رئة حية لمدينة تعز

سوق "الشنيني" مستمراً في مقاومة الاندثار
ملاك الحكيمي
July 9, 2020

رئة حية لمدينة تعز

سوق "الشنيني" مستمراً في مقاومة الاندثار
ملاك الحكيمي
July 9, 2020

حين يبدأ أنفك بالتقاط رائحة التوابل والبهارات والجبن البلدي، فاعلم أنك في سوق “الشنيني” الشعبي بمدينة تعز.

“الشنيني” هو سوق قديم يمتد عمره لأكثر من أربعة قرون، حسب بعض التجار فيه، ويقع وسط المدينة، بين “باب موسى” و”الباب الكبير” و”باب المخلولة”، وجميعها أبواب تاريخية لمدينة تعز القديمة.

وفقاً لبعض الروايات، فاسم السوق جاء نسبةً إلى الشيخ محمد علي الشنيني، الذي كان رجلاً صالحاً يسكن في السوق، وكان له مسجد تعرض للهدم مع قبته في عهد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، الذي اتخذ من تعز عاصمة لحكمه، من أواخر أربعينات القرن العشرين حتى قيام ثورة سبتمبر ضد حكمه في 1962.

سوق تاريخي

يضمّ سوق الشنيني عشرات المحال التجارية وبسطات الباعة المتجولين، وتعرض فيه بضائع متنوعة، مثل الأواني الفخارية ومصنوعات يدوية أخرى، بالإضافة إلى العطارة، والحبوب والبقوليات بجميع أنواعها. في الشنيني فقط، يمكن أن يجد المتسوق أجود أنواع الجبن البلدي، وفي ركن السوق، بجوار الباب الكبير، تباع الأسماك الصغيرة المجففة التي تسمى محلياً بـ”الوَزِف”، وهما من المنتجات التي تشتهر بها تعز، إذ تحظى السلعتان بشعبية كبيرة لدى الكثيرين من سكان المحافظة ومحافظات أخرى.

يمثل السوق أهمية كبيرة بالنسبة لأهالي محافظة تعز، باعتباره معلماً سياحياً وتراثياً، إلى جانب بقاء وظيفته كسوق شعبي عبر أصعب المراحل التي مرت بها المدينة، ومنها مرحلة الحرب الدائرة حالياً من ما يقارب ست سنوات.

شيماء سليمان، ربة بيت من مرتادي سوق الشنيني، تقول لـ”خيوط”، إنها تجد أغلب احتياجاتها المنزلية في هذا السوق، وهي ترتاده لأن تجد غالبية ما تحتاجه في مكان واحد بدلاً من التنقل بين سوق وآخر، كما أن جودة المنتجات الشعبية فيه أصيلة.

غير أن أمور التسوق في “الشنيني” لا تسير دائماً بالتوافق مع القدرة الشرائية للناس، إذ لم يقتصر ارتفاع الأسعار على السلع الغذائية المستوردة، بل شمل المنتجات الشعبية والسلع المحلية. “الأسعار ترتفع بشكل مفاجئ بين فترة وأخرى، وبمجرد مقارنة بسيطة بين السعر الحالي لسلعة معينة مع سعرها قبل سنوات الحرب، سنجد أن الفارق كبير.” تقول شيماء، وتضيف أن أجواء السوق في الوقت الراهن “شبه طبيعية”، لكن حركة التسوق لم تعد مثلما كانت قبل الحرب، كما أن بعض السلع التي اعتاد التجار والباعة عرضها عادة في السوق، غير متوفرة، وذلك يرجع، بحسب شيماء، إلى تأثير الحرب والحصار على اقتصاد المحافظة بشكل عام.

الكثير من رواد السوق تستهويهم محلات المنتجات الشعبية والبسطات، لا سيما محلات الأواني الفخارية، وأدوات الحراثة، والمشغولات اليدوية، المرتبطة بتاريخ المدينة وبالإرث الثقافي لها، حيث تعرض هذه المنتجات على واجهة المحلات، بطريقة تلفت النظر وتحيل الذهن لموروث المدينة وأريافها.

كان السوق قبل الحرب مكتظاً بالناس والسياح الأجانب من مختلف الدول، الذين يأتون إليه بشكل دائم، لشراء أشياء الهدايا والتذكارات الشعبية

صمود في وجه الحرب

على باب أحد محلات السوق، يقف حمدي العمراني، منتظراً قاصدي محله، الذي يحوي أدوات حدادة، وخردوات، ومستلزمات مطاعم، وأغراض أخرى.

منذ 14 عاماً.

  افتتح حمدي محله منذ 14 سنة، وطالما عرف فترات ازدهار السوق قبل أن تبعثر الحرب سكان المدينة إلى مناطق نزوح خارجها، وقبل أن يصبح الدخول إلى المدينة والخروج منها رحلة شاقة بسبب إغلاق المنافذ الشرقية والشمالية والشمالية الغربية. ويتحدث حمدي لـ”خيوط” بحسرة، عن الزمن الذي كان يكتظ فيه السوق بالمتسوقين من سكان مدينة تعز وأريافها، والسواح من دول أوروبية عدة. “كانوا يأتون إلى هنا بشكل دائم، لشراء أشياء كثيرة، خاصة الهدايا والتذكارات الشعبية، أما حالياً فقدَ السوق حيويته وزخم منتجاته، بسبب الحصار المفروض على المناطق التي نستورد منها هذه المنتجات، إذ أصبحت بعيدة جداً، نتيجة الحصار والحرب.” يقول حمدي.

 يمارس حمدي عمله في محل الحدادة كهواية، ومهنة اكتسبها عن والده، كما أنه لا يحب التجارة في المواد الغذائية لأنها “مرتبطة بتاريخ إنتاج وانتهاء، ما يستدعي حضوراً دائماً في المحل، الأمر الذي يستهلك وقتي حتى في الأعياد والمناسبات، أما البضاعة التي أبيعها حالياً، لا خوف عليها من انتهاء صلاحيتها”.

ومع دخول الحرب عامها السادس، تراجعت القدرة الشرائية لدى الغالبية العظمى من اليمنيين، الأمر الذي دفع كثير من ملاك المحال التجارية في سوق الشنيني إلى الإغلاق، لكن تمسك حمدي وأمثاله بمصدر رزقهم، ساهم في صمود السوق واستمراره رغم كل الظروف.

وبحسب تقديرات حمدي، فقد تراجعت حركة السوق بنسبة 40% عن السابق، ويعزو ذلك إلى تأثر السوق بالحرب المستمرة وتبعاتها، بالإضافة إلى فتح أسواق في أماكن أخرى من المدينة. “لذلك نظل منتظرين موسم رمضان والأعياد بفارغ الصبر، لتنتعش حركة السوق من جديد” يضيف حمدي.

حالياً يأتي الكثير إلى “الشنيني” لشراء خلطات وأعشاب شعبية، كالهرد (الكركم) والحُمَر (التمر الهندي)، و”الحلقة” والثوم والقرنفل والقرفة والزنجبيل، والحبة السوداء (حبة البركة) و”الوزف”

إقبال على الأعشاب ومواد العطارة

بالتزامن مع تفشي جائحة كورونا، التي أصيب بها (1297) شخصاً، وتوفي (348) حتى 7 يوليو/ تموز 2020، وفقاً للجنة الطوارئالتابعة للحكومة المعترف بها دولياً، وبسبب عدم قدرة القطاع الصحي على مواجهة الوباء في المرافق الصحية، لجأ كثير من المواطنين إلى التداوي بالأعشاب والطب البديل، وهو ما جعل حركة التسوق في “الشنيني” أفضل من الفترات السابقة للوباء، خاصة في ما يتعلق بأصناف البهارات ومواد العطارة.

في هذا الصدد تحدث لـ”خيوط”، محمد الحبشي، وهو مالك محل للبهارات والعطارة، مؤكداً إقبال كثير من المتسوقين على “شراء خلطات وأعشاب شعبية، كالهرد (الكركم) والحُمَر (التمر الهندي)، والحلقة([1]) والثوم والقرنفل والقرفة والزنجبيل، والحبة السوداء “حبة البركة” و”الوزف” وغيرها”.

ويفسر الحبشي إقبال الناس علی شراء تلك الأصناف، بعدم وجود علاج مخصص لكورونا، بالإضافة إلى تدهور الحالة المادية للناس، ما يدفعهم إلى اللجوء لشراء هذه المنتجات الشعبية للتداوي بها.

ذات الإفادة تؤكدها ذكری القدسي، إحدى المتسوقات الدائمات في سوق الشنيني، كما أنها متعافية من إصابة بفيروس كورونا. تقول ذكرى: “أفادتني الأعشاب الطبية، من حوامض وزنجبيل و”علفق”([2]) وقرفة. صحيح أن مدة علاجي استغرقت فترة طويلة، لكنني تعافيت تماماً، والحمدلله، بفضل الله، وبفضل هذه الأعشاب، لأنها تعطي الجسم مناعة”.

ومع عودة الطب البديل إلى الواجهة، زاد إقبال اليمنيين على محال العطارة لشراء الأعشاب والوصفات الطبيعية، “بسبب كونها طبيعية وليس لها أضرار جانبية، ومجربة لدى اليمنيين منذ القدم، إضافة إلى أنه لا يوجد بديل لها لعلاج كورونا، لكنها تحتاج صبراً طويلاً، فمفعولها بطيء، لكنه ناجع”، تقول ذكرى.

وعلى الرغم من تراجع حركته، وارتفاع أسعار المنتجات فيه، وفقدانه لزخم الرواد الذي كان عليه في الماضي، إلا أن سوق الشنيني ما يزال يقاوم الاندثار، ويرسخ حضوره الحيوي في حياة سكان مدينة تعز.

  • تحرير “خيوط”

____________________

الصورة ل: أحمد باشا

[1] نبات شبيه بالحلص ومن الفصيلة الكرمية نفسها، مع فارق أن حجم أوراقها أصغر ومسننة الحواف، وغالباً تغلى أوراقها ثم تهرس، ويمكن استخدامها طازجة، أو يصنع منها دوائر صغيرة تجفف في الشمس، ثم تستخدم على مدار السنة كبهار عند طبخ اللحوم.

[2] نبات من الفصيلة الكرمية بأوراق سميكة حامضة، يسمى في بعض البلدان العربية “غلف”، واعتاد اليمنيون هرسها بعد الغلي، ثم خلطها باللبن الرائب أو المرق، لمعالجة الحميات وتقوية المناعة، وقد شاع استخدامها مؤخراً للوقاية من جرثومة الكوليرا.

•••
ملاك الحكيمي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English