يعيش مئاتُ الآلاف من موظفي الدولة، في العاصمة صنعاء والمحافظات الواقعة تحت سيطرة حكومة صنعاء، وضعاً إنسانياً متردياً، منذ أن توقّفَ صرفُ رواتبهم قبل ما يقارب أربع سنوات. مع ذلك، يحدوهم الأمل إلى توصل أطراف الصراع لاتفاق يُنهي معاناتهم التي تتفاقم يوماً بعد آخر، خصوصاً مع ارتفاع الأسعار وإيجارات السكن وتكاليف المعيشة الباهظة، وانتشار جائحة كورونا في البلاد. غير أن كافة المؤشرات تفيد بأن الانقسام السياسي والمالي بين الطرفين ما يزال يتسع بشكلٍ مطّرد.
تجدر الإشارة إلى أن أكثر من مليون ومائتي ألف موظفٍ، يُشكّلون ما نسبته 22% من إجمالي القوى العاملة اليمنية، توقفت رواتبهم منذ سبتمبر/أيلول 2016؛ ما أدى إلى عجز الكثير من الموظفين عن توفير الاحتياجات الأساسية لأُسَرهم، ترتب على ذلك ترشيد أولويات الإنفاق وتغيير نمط الحياة الاستهلاكية بما يلائم الوضع المعيشي الجديد الذي وجدت الأسَرُ نفسها مجبورةً على اتّباعه؛ في محاولةٍ منها للاستمرار في الحياة. وكانت العديد من الأسر لجأت، خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى بيع مدّخراتها والاستدانة، على أمل انفراجةٍ قريبةٍ؛ لكن استمرار الحرب، وعدم وجود أي بوادر سلام، حالا دون ذلك.
أدباءُ وموظفون في صنعاء فقدوا القدرة على سداد إيجارات السكن، وانتهى بهم الأمر إلى السجون في الأقسام والنيابات والمحاكم المختلفة. آخرون اضطُروا إلى إخراج أبنائهم من المدارس والجامعات الخاصة، في محاولة لتقليل النفقات؛ لكن هناك من تشرد وعاش حياة مضنية كمآلٍ أخير.
أكثر من مأساة
سامية غالب (موظفة منذ 18 عاماً في وزارة الإعلام بصنعاء) تقول إن راتبها كان يغطي نفقات أطفالها الستة وتكاليف السكن قبل الحرب. ومنذ توقَّفَ صرف رواتب الموظفين في سبتمبر/أيلول 2016، بسبب الانقسام السياسي في البلاد، عاشت ظروفاً قاسيةً، خلال الأشهر الأولى، ما اضطرها إلى فرض حالةِ تقشفٍ قصوى، بسبب عجزها عن تسديد الإيجارات الشهرية، التي تراكمت خلال السنوات الثلاث التالية، لتبلغ 550 ألف ريال يمني (ما يقارب 1000$)، الأمر الذي دفع مالك العمارة التي تسكن فيها إلى إنذارها، أواخر العام 2019، بضرورة سداد كافة الإيجارات المتأخرة والتوقيع على عقدٍ جديدٍ رفع فيه الإيجار بنسبة 35%، أو إخلاء الشقة.
وأضافت أنها لجأت، تحت ضغوط المؤجر، إلى بيع ما تبقى من مجوهراتها التي لم يتجاوز ثَمَنُها 300 ألف ريال يمني (ما يقارب 500$)، أملاً في تفادي الإخلاء. غير أن محاولاتها فشلتْ في إقناع مالك المنزل، الذي أصر على دفع الإيجارات المتبقية والجديدة، أواخر كل شهر، بالتقسيط، كشرط للبقاء في الشقة؛ وهو ما لم تتمكن سامية من دفعه بسبب انقطاع الراتب.
قرابة 700 ألف موظفٍ بلا رواتبَ في نطاق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وكل الجهود الرامية لحلحلة هذه الأزمة باءت بالفشل، بينما تسوء أحوال الموظفين يوماً بعد آخر
لا إنصاف
لم يستجب القضاءُ في صنعاء للدعوات المطالبة بمراعاة ظروف المستأجرين، خاصةً بعد الحديث الذي دار بشأن عزم سلطة صنعاء التدخل في هذا الملف، من خلال إصدار تعميماتٍ كان آخرَها العام الماضي 2019؛ إذ استقبل سجن محكمة غرب الأمانة بصنعاء، الذي لا يزيد عن 7 أمتار طولاً و4 أمتار عرضاً، العشرات من الموظفين أسبوعياً، تم التعامل معهم من قِبل قضاة المحكمة كمتهربين من الوفاء بالتزاماتهم تجاه المؤجرين دون عذر. بل إن المحكمة أمرت بتقييد حرية الكثير منهم لأيامٍ، وأحياناً لأشهر، واشترطت، لخروجهم من السجن، سداد الإيجارات المتأخرة، وفي أحسن الأحوال، الإفراج عنهم بضماناتٍ تجاريةٍ بعد تسليمهم أكثر من 60% من تلك الإيجارات. كما اشترطت المحكمة، على موظفين سُجنوا بسبب عجزهم عن سداد ما عليهم من إيجارات، كتابة التزامٍ بـ"إخلاء العين المؤجرة بعد سداد ما عليهم من إيجارات"، دون اعتبارٍ لمصيرهم ومصير عائلاتهم، خاصةً مع استحالة الحصول على سكنٍ بديلٍ في مدينة صنعاء التي تعاني من أزمة سكنٍ خانقة.
700 ألف موظفٍ دون رواتب
وفقاً للأرقام الرسمية المتمثلة بكشوفات الموظفين للعام 2014، يبلغ إجمالي عدد الموظفين، في صنعاء والمحافظات الواقعة تحت سيطرة حكومة أنصار الله (الحوثيين)، 800 ألف موظفٍ وموظفة، مقابل 450 ألف موظفٍ يتواجدون في نطاق المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً. ووفقاً للباب الأول من الأجور والمُرتّبات في موازنة الحكومة قبل الحرب، لم تكن تتجاوز 947 مليار ريال سنوياً، بما يساوي حينذاك 4,3 مليار دولار. ومع تآكل القيمة الشرائية للعملة الوطنية بنسبة 186%، تراجعت الأجور والمرتّبات تلك إلى 1,5 مليار دولار لا تشمل قرابة 700 ألف موظف في المناطق الواقعة تحت سيطرة حكومة أنصار الله (الحوثيين).
وكانت بُذلتْ جهودٌ في هذا الصدد من قبل الأمم المتحدة ومنظماتِ مجتمعٍ مدنيٍّ، على مدار ثلاث سنوات، لحل هذه المشكلة، ترتّب عليها صرفُ رواتب العاملين في سلك القضاء والنيابات والعاملين في القطاع الصحي والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة والمتقاعدين المدنيين؛ لكن تلك الجهود لم تصمد أمام الصراع المستمر بين صنعاء وعدن، ومنع الأولى التداولَ بالطبعة الجديدة من العملة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، احتجاجاً على طباعة الحكومة المعترف بها دولياً أكثر من 1,7 تريليون ريال دون غطاءٍ نقديٍّ، حسب زعمها.
ملفٌّ متعثر
على مدار أكثر من عامين، تولى نائب المبعوث الدولي لدي اليمن، معين شريم، حلَّ ملفّ الرواتب والأجور؛ لكن بدا أنه يمسك بملفٍّ متعثر. وعلى صعيدٍ متصلٍ، ألزم "اتفاق ستوكهولم"، الموقع بين أطراف الصراع برعاية الأمم المتحدة في السويد 13 ديسمبر/كانون الأول 2018، الأطرافَ المتصارعة بسرعة التوصل لآليةٍ كفيلةٍ بإنهاء معاناة موظفي الدولة، عن طريق تحويل إيرادات الجمارك والضرائب، الخاصة بالسفن الواصلة إلى ميناء الحديدة، إلى حسابٍ خاصٍّ بفرع البنك المركزي في المدينة الساحلية؛ على أن تقوم الحكومة المعترف بها دولياً بتغطية العجز المالي في الحساب، وصرف رواتب موظفي الدولة المدنيين فقط.
ونظراً لتعثر تنفيذ الاتفاق لأكثر من عامٍ ونصف، أعلنت حكومة أنصار الله (الحوثيين)، منتصف يوليو/تموز 2019، عن فتح الحساب من طرفٍ واحدٍ، برصيدٍ شهريٍّ قدره 6 مليارات ريال، حسب الإعلان الرسمي لحكومة صنعاء؛ الأمر الذي رحبت به الأمم المتحدة واعتبرته خطوةً في طريق إنهاء معاناة موظفي الدولة وإنجاح "اتفاق ستوكهولم". غير أن تلك "الخطوة" لم تصمد طويلاً، رغم محاولات المبعوث الدولي مارتن غريفيتث الدفعَ بها نحو النجاح، فيما لا يزال الجانب الاقتصادي، وتحديداً رواتب الموظفين، في "اتفاق ستوكهولم" مثاراً للجدل بين الطرفين المتحاورين.
* تحرير "خيوط"
______________________
الصورة ل: أحمد باشا