 

    صدر عن الحزب وثيقة "الميثاق الوطني" تحت شعار "نحو يمن حرّ ديمقراطي موحد"، التي اعتبرت أول وثيقة سياسية ونظرية ناضجة في تاريخ اليمن المعاصر، حيث حددت الوثيقة اتجاهات النضال الوطني بالتحرر من الاستعمار والرجعية والإقطاع في الجنوب والشمال وتحقيق الوحدة اليمنية على أسس ديمقراطية كمقدمة لتحقيق الوحدة العربية الشاملة.

    ومن أجل تحقيق تلك الأهداف الوطنية دعت الوثيقة إلى بناء جبهة وطنية ديمقراطية تضم كافة تيارات وفصائل العمل الوطني. 

    أنشأ الحزب في أواخر عام 1961 اتحاد الشبيبة الديمقراطية برئاسة النقابي عبدالله عبدالمجيد السلفي، كما أصدر صحيفة "الطليعة"، التي مثلت نقلة نوعية في الصحافة العدنية بتبنيها قضايا التحرر الوطني وإذكاء الوعي الثوري في أوساط الحركة العمالية النقابية والحركة النسائية والشبيبة اليمنية الديمقراطية. 

  1. حزب الشعب الاشتراكي: 

    تأسس حزب الشعب الاشتراكي في يوليو/ تموز 1962، بقيادة عبدالله الأصنج، وتبنى الحزب الاتجاه البعثي، وقد كان الدافع وراء تأسيسه هو خشية الأصنج ومن معه في قيادة المؤتمر العمالي من تعاظم نفوذ الماركسيين في صفوف النقابات العمالية، لا سيما بعد إشهار حزب اتحاد الشعب الديمقراطي. 

    وقد ارتبطت جمعية المرأة العربية بقيادة رضية إحسان الله بهذا الحزب وبتوجهاته (وهو ما سنأتي على تفصيلها لاحقًا).

  1. الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل:

تأسست في أغسطس/ آب 1963، وتشكلت من المنظمات التالية: حركة القوميين العرب، والجبهة الناصرية، والمنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، والجبهة الوطنية، والتشكيل السري للضباط والجنود الأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية، وتشكيل القبائل. 

قادت الجبهة القومية الكفاح المسلح ضد الاستعمار، وكان لها قطاعًا نسائيًّا بقيادة زهرة هبة الله "نعمة"، وقد لعب القطاع دورًا مهمًّا في مسارات العمل السياسي والمسلح المناهض للاستعمار وركائزه من السلاطين والقوى الرجعية، وصولًا إلى تحقيق الاستقلال في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967. 

  1. نشوء النقابات العمالية:

    بدأت النقابات العمالية بالظهور في مستهل خمسينيات القرن العشرين، وقد تنامت بصورة مطردة، حتى شهد 3 مارس/ آذار 1956، ولادة مؤتمر عدن للنقابات الذي ضم (25) نقابة، وقد ساهم هذا الحدث المهم في تنامي النشاط السياسي والنقابي والثوري المناهض للاستعمار، وقد شاركت النساء بفعالية في غمار هذا الفعل، ومن أبرزهن: ثريا منقوش، وفوزية محمد جعفر، وفطوم على أحمد، وأنيسة سالم، وآمنة عثمان، ورجاء أحمد سعيد، اللاتي انتسبن إلى نقابة المعلمين وأسهمن بدور مشهود في تكوين النقابات الست.

  1. الصحافة العدنية وتأثيراتها التنويرية والتثويرية: 

     أسهم ظهور الصحف الأهلية في عدن في زرع بذرة الوعي السياسي، وقد كانت صحيفة "فتاة الجزيرة" التي تأسست في 1 يناير/ كانون الثاني 1940، أول صحيفة يمنية أهلية، وترأس تحريرها محمد علي لقمان المحامي، وكانت الصحيفة تنشر أخبارًا عن الحراك النسائي وأنشطة جمعية المرأة العدنية التي تترأسها رقية ناصر "رقية لقمان"، وكانت الصحيفة لسان حال الجمعية العدنية ذات التوجهات الانفصالية، كما أشرنا سابقًا. 

    أصدرت ماهية محمد عمر جرجرة الشهيرة باسم "ماهية نجيب" والقيادية في جمعية المرأة العدنية أول مجلة نسائية في شبه الجزيرة العربية. وحملت هذه المجلة اسم "فتاة شمسان". وكانت المجلة تهتم بالقضايا العامة وقضايا المرأة، ومن بينها أخبار المجتمع النسائي. وشملت حقوق المرأة، التي طالبت بها المجلة، الحقَّ في التعليم، والعمل، وحقها في اختيار شريك حياتها[5].

    لقد وفّرت هذه الفضاءات السياسية والنقابية والثقافية البيئة المناسبة لنشاط المرأة اليمنية في عدن، فقد انتسبت العديد من الفتيات إلى هذه التنظيمات، وبدأن يكتسبن الخبرات الأولية في العمل السياسي والنقابي، وهو ما كان له تأثير كبير في نشوء الحركة النسائية بتياراتها المختلفة.

  1. سياسات الاستعمار القمعية وتزايد الغليان الاجتماعي:

    مارست السلطة الاحتلالية البريطانية ألوانًا من القمع والبطش والتنكيل بحق الشعب اليمني في الجنوب، فقد زجّت بالمئات من النقابيين والسياسيين والمثقفين والطلاب والطالبات في السجون، ومارست التعذيب الوحشي، واستخدمت القوة المفرطة في قمع المظاهرات، وحوّلت مدينة عدن إلى قاعدة عسكرية مغلقة تستوطنها المعسكرات والدبابات والمجنزرات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل استهدفت ــ أيضًا ــ مناطق القبائل في الضالع والشعيب وردفان ومناطق أخرى بالسلاح الثقيل وقصفتها بالطيران الحربي، كمحاولة بائسة منها لإخضاع السكان لحكمها الطغياني.

    إن مجمل هذه السياسات قد أجّجت في نفوس اليمنيين السخط والغليان ودفعت قطاعات مختلفة من الشعب إلى مناجزة "العجوز الشمطاء" (بريطانيا) وعملائها بكافة الوسائل والأساليب، حتى طُردت من الديار شرّ طردة!

  1. التأثيرات الناجمة عن المد القومي والثوري في المنطقة والعالم:

     كان لاندلاع ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 في مصر، وقيام الزعيم القومي جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس في 26 يوليو/ تموز 1956، واندلاع الثورة العراقية في 14 يوليو/ تموز 1958، واندلاع حرب التحرير الشعبية الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، ابتداءً من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 حتى 5 يوليو/ تموز 1962، واندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962 في اليمن الشمالي، وغيرها من الأحداث الثورية في المنطقة العربية والعالم، كان لها تأثيرات كبيرة في اضطرام جذوة النضال التحرري في جنوب اليمن، واندلاع ثورة 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1963، من قمم جبال ردفان وصولًا إلى تحقيق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967.

ثانياً: تطور الحركة النسائية اليمنية شكلًا ومضمونًا: 

    بدأت الحركة النسائية اليمنية تتحسس طريقها في نهاية أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن العشرين، وكانت البدايات الأولى في حواضن النوادي والجمعيات النسائية والمدارس والكليات التي تقع تحت نظر السلطة الاستعمارية، لكنها أخذت تتطور مع مرور الوقت بفعل تأثيرات المناخ الثوري المتنامي في المنطقة والعالم، حتى أصبحت مستقلة تمامًا بل ومناهضة للاستعمار، وهي بذلك إنما تؤكد قانونية جدلية مفادها: إن الجديد ينشأ ويولد من رحم القديم ويعمل على تجاوزه ونقضه ديالكتيكيًّا!!

أهم التنظيمات النسائية: 

  1. نادي نساء عدن: 

    وفقًا للمناضلة رضية شمشير، فقد تأسس هذا النادي عام 1945، وضم عددًا من نساء القادة البريطانيين وعددًا من السيدات العدنيات اللواتي ينتمين إلى المجتمع الراقي. لكن سيدات عدن في النادي شعرن بأن البريطانيات يحاولن قيادة الحراك النسائي واحتواءه، فشكلن لاحقًا "جمعية المرأة العدنية"[6]. 

تأسست جمعية المرأة العدنية في العام 1956، وكانت رقية ناصر التي تلقب بـ"رقية لقمان" والمعروفة باسم "أم صلاح محمد علي لقمان" هي أول رئيسة للجمعية

    غير أن د. أحمد القصير يذهب إلى القول بأن هذا النادي نشأ في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وكان يدير هذا النادي مديرة إنجليزية قبل أن تسيطر عليه النساء العربيات. كما كانت زوجة الحاكم البريطاني رئيسة شرف لهذا النادي. أما مجلس الإدارة فكان يضم ثلاثًا من نساء عدن من متحدثات اللغة العربية. كما ضم المجلس عددًا من السيدات تمثل كل منهن جالية من الجاليات العربية التي تقيم في عدن. لكن تركيبة النادي تغيرت بتزايد عدد الشابات العدنيات المتعلمات من خريجات المدارس. وفي أوائل خمسينيات القرن العشرين حيث انضم لهذا النادي فوج كبير من خريجي مدارس البنات في عدن والشيخ والتواهي، بوعي جديد وروح جديدة مستمدة من الوعي الوطني في الداخل والوعي القومي في الخارج. وبدأ عنصر النقد وعدم الرضا عن القيادة الإنجليزية المسيطرة. لم تعد كافية دروس اللغات والرياضة والرحلات وغير ذلك من النشاط الاجتماعي والثقافي، وتاقت النفوس إلى المزيد من الجدية كالمحاضرات والاحتفال بالمناسبات الدينية الإسلامية، ووجود مميز للمرأة العربية في عدن عن باقي نساء الجاليات الأجنبية. 

    وتم بالفعل تعريب النادي بانتخاب رئيسة له من نساء عدن العربيات، هي السيدة نبيهة حسن علي. والجدير بالذكر أن هذا النادي تحول في عام 1957 إلى "جمعية المرأة العربية". وقام بعملية التحويل عددٌ من الشابات يحملن توجهات جديدة وفكر جديد حول تحرر المرأة والوطن ككل. كما كان للبعض منهن أدوارًا أساسية في حركة تحرر المرأة، ومن بين هذه الشخصيات رضية إحسان الله وصافيناز خليفة[7]. 

  1. جمعية المرأة العدنية: 

    تأسست هذه الجمعية في عام 1956، وكانت رقية ناصر التي تلقب بـ"رقية لقمان" والمعروفة باسم "أم صلاح محمد علي لقمان" هي أول رئيسة لهذه الجمعية. وكانت هذه السيدة من أبرز السيدات اليمنيات في نادي نساء عدن قبل أن يتم تأسيس هذه الجمعية. كما كانت سعيدة محمد عمر جرجرة نائبة لرئيسة الجمعية. كما أصدرت ماهية محمد عمر جرجرة الشهيرة باسم "ماهية نجيب" أول مجلة نسائية في شبه الجزيرة العربية، وحملت هذه المجلة اسم "فتاة شمسان". وكانت المجلة تهتم بالقضايا العامة وقضايا المرأة ومن بينها أخبار المجتمع النسائي. وشملت حقوق المرأة التي طالبت بها المجلة الحق في التعليم، والعمل، وحقها في اختيار شريك حياتها[8]. 

    واهتمت الجمعية بدمج المرأة ومشاركتها في عملية التنمية. وكان من أهم أهداف الجمعية تعليم البنات وتدريبهن على الخياطة والتطريز. وقد برز عدد من الرموز من خلال الجمعية[9]، هن: نبيهة حسن علي، عيشة بازرعة، صفية جعفر، قدرية علي جعفر، فاطمة هانم، فـريـال فكري وأخريات[10]. 

    الجدير بالذكر أن جمعية المرأة العدنية هي أول مؤسسة نقابية نسائية في اليمن، ويبدو أنها كانت بمثابة الواجهة النسائية للجمعية العدنية ذات النزعة الانفصالية والمتساوقة مع التوجهات الاستعمارية. ولكن "مع نمو الوعي السياسي في صفوف المرأة في مدينة عدن اتضح بها عجز قيادات جمعية المرأة العدنية فتكونت "جمعية المرأة العربية" بقيادة رضية إحسان وليلى الجبلي"[11]. 

  1. جمعية المرأة العربية: 

    تشكّلت عام 1957، بقيادة رضية إحسان الله التي ترأست الجمعية، وليلى الجبلي نائبة رئيسة الجمعية وصافيناز خليفة وأخريات.

    وكان تشكُّل هذه الجمعية علامة على تطور في توجهات الحركة النسائية اليمنية، إذ "تشير تسمية الجمعية بجمعية المرأة العربية إلى دلالة عامة هدفها التأكيد على الانتماء القومي العربي. ويعبر ذلك عن توجه ساد بين التنظيمات السياسية اليمنية في ظل المد القومي الذي كان يمثله جمال عبدالناصر"[12]. 

     ومن بين أنشطة هذه الجمعية: تنظيم مظاهرات للمطالبة بخلع الحجاب عام 1959، التي تزعمتها رضية إحسان الله، التي كانت متأثرة بالمصرية هدى شعراوي، وقد خاضت سجالًا واسعًا مع رموز دينية، أبرزهم البيحاني، حول حرية المرأة وحقها في الحصول على التعليم وممارسة العمل.

    كما أن نشاط تلك الجمعية لم يقتصر على قضايا المرأة بل امتد إلى المجال الوطني. فمن خلال النشاط في هذه الجمعية ظهرت معظم القيادات النسائية التي شاركت في كل من العمل الاجتماعي الأهلي وفي العمل السياسي السري، خاصة العمل المرتبط بالكفاح المسلح لطرد البريطانيين. وكانت تلك العناصر النسائية التي ارتبطت بالحركة الوطنية الداعية إلى التحرر والاستقلال الوطني من خلال نشاط هذه الجمعية هي التي قادت العمل النسائي في جنوب اليمن بعد تحقيق الاستقلال. كما أن هذه العناصر هي التي شكلت فيما بعد الاتحاد العام لنساء اليمن في عام 1968[13].  

    وقد شهدت الجمعية تحولات في توجهاتها السياسية والاجتماعية، إذ كانت في بادئ الأمر مرتبطة بحزب الشعب الاشتراكي الذي كان يتزعمه عبدالله الأصنج، غير أنّ احتدام الخلاف بين تيار الأصنج والجبهة القومية حول تبني خيار الكفاح المسلح لطرد الاستعمار البريطاني، قد دفع بعضوات الجمعية إلى تغيير مسارها باتجاه الجبهة القومية. وفي هذا السياق تقول المناضلة عائدة علي سعيد: 

     "كنت عضوة في الهيئة الإدارية لجمعية المرأة العربية في أواخر الخمسينيات، التي كانت ترأسها الأخت رضية إحسان، وقد كان للجمعية تكوينها البرجوازي المتوسط، ومن أهدافه: 

    تعليم عضواته الأميات، ثم إقامة الرحلات، وقد جاءت أهداف هذه الجمعية متقدمة نوعًا ما عما سبقها من نوادٍ، كنادي نساء عدن مثلًا، الذي احتوى أو بالأصح اقتصرت عناصره على مسؤولات وعضوات أجنبيات إلى جانب العائلات الأرستقراطية التي كان نشاطها ينحصر في الأعمال الخيرية، وفي المظاهر البرجوازية الكبيرة، التي كان شعارها "عدن للعدنيين"، كما كانت ترفض قبول عضوية أي امرأة تنتمي إلى الطبقات الدنيا. 

    وقد جاءت جمعية المرأة العربية لتحوي في طياتها عناصر من كل الاتجاهات والمستويات الطبقية والسياسية، وكان حزب البعث التابع للأصنج يحتوي هذه الجمعية ويعتبرها الواجهة لنشاط عضواته. 

    وفي عام 1963، انخرطت مجموعة نسائية لا بأس بها من الجمعية القومية في الجمعية العربية، وبدأنا ننشط في اتجاه احتواء عضوات الجمعية، ثم قمنا بانتخابات جديدة تمكنا فيها من الفوز والسيطرة على الجمعية، كان نضالنا عنيفًا، بدأ بالسر ثم بدأت تظهر على السطح الصراعات السياسية بين التيار اليساري التابع للجبهة القومية والتيار اليميني التابع للأصنج، لكننا كنا قد حققنا الفوز الساحق والسيطرة على الجمعية. 

    وبدأنا عملنا السياسي بين أوساط النساء واستقطابهن أولاً للجمعية كنشاط اجتماعي محض، ثم بدأنا نعزز العناصر الجيدة لإشراكهن في الحلقات التنظيمية للجبهة القومية، لقد ساعدنا عملنا في الجمعية على إخفاء نشاطنا السياسي والكفاحي، ففي الظاهر كان عملًا اجتماعيًّا، وفي السر كان عملًا سياسيًّا منظمًا تحت إطار الجبهة القومية، وكان مقر الجمعية يستعمل أيضًا للقاءات التنظيمية وطباعة المنشورات والكثير من المهام النضالية للفدائيين"[14]. 

  1. القطاع النسائي التابع لاتحاد الشعب الديمقراطي:

    لعب هذا القطاع دورًا مهمًّا في النضال الوطني التحرري، وكانت أم الخير باذيب شقيقة المناضل الكبير عبدالله عبدالرزاق باذيب، من أهم النساء اللاتي برزن في هذا المضمار.

  1. القطاع النسائي التابع للجبهة القومية: 

من أبرز قياديات هذا القطاع: 

    زهرة هبة الله (نعمة)، ونجوى مكاوي (خالدة)، وثريا منقوش، وعائدة علي سعيد، وأنيسة محمد سعيد الصائغ (خديجة)، وشفيقة مرشد، وفتحية باسنيد (سلمى)، وفوزية جعفر، ونجيبة محمد عبدالله، وفطوم الدالي، ورجاء أحمد سعيد، وخولة شرف، وأسمهان العلس، وغيرهن. 

    تميّز القطاع النسائي التابع للجبهة القومية عن غيره ببنية تنظيمية واضحة، إذ كان الهيكل التنظيمي يتكون على النحو التالي[15]:

حلقة ــ خلية ــ خلية قيادية ــ شعبة، ويتم التدرج بالشكل التنظيمي، على النحو التالي: 

    تتكون من الشعبة التي تضم قادة العمل الرئيسي، وكانت ترأسها: زهرة هبة الله، ثم تأتي الرابطة النسائية المنبثقة من الشعبة، وعلى رأسها: نجوى مكاوي، وفوزية جعفر، وعائدة علي سعيد، وفتحية باسنيد، وثريا منقوش، وأنيسة الصائغ، ونجيبة محمد عبدالله، وفطوم الدالي، ورجاء أحمد سعيد، ثم تنبثق عن الرابطة مجموعة من الخلايا التي تضم الكثير من النساء اللاتي يقمن بدور التوعية السياسية في أوساط القطاع الطلابي أو الوظيفي أو ربات البيوت أو المناصرات للثورة، وترأس تلك الخلايا: خولة شرف، وشفيقة مرشد، وفطوم عبداللطيف، وسميرة قائد، وأسمهان العلس، ووديعة العزعزي، وشفيقة علي قاسم، وشفيقة علي صالح، وخديجة قاسم، وسعاد يافعي، وأنيسة عثمان، وأنيسة أحمد سالم، وأنيسة عبود، وناريمان خليفة، وشفيقة طاهر، وأسماء عثمان، وأم الخير قاسم، وفتحية محمد عبدالله، وسلوى وأنيسة سليمان، وعائشة سعيد، ونسيمة عبدالخالق، وعائشة محسن، وهدى حبيشي.

    وقد لعب القطاع النسائي للجبهة القومية أدوارًا بالغة الأهمية في مضمار النضال الوطني التحرري ضد الاستعمار البريطاني، ولاحقًا في تأسيس اتحاد نساء اليمن بُعيد الاستقلال المجيد.

  1. القطاع النسائي التابع لجبهة التحرير: 

في هذا المكون لمع نجم العديد من النساء، ومنهن[16]: 

    رضية إحسان الله، ورضية شمشير، وليلى الجبلي، وليلى السيد علي، وزنوبة حميدان، وأنيسة أحمد هادي، ورضية أحمد هادي، وأم الخير حيدر، وآسيا عمراوي، وسامية عيسى، واعتدال ديرية، وزينب ديرية، وكلثوم حيدر، وشفيقة خوباني، وحياة حداد، ونفيسة منذوق، ونعمة سلام، وهناء (حامدة خان)، ومنيرة السياني، وخدوج عيسى (أم حسن عيسى)، وبهية محمد علي، ونادية أحمد، وشفيقة خالد مفلحي، وغيرهن. 

    وقد لعبت أولاءِ النسوة أدوارًا كفاحية متعددة، كتوزيع المنشورات، والتوعية الثورية في صفوف النساء والطالبات، وتنظيم المسيرات والمظاهرات والإضرابات، والمشاركة في العمل المسلح ضد قوات الاحتلال البريطاني.


ثالثاً: الأدوار الثورية للحركة النسائية اليمنية:

    أشرنا فيما سبق إلى بعض الأدوار التي قامت بها الحركة النسائية اليمنية بمختلف تياراتها، وفيما يلي نلقي بمزيد من الضوء على تلك الأدوار الثورية مدعمة بشهادات نسوية.

  1. النشاط السياسي والنقابي: 

ومن أبرز أوجه هذا النشاط: 

  1. توزيع المنشورات والبيانات الصادرة عن الفصائل الثورية، وإذاعة أخبار الثوار في أوساط الجماهير، وقد سجلت المرأة اليمنية مواقف بطولية في هذا المضمار، نورد ثلاثة مواقف ــ على سبيل التمثيل لا الحصر ــ على لسان بعض قياديات الحركة النسائية اليمنية: 

الموقف الأول: تقول المناضلة فوزية جعفر القيادية في الجبهة القومية (ولاحقًا الحزب الاشتراكي اليمني):

     "من المواقف التي لا أستطيع أن أنساها، كنت والفقيدة نجوى مكاوي نركب سيارتها ــ التي كانت تتولى هي قيادتها ــ ونقوم بتوزيع منشورات استشهاد الشهيد/ عبود من نوافذ السيارة ونحن نقوم برمي المنشورات فوجئنا بدورية من الجنود الإنجليز تحاصرنا، أمرتني الفقيدة نجوى بإغلاق زجاج النوافذ وتأمين الباب، قمت بما طلبت مني، بعدها اقترب منا جنود الدورية وطلبوا منا النزول من السيارة، رفضنا النزول، ولم يتمكن الجنود من إنزالنا. 

    في تلك اللحظة مرت دبابة بريطانية، طلب الجنود من طاقم الدبابة ربط السيارة وسحبها، وسحبت السيارة ونحن بداخلها إلى شرطة خور مكسر. تم فتح السيارة بالقوة، ومن ثم أُنزلنا إلى معتقل في مقر الشرطة، وبقينا هناك مع بعض الحراسة حتى المساء، ثم جاء خبر الإفراج عنا بعد أن كتبنا تعهدًا على أنفسنا بعدم تكرار هذه العملية، وتم الإفراج عنا"[17]. 

الموقف الثاني: المناضلة أنيسة الصائغ إحدى القياديات البارزات في الجبهة القومية (ولاحقًا الحزب الاشتراكي اليمني)، تقول: 

    "من المهمات الجريئة والصعبة، التي كانت تقوم بها المرأة، دخول مساجد الرجال ــ حيث لم يكن يوجد مساجد للنساء ــ وأخذ الميكرفون ثم إذاعة بيانات الجبهة القومية من إعلان وفاة شهيد إلى التنديد والتشهير بالمواقف المخزية لبعض العملاء والمأجورين، ثم تعميم خبر إعدامهم، وأخيرًا الإخبار عن العمليات الفدائية لمناضلي الجبهة القومية. 

     وقد تعرضت المرحومة/ زهرة الله علي، بعد أن انتهت إذاعة منشور للجبهة القومية من على منبر مسجد الزعفران لمحاصرة جنود الإنجليز للمسجد، ولكنها وكما تقول الأخت أنيسة الصائغ لم تهتز بل ابتسمت ولم تترك المسجد إلا بعد أن ترك الجنود الإنجليز المسجد"[18].

الموقف الثالث: تقول المناضلة شفيقة علي صالح، وهي من العناصر القيادية للحركة النسائية في منطقة الشيخ عثمان: 

    "أستشهد بموقف شجاع للرفيقة أنيسة صالح، زوجة المناضل عبدالواسع، التي كانت حاملًا، وتنزل يوميًّا لتوزع المنشورات، وكيف هجم عليها الجنود وحاولوا ربطها بمقدمة دبابة كانت واقفة بالقرب من فرزة أبين، ووقفت بجلد وهي تضع الكيس وفيه المنشورات على بطنها تحت الشيذر، ولولا نجدة الرفاق لكان الجنود قد أجهضوها، ومع ذلك استمرت في توزيع المنشورات كل يوم بدون مبالاة، وكان كل همها أن تؤدي واجبها مع أنها في تلك الفترة كانت مجرد صديقة أو نصيرة أو زوجة مناضل؛ أي أنها لم تكن مؤطرة ــ مواقف تجعلنا نتحسر على فقدانها هذه الأيام"[19]. 

تعرضت النساء لأنواع شتى من أساليب الإرهاب والتعذيب النفسي والجسدي، حيث كانت منازلهن تتعرض للمداهمة والتفتيش، كما استشهدت بعضهن برصاص قوات الاحتلال، مثل: لطيفة علي شوذري، التي استشهدت برصاص قناص بريطاني، وهي في مقدمة مظاهرة سلمية معظمها من النساء
  1. تنظيم المظاهرات والاعتصامات والإضرابات: 

    تروي المناضلة أسمهان العلس بعض الوقائع، التي أسهمت فيها النساء بدور قيادي، إذ تقول:

    "في يوم 27 ديسمبر 1963 اعتصمت المرأة في مسجد العقلاني في مدينة كريتر، احتجاجًا على فرض السلطة البريطانية لقانون الطوارئ واعتقالها للكثير من الوطنيين بعد حادثة مطار عدن في ديسمبر 1963، وامتد هذا الاعتصام حتى فبراير 1964. وكان من أبرز نتائجه أن تمكنت المرأة من تحقيق مطالبها، بالإفراج عن المعتقلين وترك هذا الاعتصام تأثيره على الأوساط الرسمية البريطانية في عدن ولندن، فقد وقف مجلس العموم البريطاني في لندن أمام هذا الاعتصام وأوفد لجنة خاصة لدراسة الأوضاع كما بعث حزب العمال البريطاني وفدًا خاصًّا لبحث قضية الاعتصام.

    وأردفت: "كما شاركت المرأة في يوم الزحف على المجلس التشريعي في 24 سبتمبر/ أيلول 1962، الذي صادف انعقاد اجتماع ذلك المجلس للمصادقة على ضم عدن إلى اتحاد الجنوب العربي، وقادت المرأة مواكب المتظاهرين، الذين تجمعوا أمام فندق إحسان في مدينة كريتر، بعد أن حاصرت السلطة البريطانية عددًا من الرجال، وأعاقت قيادتهم للمظاهرات، وتولت النساء مهمة توجيه المتظاهرين نحو مقر المجلس التشريعي، ونتيجة لدور المرأة في ذلك اليوم؛ فإنها تعرضت للضرب والتنكيل والاعتقال، بعد أن كانت السلطة البريطانية قد استخدمت أساليب قمعية لم تفرّق في تنفيذها بين المرأة والرجل"[20].

    كان من بين المعتقلات في ذلك اليوم المشهود: المناضلة رضية إحسان الله، والمناضلة صافيناز خليفة، واستمر اعتقالهما لعدة أسابيع، وقد أضربت رضية إحسان عن الطعام احتجاجًا على السياسة الاستعمارية القمعية ورفضها للاحتلال[21].

    كما تعرضت النساء لأنواع شتى من أساليب الإرهاب والتعذيب النفسي والجسدي، حيث كانت منازلهن تتعرض للمداهمة والتفتيش، كما استشهدت بعضهن برصاص قوات الاحتلال، مثل: لطيفة علي شوذري، التي استشهدت برصاص قناص بريطاني، وهي في مقدمة مظاهرة سلمية معظمها من النساء، في مدينة كريتر عام 1965. الجدير بالذكر أن الشهيدة لطيفة كانت تنحدر من إحدى الأسر الفقيرة، وهي الوحيدة التي تعيل أسرتها، وكانت تنشط سرًّا في إحدى الخلايا الوطنية الفدائية، واتصفت بالشجاعة والجرأة وركوب المخاطر في خضم العمل المناهض للاستعمار، وقد اعتُقلت وتعرضت للتعذيب النفسي في معتقلات الاستعمار[22].

  1. النشاط في صفوف النقابات العمالية والطلابية:

    كان للمرأة العدنية بصمات مميزة في العمل النقابي، ومن بين المناضلات التي لمع نجمهنّ في هذا المضمار: ثريا منقوش، وعائدة سعيد، وفوزية محمد جعفر، وشفيقة مرشد، وفطوم علي أحمد، وأنيسة سالم، وآمنة عثمان ورجاء أحمد سعيد، وغيرهن. 

    وفي هذا السياق، تقول المناضلة عائدة سعيد: 

    "أذكر أنه في يوم الأربعاء 30 يناير 1962، في كلية البنات بخور مكسر رفضنا دخول صفوفنا الدراسية، واعتصمنا في فناء الكلية، وطلبنا من الإدارة الاستجابة إلى مطالبنا، وهي: المساواة في تعليم الصفوف، وقد قدمت شكوى إلى مدير المعارف، الذي كان يومها السيد محمد عبده غانم ضد عميدة الكلية، وهي بريطانية الجنسية، ومن ضمن الشكاوى إرسال هندوسية للدراسة في بريطانيا على حساب البلد، في حين حرمت طالبتان عربيتان فازتا في الامتحان وكان لهما الحق في هاتين المنحتين، وقد قام طلاب في كلية الشيخ عثمان بالوقوف معنا، ومشاركتنا إضرابنا من خلال الامتناع عن تناول وجبات الغذاء، وكانت هذه الحادثة هي فاتحة الثورة الطلابية من مسيرات وإضرابات ومنشورات... إلخ، ومن ثَمّ دخلت الحركة الطلابية في خدمة الكفاح المسلح والعمل على طرد المستعمرين"[23]. 

  1. دعم ثورة 26 سبتمبر الخالدة: 

    وفي هذا السياق تقول المناضلة عائدة علي سعيد القيادية البارزة في القطاع النسائي التابع للجبهة القومية: 

    "أذكر أيضًا أنه بعد انتصار ثورة سبتمبر 1962، بشهرين كان للمرأة شرف مباركة هذه الثورة الأم، حيث شكلنا مجموعة من عضوات جمعية المرأة العربية، وقمنا بزيارة العاصمة صنعاء لمقابلة الرئيس المشير عبدالله السلال للتهنئة بالانتصار العظيم ضد الحكم الإمامي الرجعي، وبالفعل تم استقبالنا من قبل الأخ الرئيس في القصر الجمهوري، وتفضل الأخ الرئيس بإعطائنا صورة عما حصل ليلة 26 سبتمبر، ثم ظروف البلد والشعب الاقتصادية والمعيشية، وحكى لنا عن المؤامرات الرجعية التي تحاك من أجل إسقاط النظام الجمهوري من قبل العملاء المأجورين وأعداء الوطن، تأثرنا كثيرًا بما سمعنا، فما كان منا إلا أن قمنا بخلع كل ما نملك من حلي وذهب وتسليمها للأخ الرئيس تبرعًا منا باسم المرأة، كتعاون رمزي وتعبير عن موقف المرأة ومساندتها للثورة والحفاظ عليها، وعاهدنا قيادة الثورة على أن المرأة لن تتوانى لحظة واحدة في تقديم ما هو غالٍ ونفيس من أجل الثورة الأم"[24]. 

كانت غالبية الأنشطة تتم في الليل، تفادياً لانكشاف خطط النضال وخلاياه السرية، وهو ما كان يتطلب بقاء المناضلات إلى أوقات متأخرة من الليل خارج المنزل، خلافًا للتقاليد الاجتماعية السائدة، الأمر الذي كان يسبب لهن معاناة مع أسرهن ومع المجتمع
  1. المشاركة في العمل المسلح:

    كان لاندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963، عاملًا حاسمًا في إقناع فئات شعبية واسعة بعدم جدوى الاقتصار على العمل السياسي السلمي في مناهضة الاحتلال البريطاني، وضرورة تبني أشكال نضالية مختلفة، من أهمها الكفاح المسلح، وفي هذا المضمار اشتركت المرأة بفعالية في الكفاح المسلح، من خلال تخزين السلاح ونقله إلى الفدائيين، وفي توفير الغذاء للمناضلين، وفي رصد تحركات الأعداء وتزويد الثوار بالمعلومات وإخفاء الفدائيين عن أعين قوات الاحتلال وعملائهم وتعبئة النساء وحثهن لمناصرة الكفاح المسلح والتبرع لصالح الثورة.

    كما حملت السلاح وقاتلت ضد قوات الاحتلال البريطاني، وساهمت في تحرير المناطق الريفية وفي حراسة المناطق المحررة [25]. 

    كما قامت المرأة بدور تهريب الفدائيين من المعتقل، تقول المناضلة أنيسة الصائغ: تعرض المناضل الحبيشي لإصابة نتيجة انفجار قنبلة كان يحملها وجرح معه زميله، وعلى إثر ذلك استطاعت القوات البريطانية إلقاء القبض عليه وهو جريح، وقد كلفت إحدى المناضلات، وهي "نجوى مكاوي" بأن تتولى تهريب ذلك المناضل عند زيارته لعائلته[26]. 


    وقد اشتركت بعض النساء في العمل المسلح، وألمع مثال ابنة ردفان المناضلة دعرة بنت سعيد ثابت لعضب، التي أذاقت المستعمرين وأعوانه كؤوس المرارات. 

    فقد حملت السلاح مرغمة بعد أن قامت قوات الاحتلال البريطاني باستهداف قريتها، واشتركت في بعض الانتفاضات، وقد أكسبها ذلك خبرة غير عادية في استخدام السلاح والتخفي والمناورة. 

    وقعت المناضلة دعرة، في قبضة قوات الاحتلال عام 1956، إثر مشاركتها في انتفاضة في الحبيلين، ولكنها تمكنت من الهروب من المعتقل. 

    وبُعيد اندلاع ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، في شمال البلاد، هبت المناضلة دعرة لنصرة الثورة، إذ كانت ضمن الفوج الوطني الذي اتجه إلى الشمال للدفاع عن الثورة، وقد اشتركت في عدد من المعارك في منطقة المحابشة بمحافظة حجة، وفي خولان وبني حشيش بمحافظة صنعاء.

    عادت المناضلة دعرة من صنعاء إلى جبال ردفان عقب اندلاع ثورة 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1963، ضد الاحتلال البريطاني، وقد اشتركت في عدة معارك وفي مناطق مختلفة، واستطاعت أن تسدد ضربات موجعة لقوات الاحتلال، مما دفع بالسلطة الاحتلالية إلى رصد مئة ألف شِلِن لمن يقبض عليها. 

    وهناك نساء أخريات سطرن ملاحم بطولية في حرب التحرير الشعبية، فقد ساهمت المناضلة زينب ديرية في عملية تفجيرات في مصافي عدن والخيسة، وتفجير "فيلبس كامب" بين الجبلين في عدن الصغرى، كما أن المناضلة حياة حداد شاركت في بعض العمليات العسكرية، فيما كانت المناضلة نفيسة منذوق تقوم بتخزين الأسلحة والمنشورات داخل مسبح حُقّات عام 1965، التي كانت تأتيها من الفدائيين عبر منطقة الحوبان بتعز[27]. 

    مما تقدم تتضح طبيعة الأنشطة والأدوار البطولية التي اضطلعت بها الحركة النسائية، وهي أنشطة كانت تستلزم السرية التامة وقدر عالٍ من التخطيط والتحوط من أعين عسس ومخبري السلطة الاستعمارية والمبثوثين في كل حافة وزقاق، ولهذا كانت غالبية الأنشطة تتم في الليل، وهو ما كان يتطلب بقاء المناضلات إلى أوقات متأخرة من الليل خارج المنزل، خلافًا للتقاليد الاجتماعية السائدة، الأمر الذي كان يسبب لهن معاناة مع أسرهن ومع المجتمع، تقول المناضلة عائدة علي سعيد: 

    أذكر أنني مرة حضرت اجتماعًا مع بعض قيادتنا، ولم ينتهِ الاجتماع إلا الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وعندما عدت إلى المنزل كان باب المنزل موصدًا بالمفتاح، وعندما طرقته ليفتحوا لي الباب كان الجواب: "اذهبي نامي حيث كنتِ"، وبتُّ ليلتها قابعة قرابة الشارع بجانب الباب، ولم أنم حتى الصباح، وتكرر هذا الفعل فما كان مني إلا أن اتصلت بأحد الإخوة في القيادة "المسؤول عليّ"، وأخبرته بما أعانيه من الأسرة عند تأخري على أساس الالتقاء بوالدي لشرح المهمات المنوطة بي والمتسببة في تأخري، وحصل بالفعل ذلك اللقاء وتم إقناعه، وبعد هذا اللقاء حصل التغيير المفاجئ حيث أصبح والدي بعدها من أنصار الجبهة القومية، وأوكلت له مهمات بما يتلاءم مع سنه. أيضًا أصبحت والدتي تفتح أبواب المنزل وترحب بالفدائيين، وتقدّم لهم الزاد والمأوى بدون أية مشاكل[28]. 

    أما المناضلة فوزية جعفر فتحكي عن موقف محرج تعرضت له بمعية بعض رفيقاتها، تقول: 

    "كان لنا لقاء ببعض مسؤولي الجبهة القومية في أحد المنازل، كنت أنا وبعض الرفيقات، وكان من يسكن هذا المنزل عازبًا، وهو أيضًا من رفاقنا، عندما انتهى الاجتماع، وبدأ الرفاق بالتسلل والخروج، بقينا نحن، وعندما حاولنا الخروج بعدهم من المنزل فوجئنا بالجيران بانتظارنا، وشتمونا وجمعوا علينا كل سكان الحارة، ووصفونا بنساء ساقطات يجتمعن مع الرجال ويدخلن بيوت العُزّاب، لكننا لم نرد عليهم ولم نلتفت، بل كان كل هدفنا الخروج من ذلك المكان بسلام والنجاة حتى لا يفتضح أمرنا؛ لأن ما كنا نقوم به يتطلب السرية التامة"[29]. 


الهوامش: 

  1. كرامة مبارك سليمان، التربية والتعليم في الشطر الجنوبي من اليمن (1930 – 1970)، ج1، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط1/ 1994م، ص272.
  2. المرجع نفسه، ص326 وما بعدها.
  3. المرجع نفسه، ص272.
  4. شفيقة مرشد أحمد، دور المرأة اليمنية في النضال الوطني والكفاح المسلح، ورقة عمل قدمت لندوة الثورة اليمنية: الانطلاقة، التطور، وآفاق المستقبل، ج2، دائرة التوجيه المعنوي، صنعاء، 2004م، ص272.
  5. د. أحمد القصير، التحديث في اليمن والتداخل بين الدولة والقبيلة، دار العالم الثالث، القاهرة، ط1/ 2006م، ص117.
  6. مقابلة صحفية مع المناضلة رضية شمشير، رابط المقابلة: https://www.lahamag.com/article/25659-%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AF%D8%A9_%D9%85%D9%86_%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AF%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86_%D8%B1%D8%B6%D9%8A%D8%A9_%D8%B4%D9%85%D8%B4%D9%8A%D8%B1
  1. د. أحمد القصير، مرجع سابق، ص115 – 116.
  2. المرجع نفسه، ص116 – 117.
  3. مقابلة صحفية مع المناضلة رضية شمشير، مرجع سابق.
  4.  رجاء عاطف وزهور السعيدي، المرأة اليمنية؛ تاريخ من النضال والكفاح ضد الاستعمار (استطلاع صحفي)، الرابط: http://althawrah.ye/archives/497050
  5.  شفيقة مرشد أحمد، مرجع سابق، ص272.
  6.  أحمد القصير، ص117. 
  7.  المرجع نفسه، ص117 – 118.
  8.  وهبية صبرة، دور المرأة في مرحلة حرب التحرير، ورقة عمل مقدمة للندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية (14 أكتوبر)، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط1/ 1993م، ص215.
  9.  المرجع نفسه، ص213 – 214.
  10.  اعتدال ديرية، المرأة اليمنية في مرحلة الكفاح المسلح في جبهة التحرير والتنظيم الشعبي، ورقة عمل قدمت لندوة الثورة اليمنية: الانطلاقة، التطور، وآفاق المستقبل، ج2، دائرة التوجيه المعنوي، صنعاء، 2004م، ص264 – 265.
  11.  وهبية صبرة، مرجع سابق، ص220. 
  12.  المرجع نفسه، ص209.
  13.  المرجع نفسه، نفس الصفحة.
  14.  إشراق دلال ورجاء الخلقي، "استطلاع صحفي عن دور المرأة في الكفاح المسلح"، رابط الاستطلاع: https://www.alwahdahnews.net/30944/
  15.  رجاء عاطف وزهور السعيدي، مرجع سابق.
  16.  المرجع نفسه.
  17.  وهبية صبرة، مرجع سابق، ص207.
  18.  المرجع نفسه، ص216.
  19.  شفيقة مرشد أحمد، "بتصرف"، مرجع سابق، ص272 – 273.
  20.  وهبية صبرة، مرجع سابق، ص221.
  21.  اعتدال ديرية، "بتصرف"، مرجع سابق، ص363 – 365.
  22.  وهبية صبرة، مرجع سابق، ص217.
  23.  المرجع نفسه، ص222.

•••
عيبان السامعي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English