"كمال أبو ديب"

ضوءٌ على غموضِ عالمٍ من السحر!
أنور العنسي
March 12, 2023

"كمال أبو ديب"

ضوءٌ على غموضِ عالمٍ من السحر!
أنور العنسي
March 12, 2023

بين منهجين أيسرهما عسير، وأسلوبَيْن أسهلهما ممتنع، وأستاذَين في رجلٍ من جيل الكبار، كانت ولا تزال انشغالاتي في فهمٍ أعمق لماهية الشعر أولًا، وفي استيعاب آفاق الحداثة الشعرية ثانيًا.

الأول كان كمال أبو ديب، البروفيسور وأستاذ النقد الأدبي ذو الشهرة العالمية، المحاضر في عدد من أهم الجامعات في العالم.

والثاني هو أبو ديب نفسه، في كيفية قدرته على التعامل كشاعر مع تلك المحددات الصارمة التي وضعها بنفسه كناقدٍ لآفاق المغامرة في استخدام اللغة كمادةٍ للإبداع في الشعر. 

أظن أنني نجحت في الجمع بينهما أحيانًا بقدر ما أخفقت كثيرًا في فصل أحدهما عن الآخر، وفي كلا الحالتين لم يكن جهدي في الاشتغال على ذلك يخلو من فائدة مجزية وإثارة ممتعة.

نصوص أبو ديب، سواءٌ في نقده الشعر بما يشبه الشعر أو في شعره شبه المتعذر على النقد، ليست خوارزميات معقدة وإن كانت تبدو أقرب ما تكون إلى ذلك، خصوصًا في صعودها بك في سُلّم الدهشة من درجة إلى أخرى، تفسح أمامك عند كلٍّ منها مدى من الأفكار، لم تجترحه قبل (أبو ديب) أي كتابة أخرى مثلها، نثرًا أو شعرًا، بل إنّ ذلك التعب الذي يعتريك وأنت تحاول الارتقاء في معارج المعاني التي تتوالد لديك، وأنت تقرؤه، يجعلك تشعر أنك ستبقى على الدوام بحاجةٍ حتمًا إلى إعادة قراءته.

أبو ديب.. حياته وانشغالاته في اليمن

أعترف أنني عرفت (أبو ديب) في صنعاء خارج قاعات الجامعة أكثر ممّا عرفته داخلها، عندما تتلمذت على يديه في جامعة صنعاء، لكنني جلست إليه مرارًا في مجالس صديقه د. عبدالعزيز المقالح، في المدينة التي قضى فيها أبو ديب نحو ثلاثة أعوام من حياته الأكاديمية الممتدة لنحو نصف قرن.

شارك أبو ديب بتأثير واضح، خلال إقامته للعمل في جامعة صنعاء، في تنظيم وإدارة عددٍ من أهم المحافل الفكرية التي شهدتها صنعاء، من بينها ندوة الفكر والفن والأدب التي ضمّت ما يزيد على مئة مفكر وأديب وشاعر وفنّان عربي، وهي الندوة التي انطلقت تضامنًا مع الشعب الفلسطيني في انتفاضته الثانية، وحوارات واسعة بين الشعر العربي والفرنسي والألماني والإسباني، بحضور ومشاركة عشرات من كبار المفكرين، والنقاد والشعراء العرب والأوروبيين. 

كان يبدو لي (أبو ديب) شاردًا وكتومًا، بخلاف ما تنثال به كتبه من رؤى وأفكار، لكن مشاركاته حينذاك في مجالس المقالح، ربما كانت تعني عنده أنّ ورقة (القات) التي كان يتذوق بعضها "هجرة من يشاء لما يشاء"، كما وصفها الشاعر المغربي الكبير محمد بنيس في ديوانه (ورقة البهاء).

ولا أعلم إن كانت طقوس المقيل في صنعاء قد أوحت لديه شيئًا للكتابة عن علاقته باليمن كما فعل أدونيس وبنيس وسليمان العيسى أو كما تأملها البياتي ودرويش وقاسم حداد وحتى غونتر غراس وألبرتو مورافيا وغيرهم كثيرون.

لكن اهتمامي بأستاذي ظلّ متصلًا به معرفيًّا دون اتصال شخصي معه خلال معظم السنوات العشرين الأخيرة من حياة كلٍّ منّا في مدينتين متجاورتين في بريطانيا؛ لندن حيث أقيم وأعمل في كبرى مؤسساتها الصحفية، وأكسفورد التي يقيم فيها قريبًا من مكان عمله أستاذًا محاضرًا في جامعة لندن العريقة.

قبل هذا الوقت كنت ما أزال مقتنعًا بأنّ ما هو أصعب من عدم الاستمرار في القراءة لـ(أبو ديب) هو الاستمرار في قراءته، وكذلك أجد اليوم أنه بقدر ما تتعذر الكتابة، هي الكتابة عنه.

تيار ما بعد الحداثة

ربما أسعدني الحظ بتصفح ما أعتبره واحدًا من أبدع فصول كتابه الأخير الصادر قبل أيام وعنوانه (البحث عن الحداثة وانتشار تيار "ما بعد الحداثة" الحلم والنشوة وسكرة الموت) أو (نوبة الألم المبرح) بما يعطي فكرة إضافية دقيقة عن طريقة عمل أستاذنا الكبير، وكذلك على صور لغلافي الكتاب.

في ذلك الفصل من الكتاب، الذي لا أريد أن أستبق بقراءتي المتواضعة له إطلاعَ القارئ نفسه عليه، وجدت فيه وفي ما احتوته صفحة الغلاف الأخير ما قد يكون معينًا على كتابة هذا الموضوع عن الكاتب وليس الكتاب، ففي الوقت نفسه وجدت ما يجعل الكتابة عن فكر وإبداعٍ اعتمادًا على هذين العنصرين أقرب إلى المستحيل، وذلك لسببين؛ أولهما أن مجرد قراءة فصل واحدٍ مهما كانت أهميته لا تغني عن قراءة الكتاب، مثلما أنّ قراءة كتاب واحد لا تكفي للادعاء بالقدرة على الإحاطة بكامل تجربة ناقد عالمي ومبدع كبير مثل أبو ديب، خاصة وهو يوجه إصداره الأخير بلغة إنجليزية "شكسبيرية" متقَنة إلى قارئٍ خاص في الغرب وليس إلى العموم، في مسعى يوفر للبحاثة والأكاديميين الغربيين مادةً خصبة لفهم آداب العرب.

في توطئةٍ لسبر أغوار (ما بعد الحداثة)، في كتابه الجديد، يصف أبو ديب رحلته نحو "تشكيل جمالية جديدة، وشعرية جديدة ورؤية جديدة، أو نظرة عالمية" إلى ما يكشف عن التميز في التلميحات الوليدة والمزدهرة في نص شعري أو عمل خيالي لرسم إطار لـ"شيء مختلف، مبتكر ومثير للتساؤل ومتمرد، شيء له ميل للغة وخيال طموح" من خلال "التحليل النقدي" للناتج الثقافي لبعض الكتّاب المبدعين البارزين، وكذلك البعض من جيل الشباب الصاعد على المسرح الثقافي، ممّا لا تزال الكتابة عنه- ما بعد الحداثة حتى الآن نشاطًا مقيدًا للغاية، حتى داخل الفضاء الفني، ولا تزال تفتقر إلى أي رؤية اجتماعية أو سياسية متماسكة".

‏اجتهد (أبو ديب) بطاقته الجبارة في تفجير مبادئ الشعرية العربية وتثوير الخطاب النقدي بأكمله، واستطاع عبر كتاباته التطبيقية الأولى أن يطلق ما كان كامنًا في الشعرية العربية من مخزون مكثف الإشعاع منذ أبي نواس وأبي تمام حتى أدونيس، ممّا يمكن اعتباره أهم تخصيب لهذه الشعرية، استكمله بعد ذلك في مشروعه العملاق "الرؤى المقنعة" الذي يعد بحق أهم قراءة معاصرة واستراتيجية للشعر العربي القديم.

شهادات أم قصائد وقلائد؟

ثانيهما أنَّ ما ازدان به الغلاف الأخير من شهاداتٍ لكبار مُجايلي وزملاء (أبو ديب)، تجعل من محاولة تلميذ مثلي مجاراةَ تلك الشهادات أمرًا بالغ التعقيد.

لا حاجة لمزيد من اليقين أن أذهب إلى الاستشهاد بتلك الشهادات لولا أنّ ثمة ما هو مفيدٌ حتمًا في فهم أصحابها لإبداع (أبو ديب)، وجديرٌ بما يلهم العقل ويلهب الخيال أن تجد نفسك مأخوذًا معها في فضاءٍ كبير سابحًا فيه مع (أبو ديب) بما لا حدود له أو نهايات في الاكتشاف والمعرفة.

في ثناء الدكتور محمد عبدالمطّلب ما يؤكّد أن (أبو ديب) "عبقريٌّ لا يقدّم إلّا ما يؤكّد عبقرتيه منذ أن فتح أبواب الحداثةَ الحقة في الثقافة العربية"، ولا يتردد الدكتور جابر عصفور في الاعتراف بانبهاره بإنجازات كمال أبو ديب، حيث قال أنه عندما قرأها للمرة الأولى "قرأتها للمرة الثانية والثالثة في ذلك الزمان البعيد، معجبًا كل الإعجاب بجِدة المنهج وطزاجة التناول وتجليّ قصيدة (لبيد) نفسها في ضوء جديد".

ويشير أستاذ النقد الأدبي الدكتور صلاح فضل، إلى ملمحٍ آخر في حديثه عن المشروع النقدي لمن وصفه بنجم كوكبة النقّاد الحداثيين المثير للجدل كمال أبو ديب، بقوله: "استطاع (كمال أبو ديب) أن يشكّل ظاهرة فريدة في النقد العربي المعاصر، وأن يكوّن مركبًا خاصًّا به من الأدوات والأجهزة المعرفية والنقدية، وأن يحقق مع رفاقه نقلة نوعية في مستوى الفكر النقدي ترقى به إلى العالمية عندما يقدر له أن يتخطى حاجز اللغة القومية كما فعلت بعض كتابات كمال الموسوعية التي تشكّل الآن ملمحًا متميزًا في خارطة النقد المعاصر".‏

ويضيف فضل أن (أبو ديب) "اجتهد بطاقته الجبارة في تفجير مبادئ الشعرية العربية وتثوير الخطاب النقدي بأكمله، واستطاع عبر كتاباته التطبيقية الأولى أن يطلق ما كان كامنًا في الشعرية العربية من مخزون مكثف الإشعاع منذ أبي نواس وأبي تمام حتى أدونيس، ممّا يمكن اعتباره أهم تخصيب لهذه الشعرية، استكمله بعد ذلك في مشروعه العملاق "الرؤى المقنعة" الذي يعدّ بحق أهم قراءة معاصرة واستراتيجية للشعر العربي القديم".

وتخاطب الأستاذة منى حمزة الناقد (أبو ديب) بقولها: "قرأت الثلث الأول من "الدفاع عن القرآن والإسلام ومحمد والعرب، ما بين العلم والشعوذة" وأقول إنك مفكر رائع وعالم عظيم وحكيم أوتي من الحكمة الخير الكثير. شكرًا جزيلًا على ما منحته من علم ومتعة في الاكتشاف والتدبر".

ولا يقل الدكتور عبدالعزيز المقالح عن رفاق أبي ديب انبهارًا بموهبته، حين يقول: "وما أعمال كمال إلّا تجسيدٍ راقٍ، علمي ومعرفي وجمالي، لهذا الإدراك المدعم بالذائقة والرهافة والمتابعة المتجلية في تحليل النصوص ورصد تحولاتها الجمالية الفنية... وبهذا كانت فرادة كمال بين نقاد جيله وباحثيه".

أما أدونيس فيصف بعبارة مكثفة إبداع (أبو ديب) بأنه "ثورة كوبرنيكية في علم الإيقاع العربي".

ولم يتوقف أدونيس عند ذلك، بل ظلّ يعتبر أبو ديب "واحدًا من ألمع النقاّد المعاصرين، وأوسعهم شهرة وتأثيرًا، عربيًّا وعالميًّا، في منتخبات من أروع دراساته، وأشدّها انتهاكًا، وأعظمها غورًا في اكتناه الثقافة والمجتمع والأدب، ومن أجملها احتفاءً بالمرأة وكفاحها من أجل الحرية، في ثلاثة مجلدات تستهلُّها "مراودات كمال أبو ديب"، ومسكُ ختامِها "رسائل إلى امرأة عربية" التي يكتبها "بأسلوبه الفذّ".

ثمة قراءات أخرى في تجربة أبو ديب، آثرتُ أن أنقلها هنا كما هي بالإنجليزية لا لعجز في قدرتي على الترجمة التي يعتبرها أبو أديب "جيدة"، ولكن لجعل القارئ المتمكن من الإنجليزية يستمتع بقراءة نصوصها بلغتها الأصلية؛ الأولى لكاثرين هينيسي، المحررة، في دورية عرب شكسبير، حيث تقول فيها مخاطِبةً (أبو ديب):

It was a pleasure to work with you on this publication, and I'm very pleased that you were willing to contribute such a brilliant piece of writing to the anthology.

And while I appreciate that you credit me with a willingness to do things differently, I think that the originality and the genius of the article speak for themselves! I hope some of my Italianist colleagues read it, as I'm sure they'd find it thought-provoking.

وحين كتب هشام شرابي، وهو المفكر الفلسطيني المؤرخ المدافع عن الهُوية العربية، شهادته بالإنجليزية على (أبو ديب)، كأنما أراد أن يخاطب العقل الغربي، بوصفه كمال أبو ديب، بالناقد البنيوي السوري البارز، في كتابه الرائد (جدليات الخفاء والتجلي)، الذي نظر إليه على أنّه "ثوري ومؤسس، رافض ومعارض".

وربما جاءت في ذات السياق، كلمات إدوارد سعيد، المفكر والمؤرخ الكبير في حديثه عن إسهامات أبو ديب في تلك (المناقشات) الثرية التي خاضها عبر مجلة (مواقف) البيروتية ضمن نخبة من النقاد والكتّاب الحداثيين البارزين أمثال خالدة سعيد وغالي شكري وسمير الصائغ في قضايا تتصل بهموم الشعر والحداثة، لا تقل أهمية عن تلك المماثلة في المجلات الغربية.

يرى الناقد العراقي حاتم الصكر، أنّ "جُلَّ ما قدّمه أبو ديب يهدف إلى هدم المراكز بشتى صورها خارج النص وداخله، والإفصاح عن الذات الناطقة في النص النقدي وحضورها الفاعل خلاصًا من الصوت الذي تمثّله الجماعة كسلطة، وانهيار جماليات الوحدة والحلول الانصهاري لصالح جماليات التعدد والتشظي، واكتشاف الوشائج بين الفنون، وضرورة الحرية شرطًا للكتابة. وتلك مطامح ما كان لها أن تمر دون معارضة، كونها تمثل موقفًا ضدّ التيار السائد وعكس مجراه تمامًا، رغم ما شاب تجربة أبو ديب من ارتدادات وتقاطعات، لا سيما في طور حماسته التبشيرية بالبنيوية".

وغير بعيد عن هذا السياق، ما جاء في طيفٍ آخر، أوسع، من الشهادات لشعراء ونقّاد وكتّاب عرب مهمين آخرين كبار، بدت كأنّها قصائد وقلائد في الثناء على تجربة أبو ديب وخطابه المغاير المختلف عن المألوف.

ربما يكون في التوقف هنا، في الحديث عن تجربة أبو ديب، ما يثير الاستغراب، لكني آمل أن يكون حاثًّا على مزيدٍ من الفضول في ارتياد عوالم (أبو ديب).

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English