الوجه المظلم من رمضان وعيدِ صنعاء

ملامحُ عيدٍ ثقيلٍ وصدى أحزانٍ يوميةٍ
هلال الجمرة
May 22, 2020

الوجه المظلم من رمضان وعيدِ صنعاء

ملامحُ عيدٍ ثقيلٍ وصدى أحزانٍ يوميةٍ
هلال الجمرة
May 22, 2020
رمضان وصنعاء - خيوط

   رمضان، هذا الشهر الفضيل، الذي لا يتذكر اليمنيون عادةً سوى محاسنه وما يقدمونه من مساعدة، ويغضّون النظر عما يحتضنه من مآسٍ وأحزان، يغادر سكانَ صنعاء على غفلة.

   يقطن صنعاءَ، العاصمة، يمنيون من كافة المدن والبوادي اليمنية، ويعجز أيُّ طرفٍ سياسيٍّ في صبغها طائفياً أو مناطقياً، ويؤمنون ألّا مثيلَ لها في العالم، بمفاتنها وسحرها. هذه الآسِرةُ تُخفي في جوفها أنّات مئات الآلاف من الأسَر، المكلومة على أقربائها وأحبّتها الذين غيّبتْهم الحرب بالقتل أو بالاختفاء القسري أو الاعتقال التعسفي، مئات الآلاف من الجوعى والمرضى والمحتاجين. لا تلتفت الأطرافُ المتصارعة لهؤلاء؛ مع أنهم مسؤوليتها وضحاياها، وحتى المنظمات الدولية لا تستطيع برامجها إزاحة حمل اليمنيين الثقيل.

   في شهر الصوم، تُفرِغ بيوتُ صنعاء ما بداخلها من يُسرٍ وبؤسٍ إلى الشوارع: متسوقين ومتسولين وجائعين خلال النهار والليل، ومخلّفات الموائد الرمضانية مضاعَفة. كما تصبّ نواحيها، والمحافظات القريبة، بمُتسوّقيها إلى وسط العاصمة. إنه مناسبةٌ للتسوّق والعبادة والعطاء.

   لم يتمكن الخطرُ القاتل من فرض خصوصيته أو شروطه على مجتمع صنعاء. فعلى مدى الشهر، ظلّت شوارع العاصمة مكتظةً، ليلاً ونهاراً، بأشخاصٍ بلا وسائلِ حمايةٍ؛ بينما تظل المخلّفات ملقاةً على الأرصفة، والأماكن المخصصة لها، لساعاتٍ، حتى تأتي سيارات القمامة.

   يتجمع عشرات الآلاف من المُصلّين في مساجد صنعاء، سبعَ مراتٍ في اليوم تقريباً؛ في ظل تجاهل السلطات لدعوات المواطنين بإغلاقها، تفادياً لانتشار فيروس كورونا. مع ذلك، تُسارع السلطاتُ إلى إغلاق مساجدَ في العاصمة؛ لكن بعد أن تتأكد من أنها تسببتْ في إصابة العشرات ووفاة حالات، كما حدث في أحد مساجد منطقة سَعْوان.   

   يتداول الشارع اليمني أخباراً بالعشرات حول ضحايا (محتملة) لكورونا في صنعاء؛ لكن الأغلبية من المجتمع ما يزال يتعامل مع الدعوات العالمية والمحلية، باتخاذ الإجراءات الاحترازية للوقاية من الفيروس، كمزحة.

   وزارة الصحة في حكومة صنعاء تنفي، حتى الآن، وجودَ حالاتٍ مصابة. إلّا أن اعترافها الأول بوصول الفيروس جاء بإعلان حالةِ وفاةٍ، متأثرةً بكورونا، قبل أن تعلن عن إصابتها. وبعد أسبوعين، أُعلن عن حالتين تماثلتا للشفاء، قبل أن يعرف المجتمع بخبر إصابتهما. وبين يومٍ وآخر، تُغلَق أحياءٌ بأكملها، دون معرفة ما يدور.

   القلق يحاصر سكان صنعاء، ويخشون من العدوى في أي وقت. مع ذلك، ما يزالون يخرجون للأسواق، خوفاً من الجوع، دون أن يفارقهم الخوف من كورونا. لكن الخوف من الجوع تجاوز الخوف من الوباء المستجد.

بين خطَرين: الجوع والكورونا

   مع نهاية رمضان، بدأ الصراع بين خطرَيْ الكورونا والجوع. بدأ أصحابُ المحلات وكافةُ المرعوبين من كورونا تحاشيَ، وأحياناً، مطاردةَ الأشخاص الذين يشْكُون الجوعَ على أبوابهم أو في طريقهم. إنه صراع الجوع والكورونا.

   في هذه القصص الخاطفة، حاولتُ تسجيل فلاشاتٍ من الوجه المظلم لرمضان صنعاء، والخوف من عيدها، من خلال الاستماع إلى مآسٍ بعمر الحرب.

أعمال الحرب.. وسائلُ للعيش

   اضطرّت أمّ محمد إلى الوقوف في إحدى "جولات" صنعاء المزدحمة بالسيارات، كل مساءٍ حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. تمر على طابورٍ طويلٍ من السيارات، طلباً لمساعدتها على إطعام أربعة أفواهٍ/أطفال، تركَتْهم وراءها جائعين.

   في "جولةٍ" (دوّار) أخرى، وقف طفلٌ بائسٌ ذو بشرةٍ سمراء، يحمل في يسراه سلاحاً مائياً (علبة بلاستيكيةٍ خَلَطَ بها قليلاً من الماء مع مسحوق الغسيل، وهناك آخرون يستخدمون علبة رشٍّ تشبه العُلبة التي يستخدمها الحلاق). يصوّب الماء الممزوج بالصابون على زجاج السيارات، وفي يمناه خرقةٌ بيضاءُ اسودّت من تصفية الرؤية أمام أعين السائقين. إلى جوار الطفل، تقف امرأة أربعينية تبيع محارم الوجه (مناديل)، وطفل آخر يبيع الماء البارد، وثالث يروج لفاكهة الفراولة والليمون.

عددٌ كبيرٌ من القوات القتالية، لمؤسستيْ الدفاع والأمن اليمنية، لم يرضخوا لإغراءات أطراف النزاع وشعاراتها، واختاروا الحيادَ المُضْني، فامتهنوا أعمالاً رائجةً لا تتطلب مهاراتٍ، وأشغالاً باليومية، وظل عددٌ منهم عاطلاً حتى اليوم

  خلال سنوات الحرب، ومع استمرار فقدان آلاف الأسر لعائليهم، نتيجةَ النزاع وفقدان عشرات الآلاف لأعمالهم، وانقطاع رواتب موظفي الدولة منذ 2016، وانعدام فرص الشغل، أصبحت هذه الطريقةُ عملاً سهلاً لمئات الأطفال والنساء، تساعدهم في استعطاف ما تجود به الصدفة من الرحماء.

نساءٌ يحمِلْن عبءَ الفقد والحاجة

   على مدخل أحد الأسواق المركزية للخضار بصنعاء، وقفت الطفلة ريم (اسمٌ مستعارٌ حرصاً على سلامتها) (16 عاماً)، وهي تحتضن طفلاً، وتشكو جوعهما. لم يتمكن الخِمارُ الأسود، الذي تغطي به وجهها، والطفل الذي تحمله، من إخفاء طفولتها. لكن الحقيقة صادمةٌ: "أنا أمٌّ، وطفلي جائعٌ"، هكذا لخّصت مأساتها. 

   قبل عامين، قرّر والدُها المُقْعد زواجَها على أحد الشباب، بالرغم من أنها مازالت طفلةً في سن الرابعة عشرة. درستْ حتى الصف الخامس. ونتيجةً للوضع المالي المسحوق لأسرتها، اضطرت للتوقف والبقاء في البيت. لكن الطفلة صارت، اليوم، أمّاً، بل ومسؤولةً عن إطعام طفلها البكر ذي الستة أشهر، الذي حملته معها، وغادرتْ لطلب المساعدة من المتسوّقين. 

   قبل شهرين من مخاضها، ودّعها زوجها واتجه إلى جبهة القتال ومازالت العائلة بانتظار عودته.

فئاتٌ وموظفون أدركهم البؤس

   توقفت الحكومات في اليمن عن دفع رواتب الموظفين منذ أربع سنوات: تخلّت الحكومة المعترف بها دولياً عن مسؤوليتها تجاه حياة الشعب وسلامته واستقراره، ورفضت دفعَ رواتب الموظفين الذين يقيمون في المحافظات التي سيطرت عليها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، أبرزها صنعاء.

   وتشظّت مؤسستا الدفاع والأمن، على أطراف النزع، للقتال تحت شعاراتها الطائفية والجهوية والمناطقية، مدفوعةً من مصالحها وتحالفاتها الخارجية. عددٌ كبيرٌ من القوات القتالية، لمؤسستيْ الدفاع والأمن اليمنية، لم يرضخوا لإغراءات أطراف النزاع وشعاراتها، واختاروا الحيادَ المُضْني، فامتهنوا أعمالاً رائجةً لا تتطلب مهاراتٍ، وأشغالاً باليومية، وظل عددٌ منهم عاطلاً حتى اليوم. وكثيرٌ منهم بلا مصدر دخلٍ لإعالة أسرهم.

ضائقةُ مرورٍ بلا عيد

   يضاعف رمضانُ دورَ وأهمية شرطة المرور في صنعاء، لتخفيف الاختناقات المرورية وتحسين حركة السير؛ لكنْ هل حسّن ذلك من الوضع المعيشي لشرطي المرور؟ 

   يؤدي العَرِيف أول محمود، و11 من زملائه، دور الإشارات الضوئية المتوقفة في أحد التقاطعات الكبرى، بمهارةٍ وصَبْر. يقف لمدة عشر ساعاتٍ يومياً، مستخدماً حركة يديه وأعلى مستوىً من صوته، وأحياناً يضطرّ إلى وضع كل جسده أمام السيارات، لإيقاف حركة اتجاهٍ والسماح لآخر.

   لا يتقاضى محمود، لقاء هذا الجهد المضني، سوى ما يقارب 20 ألف ريال يمني شهرياً (أي ما يعادل 33 دولاراً أمريكياً) كنصف راتبٍ، ووجبةَ عشاءٍ كأجر إضافيٍّ في رمضان.

   خلال سنوات الحرب، انخفض الدخل الشهري لمحمود أكثر من 50‎%‎، وأحيانا 100‎%‎؛ ما يجعله يلجأ "لطلب الدين"، حسب قوله. 

   ومِثْلَ تقاطعٍ رئيسيٍّ في وقت الذروة بلا شرطيّ مرورٍ، تتراكم طريقُ هذا العَرِيف بالاحتياجات الأساسية واليومية، وإيجار البيت، ومصاريف العيد، ومستلزمات النظافة والتعقيم للوقاية من كورونا، وهمومٍ أخرى لا حصر لها. خلال رمضان، حاول محمود إيجاد طرقٍ لبعض المتطلبات من كرم المحسنين. "بعض السائقين يقدِّرون ما نقوم به ونحن بلا رواتب"، قال. لكنه يرى بأن السبيل إلى الحصول على كسوةٍ "لطفلتين وزوجة، ما يزال عسيرا"، أفاد محمود.

   بالرغم من هذا المقابل الزهيد الذي لا يؤمّن نصفَ إيجار منزله، لا يزال مهدداً بفقدانه، هو و20 سنةً من الخدمة، "يهددوننا بأنه إذا تغيّب أي واحدٍ لمدة ثلاثة أشهر، سيتم فصله واستبداله بموظف آخر"، شكا متحسراً.

بالنسبة للمعتمدين على الأجر اليومي، أو من يشكون الجوع، وهم آلاف المتسولين والمحتاجين في أسواقِ وشوارعِ وبيوت صنعاء، يكشفون أن "الجوع" ما يزال يتربع قائمة المخاطر التي يواجهها المجتمع اليمني، ويخشونه أكثر من كورونا.

   محمود هو واحدٌ من مئات رجال شرطة المرور الذين دفعَتْ بهم إدارة مرور صنعاء إلى الشوارع والتقاطعات، لتنظيم حركة السير. في أوقات الذروة، يصل عددهم في بعض التقاطعات إلى 12 شرطياً. مع ذلك، لم تتحمل الإدارة أيّ مسؤوليات تضمن لهم متطلباتهم الأساسية.

   في عاصمةٍ كبيرةٍ ومزدحمةٍ، مثل صنعاء، تفتقر لبنيةٍ تحتيةٍ تراعي القواعد المرورية، والإشارات الضوئية معطلةٌ منذ سنوات، تصبح مهمةُ شرطي المرور شاقةً وشبهَ مستحيلةٍ أحياناً، وغير مُجْدية.

اختناقُ حياة صنعاء كمصدر عيش

   تختنق صنعاء بعددٍ هائلٍ من السيارات والدراجات النارية والمخالفات المرورية، تضاعفتْ جمعيها  خلال 6 سنوات.

   لكن هذا الاختناق المروري صار متنفساً لآلاف الأسر ومصدراً وحيداً لعيشها. بعد أن فقد غالبية اليمنيين مِهَنَهم ومَصادرَ دخْلهم، وانقطعتْ رواتب الموظفين، لجأ الآلافُ منهم إلى فتح مشاريعَ شخصيةٍ يعولون منها أسرهم، أبرزها شراء سياراتٍ أو باصاتٍ أو دراجاتٍ ناريةٍ، كلاً حسب إمكانياته، لتأجيرها أو العمل عليها في نقل الناس وأغراضهم.    

   جزءٌ كبيرٌ من القوات القتالية في الجيش، التي فضلت الحياد ولا تتقن سوى القتال، اشتروا دراجاتٍ ناريةً للعمل عليها كوسيلة مواصلات على غرار التاكسي.

   أحد سائقي الدراجات النارية، الذين ينتمون لهذه الفئة، قال إنه عمل مهندساً في الحرس الجمهوري لأزيَد من 20 عاماً.

   منذ 4 سنوات، صار "حراً"؛ حيث ترك المعسكر عندما اشتد صراعُ الأطراف، واستقطابها لمقاتلين يرفدون الجبهات مقابل راتبٍ شهريٍّ بالريال اليمني أو السعودي أو الدرهم الإماراتي أو القطري.

   قرر أن يبدأ حياته بنشاطٍ جديدٍ بدا له أقلّ خطراً، كونه بعيداً عن السياسة؛ "سائق دراجة نارية". يجمع عيش أسرته الصغيرة مما يجنيه من أجرٍ، مقابلَ نقل ركابٍ على عجلة من أمرهم. يدرك المهندس العسكري مدى خطورة هذه الوظيفة، وما يصاحبها من المخاطر جراء التهور وكسر كل قواعد المرور.

   قصة هذا المهندس هي واحدةٌ من آلاف القصص التي أَجبرتْ أصحابها إلى المخاطرة والعمل كسائق "مُتُور". كما أنها واحدةٌ من قصص الكفاح من أجل السلام. 

   مضى رمضان بالنسبة لهؤلاء، وهم عيّنةٌ بسيطةٌ من مآسي شعبٍ، بصعوبةٍ، وهم يسيرون في العام السادس لحربٍ سلبتْ منهم سبل العيش، في ظل تجاهل الأطراف لمسؤوليتها تجاه الموظفين والشعب بأكمله. كما رهنتْ مصيرهم على ما يجود به العالم من مساعداتٍ غذائيةٍ ودوائيةٍ، وكرامتَهم بنصف راتبٍ شهريٍّ يقدر بـ20 ألف ريال كمتوسطٍ؛ شريطة أن يسجل حضوره اليومي على بصمة الدوام.

  تحضر مآسي هذه الفئات، وعشرات الفئات المسحوقة، في هامش اهتمامات الأطراف المتحاربة، من خلال استخدامهم كورقة للاستثمار السياسي واستدرار تعاطف العالم ودعمه. وفيما يلومون الشعب باعتباره مستهتراً في ما يتعلق بالوقاية من كورونا، يتغافلون بؤسه، ويستكثرون عليه حتى "المعلومة الحقيقية حول انتشاره"، لتحذيره، كي يأخذ الخطر على محمل الجد. 

  بالنسبة لمن يعتمدون على الأجر اليومي البائس، أو يشكون الجوع، وهم آلاف المتسولين والمحتاجين الموزعين على جولاتِ (دوارات) وأسواقِ وشوارعِ وبيوت صنعاء، يكشفون أن "الجوع" ما يزال يتربع قائمة المخاطر التي يواجهها المجتمع اليمني، ويخشونه أكثر من كورونا.

   يتداول الناس يومياً أخباراً حول وفاة حالاتٍ يُشتبه بإصابتها بكورونا في أحيائهم، ومن أصحابهم وأقربائهم. يتم إبلاغ السلطات بحالاتهم؛ لكنْ نتيجةً لرفض فحص أي حالة يشتبه بها في صنعاء، باستثناء الحالات الحرجة، يموت هؤلاء بالتهاباتٍ رئويةٍ حادةٍ وأمراضٍ أخرى، عدا كورونا. هذا غيرُ دقيقٍ تماماً؛ كونهم لم يخضعوا لفحوصاتٍ، أو خضعوا لها ولم تعلنها السلطات الصحية.   

يخلق التكتمُ الرسمي، على العدد الحقيقي للحالات المصابة بفيروس كورونا في صنعاء، حالةً من القلق والاستهتار المجتمعي باتخاذ الاجراءات الوقائية. والأخطر، أن هذا ترافقَ مع رمضان، شهر الصوم والعبادة والتسوق، وضغط الحاجة. ومع اقتراب عيد الفطر، يتوجه آلافٌ من سكان المدن إلى الأرياف لقضاء إجازة العيد، مع أسرهم. مع ذلك، اكتفت السلطات في صنعاء، بإعلان من وزارة الأوقاف "يحثّ المواطنين" على عدم السفر إلى الأرياف، لكن دون تطبيق فعلي لأي إجراءاتٍ تمنع أي تسرب محتمل للفيروس إلى الأرياف؛ عَلّها تحدّ بذلك من سياسة التخبط التي تعتمدها في التعامل مع الوباء، والتطمينات التي لا تطمئن أحداً، بعدم وجود حالاتٍ، أو بأن الأعداد حول إصابة كورونا دقيقة.

________________________

الصورة ل: محمد المخلافي

•••
هلال الجمرة

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English