"حَرَض" بين زمنين

من مدينةٍ لا تنام إلى مَغارةِ أشباح
أحمد عوضه
April 25, 2020

"حَرَض" بين زمنين

من مدينةٍ لا تنام إلى مَغارةِ أشباح
أحمد عوضه
April 25, 2020

   تلالٌ من السواتر الترابية تتوزع بعشوائيةٍ قُرب المداخل ونقاط التماسّ وأجزاءٍ من الخط الاسفلتي الرئيس، الذي كان ذاتَ زمنٍ لا يتوقف لحظةً من نهارٍ أو ليلٍ؛ الآن، لم يعد هناك متسعٌ إلا للمرْكبات (الأطقم) العسكرية وأشباهها، تمر بين الحين والحين بسرعةٍ خاطفةٍ، خشيةَ أن تطالَها نيرانُ الطرف الآخر مباغتة.

    في الأمام البعيد، ينبسط فضاءُ مدينةٍ مهجورةٍ تبدو كأنها تترنّح مع تموّجات البخار المتصاعد وقت الظهيرة من المسامّ المقعّرة للأرض تحت أشعة الشمس الحارقة، حيث درجة الحرارة تتخطى الـ40 درجةً مئوية.

   المشهد، بجُملته، يبدو سينمائياً في كل ساعةٍ من اليوم، والمدينة بامتدادها خاويةٌ تجنح لصمتٍ جنائزيٍّ، إلا من عويل الريح وأزيز الرصاص؛ لشوارعُ والأسواقُ مقفرةٌ من رُوّادها منذ سنوات، وأمست مجردَ ساحةٍ للزوْبعات الرملية التي تعصف بين الحين والآخر. أبواب المحلات التجارية سائبةٌ تصفِقُها الريح في اتجاهين، بينما الاستراحات والمطاعم والفنادق شاخصةٌ في الفراغ، تفصح بصمتٍ رهيب عمَّا حلَّ بالمدينة.

   لم يسبقْ، منذ اندلاع الحرب في اليمن في مارس/ آذار 2015، أن خَلَتْ مدينة يمنية -أو كادت- من السكان، كما حدث بمدينة حَرَض، المحاذية للحدود السعودية في الشمال الغربي من اليمن؛ لقد تحولتْ إلى ميدانٍ مغلقٍ للمواجهات المستعرة بين قوات الحكومة المعترف بها دولياً ومقاتلي جماعة أنصار الله (الحوثيين). وبموازاة هذه المواجهات، خُلقت مآسٍ إنسانيةٌ بالغةُ الألم والعمق، لم تنلْ حظَّها من التناول الإعلامي، رغم هَوْلها.

عن المدينة التي لا تنام

   جغرافياً، تقع حرض في الشمال الغربي من اليمن، على بُعد 6 كليومترات من الخط الحدودي الفاصل مع المملكة العربية السعودية، وتتبع إدارياً محافظةَ حجة. وهي ثاني أكبر مديرية في المحافظة بعد مديرية عبس، وتمتد على مساحة ألف كليو مترٍ مربع. يحُدّها من الشمال الأراضي السعودية، ومن الشرق والجنوب الشرقي مديريتا بكيل المير ومُسْتَبأ؛ بينما يحدها من الجنوب مديرية حَيْران، ومن الغرب مديرية ميدي الساحلية.

   حالياً، يتجاوز تعداد سكان حرض 100 ألف نسمة، بحسب إحصائية سكانية للمركز الوطني للمعلومات العام 2003. في قلب المدينة، يمارس السكان (أو كانوا يمارسون) مهناً مختلفةً تتفاوت بين التجارة والأعمال الحرة، إلى جانب بعض النشاطات الأخرى، كتأجير العقارات أو المضاربة فيها؛ بينما يمتهن سكانُ الضواحي الزراعة وتربية الماشية، حيث نمط الحياة ما يزال بدائياً إلى حدٍّ كبير، وتغيب فيه أدنى الخدمات الحكومية، شأنَها شأن بقية المناطق في السهل التهامي، رغم دورها الكبير في إنعاش الاقتصاد الوطني.

   قُبيْل الحرب، كانت حرض توصف بـ"المدينة التي لا تنام"؛ وهو وصفٌ دقيقٌ بالمعني الحرفي للكلمة، حيث تعد إحدى أهم المناطق الاستراتيجية والاقتصادية في اليمن، نظرًا لوجود منفذ "حرض"؛ أهم وأكبر المنافذ البرية التي تربط اليمن بالسعودية، والذي توقّف بسبب الحرب. لقد كان يدِرّ إيراداتٍ على خزينة الدولة، تُقدّر بعشرات المليارات سنوياً، فضلاً عن توفير فُرَص عملٍ لآلاف الأيدي العاملة وقبلةٍ للمستثمرين المحليين. 

   ورغم بُنْيتها التحتية الهشة، كانت المدينة الحدودية تشهد حراكاً اقتصادياً متسارعاً، أدى بدوره إلى ارتفاعٍ جنونيٍّ في أسعار العقارات؛ حيث وصل متوسط سعر المتر المربع الواحد، على الطريق الدولي داخل المدينة، إلى 22 مليون ريالٍ يمنيّ، وهو الأغلى على مستوى اليمن تقريباً.

خارطة ملتهبة

   ميدانياً، تسيطر جماعة أنصار الله (الحوثيين ) بالكامل على مركز المدينة وامتدادها الشرقي باتجاه مديرية بَكِيل المير؛ بينما تسيطر كتائب المنطقة العسكرية الخامسة، التابعة للحكومة المعترف بها دولياً، على أجزاءٍ من المديرية من ثلاث جهات: من الشمال باتجاه الأراضي السعودية، ومن الجهة الغربية بما يليها من مديرية مِيدي، ومن الجهة الجنوبية باتجاه مديرية حَيْران. وهي الحدود التي توقّف عندها تقدمُ القوات الحكومية منذ عام تقريباً، بعد عديد محاولات التقدم التي تعثرتْ بسبب حزام الألغام الذي يفصلها عن المناطق الخاضعة لسيطرة مقاتلي جماعة أنصار الله (الحوثيين).

زهاء 27 ألف إنسان، أُجبروا على النزوح بعيداً عن مدينتهم، حاملين ما خفّ وزنُه من يَسيرِ متاعهم، تاركين وراءهم منازلهم وتجارتهم التي ازدهرت مع الخليج، ومزارعهم ومحلاتهم ومِهنَهم وقوتَ عيالهم

   القوات الحكومية حاولت، في بادئ الأمر، السيطرة على مركز المدينة، من خلال تقدُّمٍ متزامنٍ لقوات المنطقة العسكرية الخامسة والقوات الخاصة؛ من جهة حيران (جنوباً)، ومن الشمال الشرقي، إلا أن محاولة التقدم تلك قابَلَتها مقاومةٌ مستميتةٌ من جانب جماعة أنصار الله (الحوثيين)، إضافةً إلى صعوبات التقدم في مساحاتٍ مفخخةٍ بالألغام والعبوات الناسفة.

   أمّا منفذ الطّوَال الاستراتيجي، فهو حالياً تحت سيطرة القوات السعودية ولواءٍ يسمى "لواء الفرسان"، مكوّنٍ من مقاتلين يمنيين قليلي الخبرة، ويعمل مباشرةً تحت قيادةٍ سعوديةٍ؛ مع الإشارة إلى أنه، قُبيل الهدنة التي تم إعلانها مؤخراً، كانت المعاركُ مضطرمةً بين تلك القوات الحدودية ومقاتلي جماعة أنصار الله، للسيطرة على المنفذ، حسب مصدرٍ محلي لـ"خيوط".

من مجهول الحرب إلى مجهول التشرد

   زهاء 27 ألف إنسان، أُجبروا على النزوح بعيداً عن مدينتهم، حاملين ما خفّ وزنُه من يَسيرِ متاعهم، تاركين وراءهم منازلهم وتجارتهم التي ازدهرت مع الخليج، ومزارعهم ومحلاتهم ومِهنَهم وقوتَ عيالهم. المنشآت والفنادق والمُولات التجارية بعضها قُصِفَ، وأخرى تعرضتْ للسرقة.

   البقاء في المدينة أصبح مستحيلاً، بعد أن أمستْ مسرحاً مفتوحاً للعمليات العسكرية، منذ الأشهر الأولى للحرب، حين كانت على أَشُدِّها؛ حيث الطيران لا ينفكُّ في سمائها عن التحليق والقصف، ورصْدِ كل مظهرٍ متحركٍ على الأرض، ليكون بعد ذلك هدفاً يُغدقون عليه لهيبَ القذائف.

   النازحون من هناك، مع اتساع نطاق العمليات العسكرية في المدينة ومديريات حيران ومستبأ وميدي، يعيشون في وضعٍ مقلق. معظمهم نزحَ إلى مدينة عَبْس (جنوب)، ما شكّل عبئاً مضاعفاً على أهالي عبس، كما ضاعف سعرَ بعض السلع الغذائية الأساسية أضعافاً كثيرة، بسبب الزيادة الطرديِّة لأعداد النازحين إليها؛ حيث استقبلت مدينة عبس وحدها، حتى بداية فبراير 2019، نحو 23 ألف نازح، بحسب تقديرات مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة.

  عديد هؤلاء يعيشون في مخيماتٍ عشوائيةٍ تفتقر إلى المعايير الصحية والآدمية في هامش المدينة، مثل مخيم "الرَّبُوع" ومخيم "المَحرَّق"؛ بينما انتقل الباقون صوب مدينة الحديدة وصنعاء وعدن، ومناطقَ أخرى داخل اليمن. وهناك أيضاً من ترك عائلاته وتهرَّب عبر الحدود إلى الأراضي السعودية لأجل العمل، بعد أن انقطعتْ أسبابُ العيش. 

    "لم يكن حالنا هكذا؛ كان لدي أكثر من فندق في حرض، كان دخلي وفيراً، ومجلسي كان عامراً بأنواع القات الذي يأتي طرياً من حَجُور ومناطق الشّرَفَيْن". هكذا يقول نازح وقد صار "عزيز قوم...".

   في صنعاء، التقت "خيوط" بعضاً من النازحين؛ إذ يعاني جُلُّهم من نقص الغذاء، وضراوة البرد شتاءً، وعدم توفر السكن اللائق.

  "عيسى ملْهِي"، خمسيني، بجسدٍ ممتلئٍ ومترهّلٍ، وبوجهٍ حمصتْه الشمس، يلفّ وسطه بمئزرٍ تهاميٍّ (مَعْوَز)، وقميصٍ مهلهلٍ يُظهر الجانب الأسفل من بطنه. يسكن عيسى مع عائلته المكونة من 8 أفراد -بما فيهم أخته وأبناؤها الثلاثة- في ناصية أحد الأحياء الفرعية، قرب منطقة الحصَبة بالعاصمة صنعاء. الأسرتان محشورتان داخل دكانٍ يشبه القَبْو، تتدلى من أحد مصراعي بابه ستارةٌ قماشيةٌ تنسدل حتى الحافة السفلية للباب. 

   يقول عيسى لـ"خيوط": "لم يكن حالنا هكذا؛ كان لدي أكثر من فندق في حرض، كان دخلي وفيراً، ومجلسي كان عامراً بأنواع القات الذي يأتي طرياً من حَجُور ومناطق الشّرَفَيْن". لقد كان يمارس حياته بترفٍ وإسرافٍ، كما قال، ولم يتخيل يوماً أن يتحول حاله إلى ما هو عليه الآن. "مرّت علينا خمسُ سنوات، إحداها قضيناها في عبس، وأربع سنوات هنا في صنعاء.. لا مغيث لنا إلا الله ..." يؤكد النازح الذي صار "عزيز قوم".

   يردف موضحًا أنه اضطر لإعالة أسرة أخته "بعد أن تركها زوجها وسافر إلى روسيا. "أصبح لا يرغب في التواصل حتى ليطمئن على أطفاله أو يرسل لهم بنفقتهم على الأقل. ذلك العابث تزوّجَها من أجل المال، وحين أصبحنا فقراء تخلى عنها." يقول عيسى.

   جميع النازحين هنا يتشاركون المعاناة ذاتها؛ "عاصم مُحب" (40 سنة) لم يستطع أن يكبح دموعه، وهو يحكي لـ"خيوط" تفاصيل نفاده بحياته وأسرته إلى صنعاء، ليجد نفسه بلا مأوى، إلا من غرفةٍ واحدةٍ. يعيشون تحت سقف هذه الغرفة التي لا يتجاوز اتساعها عشرة أمتار، بلا طلاءٍ ولا نافذةٍ، ويدفع مقابل استئجارها 10 آلاف ريال شهرياً. يقول عاصم إنه، منذ جاء إلى صنعاء، يعيشُ وعيالُه موتاً بطيئاً تحت ضغط الحاجة؛ إذْ لا عملَ لديه ولا دخلَ إلا ما جادتْ به أكفُّ المحسنين، أو ما تقدمه بعض المنظمات الإغاثية من مساعدات في أوقات متباعدة.

   غيرَ بعيدٍ، يسكن (ر. ع)، شابٌّ في الثامنة والثلاثين من عمره، هزيل البنية، بلحيةٍ خفيفةٍ وعينين تومضان تفاؤلاَ، رغم الظروف الصعبة التي يعيشها. هو الآخر، أحد الضحايا الذين شردتهم الحرب من مدينة حرض، وهو رب أسرةٍ وأبٌ لثلاثة أبناء، أكبرهم في الثانية عشرة. يعمل الابن مع والده في بيع الخضروات بمحلٍّ ضيّقٍ لا يتجاوز المِترَيْن، يفصله لوحان خشبيان عن باقي المساحة الداخلية للمحل الذي يتخذونه مكاناً للسكن.

   بحسب (ر. ع)، لم يسبقْ أن تلقى معونةً إغاثيةً منذ أن انتقل إلى هنا، قبل سنة وثمانية أشهر، إنما يعيل أسرته مما يجنيه من محلِّه الصغير، قائلا بكبرياء: "أكسب رزقي من مُلوحة عَرَقي. لا أتسوّل أحداً، ولا أريد الشفقة من أحد. الدخل قليل، نعم، لكنه يكفينا لنعيش. لا بد أن فرج الله قريب". 

   وإلى حين يأتي ذلك الفرج، تظل مدينة حرض طعاماً للقذائف وميداناً لحربٍ ما تزال نهايتها بلا أفقٍ، بينما يظل النازحون منها -بعد خمس سنوات من الحرب- طوّافين في البلاد من مجهول الحرب إلى مجهول التشرد. 

•••
أحمد عوضه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English