سلطة عدن والتخبط في المسار الاقتصادي

سياسات نقدية متهورة تفاقم انحدار العملة
د. مطهر العباسي
July 31, 2023

سلطة عدن والتخبط في المسار الاقتصادي

سياسات نقدية متهورة تفاقم انحدار العملة
د. مطهر العباسي
July 31, 2023

واضح أنّ تداعيات الحرب أفرزت نماذج اقتصادية متباينة في كلٍّ من مناطق سلطتي صنعاء وعدن، وهناك أوجه تشابه في بعض السياسات والإجراءات، كما أنّ هناك أوجه اختلاف بينهما، إلّا أنّ كلا النموذجين قادا إلى أزمات اقتصادية متواترة في ربوع البلاد، وفي مقال سابق تم استعراض حالة ضياع بوصلة الاقتصاد لدى سلطة صنعاء، وسيتواصل النقاش هنا حول التخبط والارتباك في المسار الاقتصادي لدى سلطة عدن.

فكل المؤشرات والبيانات تدل على أنّ سلطة عدن، منذ عام 2016، ارتكبت أخطاء كارثية في إدارتها للشأن الاقتصادي في جوانبه المالية والنقدية، من خلال السياسات والإجراءات المتهورة والمرتجلة، نتج عنها تدهور كبير في مستوى معيشة الناس وتزايد معدلات التضخم وانهيار القوة الشرائية للريال، إضافة إلى اتساع دائرة الفقر والبطالة والعجز الشديد في تقديم الخدمات الأساسية، في مقدمتها الكهرباء، وخاصة في محافظة عدن، وكل الدلائل تشير إلى أنّ سلطة عدن تعيش حالة ارتباك وتخبط في معالجة الملف الاقتصادي، ويتضح ذلك في أكثر من جانب:

الميزانية العامة وطباعة النقود

منذ النصف الثاني من عام 2016، عمدت سلطة عدن على تمويل نفقات الحكومة من مصادر تضخمية عبر طباعة النقود دون وجود غطاء كافٍ من الاحتياطي النقدي الأجنبي، وعجزت بالمقابل عن تحصيل الإيرادات العامة من عوائد النفط والغاز ومن الضرائب والجمارك من كافة المنافذ البرية والبحرية، وكانت تصب في ثقوب سوداء في كلٍّ من عدن ومارب وحضرموت والوديعة والمهرة وشبوة، مما أوجد خللًا واضحًا في إدارة الميزانية العامة، حيث اعتمدت الحكومة على الاقتراض من البنك المركزي والسحب على المكشوف، ليبلغ الحجم التراكمي لها قرابة (4.3) تريليونات ريال، في عام 2022، حسب تقارير البنك المركزي- عدن، وكان لذلك آثارٌ كارثية على سعر صرف الريال مقابل الدولار والعملات الأخرى، وبلغ ذروته عند مستوى 1800 ريال للدولار في عام 2022، كما اشتعلت أسعار السلع والخدمات، ليبلغ معدل التضخم التراكمي قرابة 500 إلى 600% في بعض السنوات. 

كان الأجدر بدول التحالف أن تمكن سلطة عدن من السيطرة على الموارد السيادية وتحصيلها إلى حسابات الحكومة في البنك المركزي، وبدلًا عن ذلك أوجدت كيانات "ميليشاوية" في كل المحافظات التابعة لسلطة عدن، ومكنتهم من السيطرة والتحكم بالموارد السيادية من عوائد النفط والغاز، ومن إيرادات الضرائب والجمارك في المنافذ البرية والبحرية والجوية، وإنفاقها بعيدًا عن ميزانية الحكومة المعترف بها دوليًّا.

كما أنّ سلطة عدن، منذ عام 2016، استمرت في إدارة المال العام، بعيدًا عن المسؤولية والمساءلة والشفافية، مخالفة للدستور والقانون، فلا يوجد وثيقة رسمية للميزانية العامة يقرها مجلس النواب وتصدر بقانون ملزم لتنفيذها، أضف إلى ذلك، فإن الأجهزة المعنية بالرقابة والمحاسبة معطلة ولا تمارس عملها في الرقابة المصاحبة أو البعدية لأوجه الصرف والإنفاق العام أو للموارد الإيرادية التي يفترض أن تصب في الخزينة العامة. وفي ظل وضع كهذا، فإن هوامير الفساد تعبث كما تريد دون رقيب أو حسيب.

سياسة نقدية متهورة

في أواخر عام 2016، اتخذت سلطة عدن قرارًا بتعيين محافظ ومجلس إدارة جديد للبنك المركزي. ووفقًا للقانون، فإنّ البنك المركزي له العديد من الأهداف والصلاحيات؛ أولها إدارة السياسة النقدية لضمان توفير السيولة والمحافظة على استقرار الأسعار، ومنذ ذلك التاريخ أخفقت الإدارات المتعاقبة للبنك في تحقيق الأهداف المرجوة منه، ونجحت فقط في طباعة النقود وتمويل نفقات الحكومة من مصادر تضخمية، وهذا قاد إلى الفشل في الحد من تدهور قيمة الريال وفي مكافحة التضخم.

ورغم الدعم المقدم من التحالف "السعودية" في عام 2018، من خلال الوديعة بمبلغ مليارَي دولار لتعزيز الاحتياطي من النقد الأجنبي، إلا أن إدارات البنك المتعاقبة عاثت فسادًا بتلك الوديعة، كما ورد في تقارير خبراء الأمم المتحدة، وكانت النتيجة انهيارًا أكبر في سعر صرف الريال واشتعال أسعار السلع والخدمات، ممّا أثر سلبًا على مستوى معيشة المواطنين في كافة المناطق الخاضعة لسلطة عدن.

وفي ظل الإدارة الحالية للبنك المركزي، قدمت السعودية وديعة جديدة بمبلغ مليار دولار عبر صندوق النقد العربي، ولكن هذه المرة، مشروطة بتنفيذ إصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وحاولت إدارة البنك معالجة بعض الاختلالات القائمة، مثل وقف تمويل نفقات الحكومة من مصادر تضخمية وتجميد طباعة نقود جديدة وتعبئة وتحصيل الموارد العامة للدولة من عوائد النفط والغاز والضرائب والجمارك من جميع المنافذ لتمويل الميزانية من مصادر غير تضخمية، ولكنها لم تفلح في ذلك، فسوق الصرف الأجنبي يتسم بالتقلبات الحادّة وسعر الصرف ارتفع إلى مستويات قياسية وسحبت معها أسعار السلع والخدمات، وأصبح الوضع المعيشي لذوي الدخل المحدود لا يطاق.

التحالف وخيبات الأمل

خلال سنوات الحرب، ظلت سلطة عدن حبيسة ورهينة لتوجهات ومزاجية دول التحالف بالتعامل مع الملف الاقتصادي والذي تم العبث به كما جرى بالملف السياسي والأمني والعسكري، فقد ظلت الأوضاع الاقتصادية في تدهور مستمر، فهناك اختلالات كبيرة في الميزانية العامة وفي ميزان المدفوعات بسبب عدم توفر الموارد المالية الكافية من النقد الأجنبي، وكان الأجدر بدول التحالف أن تمكن سلطة عدن من السيطرة على الموارد السيادية وتحصيلها إلى حسابات الحكومة في البنك المركزي، وبدلًا عن ذلك أوجدت كيانات "ميليشاوية" في كل المحافظات التابعة لسلطة عدن، ومكنتهم من السيطرة والتحكم بالموارد السيادية من عوائد النفط والغاز ومن إيرادات الضرائب والجمارك في المنافذ البرية والبحرية والجوية وإنفاقها بعيدًا عن ميزانية الحكومة المعترف بها دوليًّا وعن المساءلة والمسؤولية، مما عمق من حجم الفساد وإهدار المال العام، وأضعف سلطة عدن وجعلها عاجزة عن القيام بمهام الإنفاق على المشاريع التنموية في معظم المحافظات التابعة لها.

ومن جانب آخر، فشل "التحالف" في دعم سلطة عدن لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والمعيشي في مناطقها، مما أوجد حالة مستمرة من التخبط والاضطراب في الأوضاع الاقتصادية، وتدهورًا في قيمة الريال أمام العملات الأجنبية، وتزايدًا في معدلات التضخم، وتدنيًا في مستوى معيشة السكان.

وعند تسلم الإدارة الجديدة للبنك المركزي لمهامها، كانت التوقعات تشير إلى أنّ دول التحالف قد تقدم وديعة للبنك المركزي تتراوح بين 4 إلى 5 مليارات دولار، ولا مانع أن تكون مشروطة بتنفيذ إصلاحات اقتصادية، فتلازم حجم الوديعة مع الإصلاحات يجعل البنك المركزي قادرًا على التحكم في سعر صرف بما يضمن زيادة القوة الشرائية للريال وتخفيض المستوى العام للأسعار، وسيلمس المواطنون، وخاصة محدودي الدخل، النتائج الإيجابية لتلك السياسات والإجراءات.

ولكن تلك التوقعات ذهبت أدراج الرياح، فقد فشلت سلطة عدن في تقديم النموذج المطلوب في توفير الخدمات العامة وإدارتها بصورة مستدامة، فمدينة عدن تعاني الأمرّين من انقطاع التيار الكهربائي في أيام الصيف الملتهب، فضلًا عن سوء خدمات المياه والصرف الصحي والاتصالات وغيرها من الخدمات، باستثناء مشاريع محدودة ينفذها صندوق صيانة الطرق أو بعض الجهات المانحة.

رغم اليأس من الاستجابة، فإنّ على طرفي الصراع، إن كان لديهم ذرة من الشجاعة والمسؤولية، أن يبدؤوا بحوار جاد وشفاف لإنهاء الحرب والصراع والتوافق على الأسس والمعايير الناظمة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية، ومن تلك الأسس توحيد البنك المركزي لإدارة الأوضاع النقدية.

ويمكن النظر إلى الأوضاع الاقتصادية والتنموية بمأرب وشبوة وحضرموت كحالة خاصة، فبحكم توفر الموارد المالية ومصادر الطاقة في تلك المحافظات جعلها تدير شؤونها بعيدًا عن المشاركة مع سلطة عدن في إدارة الموارد السيادية أو النفقات العامة، وهو ما يلقي بظلال من الشك عن مدى الحوكمة والشفافية والمساءلة في إدارة المال العام وعن المسؤولية القانونية في الالتزام بتوريد الإيرادات السيادية إلى حسابات الحكومة لدى البنك المركزي- عدن، حتى تنال المحافظات الأخرى نصيبها منها، وفقًا للدستور والقوانين النافذة.

بيئة طاردة

خلال سنوات الحرب، أخفقت سلطة عدن في تكوين بيئة حاضنة وآمنة للقطاع الخاص وللمنظمات الدولية العاملة في مجال الدعم الإنساني والتنموي، فالوضع الأمني كارثي في معظم مناطق سلطة عدن، بسبب انتشار الميليشيات المسلحة غير الرسمية وغير القانونية وعرقلتها وابتزازها للمستثمرين والتجار والمواطنين على حدٍّ سواء، إضافة إلى انعدام فاعلية أجهزة الدولة في مؤسسات تقديم الخدمات العامة (الكهرباء، مثالًا) وفي جهاز القضاء والمحاكم وفي أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وكل الدلائل تشير إلى حالة اللادولة، وإلى بيئة طاردة للقطاع الخاص المستثمر أو الراغب في الاستثمار، وتفيد التقارير أنّ معظم شركات القطاع الخاص توقفت عن التعامل مع ميناء عدن واتجهت نحو ميناء الحديدة لممارسة نشاطها التجاري بعيدًا عن العبث والفوضى، وهذا له انعكاسات سلبية على توليد فرص العمل ومستوى البطالة والفقر في عدن والمناطق المجاورة لها.

ومن جانب آخر، فإنّ كل منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية ما تزال تقيّم الأوضاع في مناطق سلطة عدن بأنها غير آمنة وحرجة ولا تسمح بممارسة أنشطة مراكزها الرئيسية منها، وهذا له انعكاسات سلبية على قدرات المنظمات الدولية في إدارة البرامج والمشاريع الإنسانية والتنموية في مناطق سلطة عدن، وبالتالي حرمان الفئات والمناطق المحتاجة والفقيرة من أوجه الدعم الإنساني والتنموي.

وإجمالًا، يمكن القول، أن سلطة عدن، خلال سنوات الحرب، أخفقت في إدارة الملف الاقتصادي في جوانبه المالية والنقدية والتجارية والاستثمارية، كما أنّها خُذِلت من دول التحالف الذين خيبوا الآمال في معالجة الوضع الاقتصادي، كما عبثوا بالجانب السياسي والأمني، مما أوجد بيئة طاردة للتجار والمستثمرين والمنظمات الدولية، ومن جانب آخر، تواجه سلطة عدن أزمة حادّة في تمويل نفقاتها نتيجة توقف عوائد الصادرات النفطية من موانئ حضرموت وشبوة بسبب المسيرات المرسلة من سلطة صنعاء، ودخول طرفي الصراع في هدنة مفتوحة على كل الاحتمالات.

وكل ذلك، يشير إلى أنّ كلا السلطتين في صنعاء وعدن يتنافسان على زيادة معاناة المواطنين وتدهور مستوى معيشتهم وأمنهم، والتي تمر من سيئ إلى أسوأ، كما يفتقدان أيَّ رؤية سليمة لمعالجة الأزمات الاقتصادية المتتالية في مناطق نفوذهما.

ورغم اليأس من الاستجابة، فإنّ على طرفي الصراع، إن كان لديهم ذرة من الشجاعة والمسؤولية، أن يبدؤوا بحوار جاد وشفاف لإنهاء الحرب والصراع والتوافق على الأسس والمعايير الناظمة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية، ومن تلك الأسس توحيد البنك المركزي لإدارة الأوضاع النقدية، بما فيها استقرار سعر الصرف وتعزيز القوة الشرائية للعملة الوطنية، وإعادة تصدير النفط والغاز، والحفاظ على الحقوق السيادية للبلاد فيهما، وتوزيع عوائدهما وفقًا لمعايير متوافق عليها، إضافة إلى التوافق على توريد الموارد السيادية الأخرى من الضرائب والجمارك إلى حسابات الحكومة في البنك المركزي، لضمان صرف مرتبات موظفي الدولة المنقطعة منذ أكثر من سبع سنوات والمساهمة في إعادة الإعمار والتعافي للاقتصاد المدمر.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English