بلد مغلِق أبوابه

حصار مطبق على اليمنيين ولا متنفس للعيش
عمار حسن
November 10, 2021

بلد مغلِق أبوابه

حصار مطبق على اليمنيين ولا متنفس للعيش
عمار حسن
November 10, 2021
Photo by: Hamza Mustafa - © Khuyut

أطبقت أطراف النزاع حصارًا متكاملًا على الناس، حتى لم تبقِ لهم متنفسًا للعيش. يلقى المضطرون إلى المغادرة خارج البلاد الكثير من المشقة، والطرق الملتفة الطويلة على اختلاف وسائل السفر القليلة النادرة، فالبلاد محاصرة داخليًّا وخارجيًّا؛ والطرقات مقطوعة، والمطارات مغلقة، ولم يتبقَ منها إلا مطار عدن، والبحار محظورة على أهلها، ثم إن الأوضاع الصحية، والأوبئة المنتشرة في العالم فاقمت الأزمة، وأتت على ما فات من قيود.

الكثير من طالبي السفر يلجؤون إليه بضرورة المرض، والبحث عن الدواء، وما إن تتداعى أسرة المريض إلى جمع المال اللازم لعلاج مريضها حتى تبرز إليهم رحلة الحصول على الجواز، والذي لم يعد متوفرًا إلا في بعض المدن الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا كعدن، وتعز، ومأرب، وربما مدينة أو مدينتين أُخريَين، على أن الحصول عليه ليس بالأمر الهين؛ فهو يحتاج أولًا إلى الكثير من المال، وقد سمعت من يتحدث بأنه دفع 100 ألف ريال، والبعض 200 ألف ريال، والبعض الآخر أقل أو أكثر، وعلى أن صدور الجواز هو الآخر قد يمتد إلى أسابيع أو ربما أشهر في بعض الأحيان.

وما إن يصدر الجواز حتى تبرز مشاكل أخرى؛ منها معاملات السفر الرسمية وما تتطلبه من رشاوى، وانتظار مواعيد الطيران -التي أضحت قليلة للغاية- ثم السفر المضني داخل البلاد، وهو سفر ما قبل المغادرة.

وبعد هذا كله -إن احتمل المريض حتى إنجاز لوازم السفر وغادر إلى وجهته، ووصل إلى طبيبه- تعود هواجس العودة ومصاعبها مع الطيران والرحلات النادرة القليلة، وبتنا نسمع بين الحين والآخر عن يمنيين عالقين في الهند، أو الأردن، أو مصر، أو غيرها من وجهات العلاج.

ثم إن التفتّ إلى جهة أخرى من المغادرين سترى المغتربين لطلب العمل والوظيفة؛ وهم الأبعد طرقًا، والأشد عوائقًا، والأبرز مشكلات، ولست بصددها كلها، فهي أكثر من أن تبسط في مقام قارئ متعجل.

يظل المغتربون على تواصل هاتفي بأهاليهم لسنوات يكابدهم الحنين إلى ذويهم وصغارهم حتى يرسمون تاريخ العودة، فتطالهم سلسلة الهموم وتضاف إليها إجراءات السفر المعقدة، والتي تُحَل أغلبها بدفع الرشاوى.

يقضي المغترب إجازته الخاطفة بعد سنين العمل، وكله همّ وتدبير لأمر العودة، وما إن تنتهي إجازته الممنوحة حتى يبرز إليه شبح العودة وسلسلة العقبات التي تضيق عليه الخناق.

كانوا أربعة؛ قريبي وخالته، وطفلتها، وطفل آخر هو ابن قريبها (مقيم في جيبوتي)، وحدثناه عمن توسط لهم عنده لأجل السفر لقاء أجرة القارب، إذ إن السفر من هناك ليس رسميًّا، وأشبه بالتهريب، فرد علينا: "إذا كان المسافرون يحملون الجواز الجيبوتي فهناك إمكانية في سفركم معي، وإلا فلا!"

ولم يعد يعبأ المغتربون بطول الطريق ومشقتها وقد اعتادوا عليه، بقدر هموم المنافذ الحدودية وعنتها الشديد، لا سيما البرية منها والبحرية، والتي نعلم جميعًا كيف يتم معاملة الإنسان اليمني فيها لأيام بين الشمس والريح والبرد دون أدنى إنسانية أو كرامة.

منافذ معطلة

لم تجد هذه المشكلة المتكررة بشكل يومي أي حلول أو اهتمام من قبل الحكومة المعترف بها دوليًّا، أو دول الجوار المسؤولة عن هذه الإجراءات، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، باعتبار أن منفذ الوديعة البري هو الأبرز والأشهر في انتهاك حقوق الإنسان اليمني.

أما المنافذ البحرية فهي أعقد وأخطر، في ظل السيطرة العسكرية الكاملة لدولة التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات على البوابة البحرية، بذريعة الحرب على الحوثيين.

أحد أقاربي مغترب في جيبوتي منذ ما يقارب ست سنوات، وما إن شده الحنين إلى والديه وإخوته وعاد إليهم في زيارة سريعة، حتى بدأ رحلة التخطيط للعودة، وهي الرحلة التي كلفته الكثير من التواصل والعلاقات مع أصدقاء ومسهلين يمنيين وآخرين جيبوتيين، ليرسموا له خطة السفر، وطرقاته الملتفة والخطرة.

اتصل بأحد أقاربه من أسرة لنا استوطنت جيبوتي منذ عقود كثيرة، وهو بدوره فعّل علاقاته مع من تربطه علاقات بأصحاب "السنابق" (القوارب الكبيرة) التي تنقل شيئًا من البضائع والأغراض ما بين اليمن من طرف وجيبوتي والصومال من طرف آخر، وضرب له موعد السفر، ولما حان موعده قررتُ صحبته إلى ساحل المغادرة وتوديعه.

تقرر موعد السفر بعصر الأربعاء 26 مايو/ أيار 2021، وكان علينا أن نقطع أكثر من 100 كيلو متر من مدينة المخا إلى منطقة السويداء، أقصى الجنوب الشرقي من مديرية ذو باب عبر طريق مليئة بالحفر الحادة والعميقة، حتى ليفضّل السائقون النزول منها والسير على خط فرعي بجوارها على أن يسلكوها، ولا تخلو مشاهد السفر من رؤية حوادث السير المتكررة في السيارات والشاحنات على طول امتداد الطريق.

 وصلنا إلى السويداء، وهي منطقة إنزال بديلة عن ميناء المخا المغلق منذ نهاية العام 2016 وإلى اليوم، وهناك وجدت ساحلًا ساحر الجمال، نظيف كما لم تمسه يد البشر، ويتزين بحصى صغيرة ملساء ناعمة حمراء اللون.

رأيت هناك أيضًا الكثير من أكوام من البصل، وأعلاف المواشي (العجور) يتم نقلها عبر القوارب الصغيرة (الفيبرات) إلى القوارب الكبيرة (السنابق) التي ترسو بعيدًا عن الساحل بمسافة تقديرية 300 متر نحو العمق، نظرًا لأن المكان غير مهيأ للإرساء لتنطلق بها نحو جيبوتي والصومال، ورأيت ثلاث سفن بضائع متوسطة على بُعد ما لا يقل عن كيلو متر واحد عن الساحل. أخبرني المتواجدون هناك بأنها تعود لتجار شهيرين في المخا.

وما إن وصلنا حتى سألنا عن صاحب (السنبوق) الذي حُدد لنا اسمه سلفًا، فأشار لنا صاحب قارب صغير (فيبر) عليه، ثم استقلينا قاربه الصغير ودخلنا إليه نحدثه عن نية قريبي ومن معه للسفر، في قاربه.

سفر أشبه بالتهريب

كانوا أربعة؛ قريبي وخالته، وطفلتها، وطفل آخر هو ابن قريبها (مقيم في جيبوتي)، وحدثناه عمن توسط لهم عنده لأجل السفر لقاء أجرة القارب، إذ إن السفر من هناك ليس رسميًّا، وأشبه بالتهريب، فرد علينا: "إذا كان المسافرون يحملون الجواز الجيبوتي فهناك إمكانية في سفركم معي، وإلا فلا!"

ومن حسن الحظ أن المسافرين (قريبي ومن معه) يحملون الجنسية الجيبوتية، وبالتالي الجواز الجيبوتي، أما الجواز اليمني وهو الأغلى ثمنًا، والأصعب إصدارًا، فلا حظوة لحامله في السفر.

انتظرنا حتى فرغ العاملون من تحميل أعلاف المواشي على (السنبوق) ومن ثم مجيء مادة الديزل التي سيتزود بها، ثم استقل المسافرون القارب الصغير (الفيبر) الذي بدوره أوغل بهم إلى العمق حيث يربض (السنبوق)، وبدأت رحلتهم مع غروب الشمس.

فيما مضى كان ميناء المخا هو مرفأ المسافرين (ذهابًا وإيابًا) بين اليمن والقرن الأفريقي على ما كان يعانيه من تهميش وإهمال، ثم توقف بعد جعله مقرًّا عسكريًّا يتبع القوات الإماراتية التي سيطرت عليه مع دخول القوات المشتركة على مدينة المخاء في يناير/ كانون الثاني 2017، ثم تسليمه لقوات طارق صالح قبل أقل من عام.

في 29 من يوليو/ تموز المنصرم 2021، أعلن إعلام طارق صالح أنه سيتم فتح الميناء لاستقبال البضائع، ولم يعنِ القرار أكثر من الاستهلاك الإعلامي الذي يراد منه إسكات الناس عن الهمهمة حول الميناء، وعودته للعمل على سابق عهده، وتم يومها استقبال سفينتين صغيرتين لا يعرف الناس حتى اللحظة محتوياتهما على وجه اليقين، ثم عاد الميناء على ما كان عليه، من الإغلاق ومصيره العسكري، لتمسي البوابة البحرية هي الأحكم إغلاقًا في وجه المواطن اليمني.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English